الاختلاط بين محكم الوحي ومتشابهه
الوحي كما أخبر الله؛ فيه النص المحكم الذي يجب التزامه، والنص المتشابه الذي يلزم رده إلى المحكم، فإذا غاب عن الباحث قاعدة المحكم والمتشابه فلن يتميز له المراد الإلهي، وسيبقى متردداً متذبذباً يقفز مع كل أطروحة، ويربكه كل اعتراض.
(1) ليكن واضحاً من البداية أن الحديث هنا ليس عن اختلاطٍ عفويٍ عارضٍ كالاختلاط في السوق والطرقات فإنه لا خلاف أصلاً في حكم هذه المسألة، وإنما الكلام في الاختلاط المقنن الممنهج كالاختلاط الواقع في قاعات الدراسة ودوائر العمل، وهو مما لا خلاف في حكمه أيضاً.
(2) لست أشك بأن مسألة الاختلاط من المسائل الجلية الظاهرة التي لا لبس فيها على من سلم من داء الجهل وداء الهوى. ولولا كثرة الملبسين فيها من أهل الريب بالباطل لما تردد في حكمها عامة الناس فضلاً عن خاصتهم.
في ظني أن من أهم القواعد الشرعية المحكمة التي ينبغي الاستمساك بها والصدور عنها مثل هذا الموضوع تلك القاعدة القرآنية العظيمة التي بينها الله تعالى في قوله: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران:7].
فمن تأمل هذه الآية وما تضمنته من منهجية علمية قرآنية في التعاطي مع نصوص الوحي فستنزاح عنه أثقال الشبهات وتتطاير هباءً منثوراً، ومن غفل عنها أو تغافل فسيظل مضطرباً حائراً أمام سيل الشبهات والإشكالات والانحرافات.
الوحي كما أخبر الله؛ فيه النص المحكم الذي يجب التزامه، والنص المتشابه الذي يلزم رده إلى المحكم، فإذا غاب عن الباحث قاعدة المحكم والمتشابه فلن يتميز له المراد الإلهي، وسيبقى متردداً متذبذباً يقفز مع كل أطروحة، ويربكه كل اعتراض.
واستحضار هذا المدخل -هو في ظني- ضروريٌ لمعرفة المنهجية الشرعية الصحيحة في التعامل مع ما يتصل بالقضية المطروحة بين أيدينا –أعني حكم الاختلاط- بمعرفة محكمات هذا الباب ومتشابهاته، والتعامل مع كلٍّ وفق قاعدة الشريعة في المحكم والمتشابه.
لا يخفى على كل دارسٍ لنصوص الوحي ومقاصد الشريعة أن دين الإسلام جاء بـالتحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين، وأنه يؤسس لتصور يراد منه حفظ عفاف المجتمع ونقاؤه وطهارته بتشريع ما يشيعه في المجتمع ويحفظه، وتحريم ما يفضي إلى إضعافه أو إزالته، وتأمل في مسرد التشريعات التالي تعلم صدق ذلك:
وجوب ضرب الخُمر على الجيوب وإدناء الجلابيب، حرمة إبداء الزينة للأجانب، النهي عن الضرب بالأرجل حتى لا تعلم الزينة، سؤال المتاع من وراء حجاب، منع الخضوع بالقول، القرار في البيوت، تحريم التبرج، ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، منع الخلوة بالأجنبية، تحريم وصف المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي، التحذير من الدخول على النساء، وقوله: الحمو الموت، منع التعطر في الطريق، بيان أن المرأة عورة وذكر استشراف الشيطان لها إذا خرجت، تحريم الزنا وكل ما أفضى إليه الوسائل والأسباب، الأمر بحفظ الفروج، تحريم مس الأجنبية، وقوله: لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له، تحريم السفر إلا مع ذي محرم، وجوب غض البصر، بيان حكم نظر الفجأة، تحريم الملابس الشفافة والضيقة المجسمة، تطويل ذيول النساء الطواف من وراء الرجال... إلخ إلخ.
ثم إذا قربت عدستك من التشريعات المماسة لمسألة الاختلاط مباشرةً، فستجدها منسجمة تماماً مع تلك التشريعات ومؤسسة لذات خطاب التحفظ والاحتياط في علاقات الجنسين بما يحدث في نفس الباحث أن ذاك الاختلاط المقنن هو من قبيل الحرام الذي لا ينبغي الاختلاف في حكمه.
تأمل مثلاً في تلك التشريعات المتصلة بخروج المرأة للصلاة في المسجد، وتفكر في جملة الاحتياطات التي سنها الشارع في هذا الباب، لتعلم حرص الشارع على منع الاختلاط المحرم وسد ذرائع تطبيع العلاقة بين الجنسين.
الشريعة أسقطت عن المرأة واجب الحضور لصلاة الجماعة في المسجد، وجعلت صلاتها في بيتها خيراً لها من صلاتها في المسجد. قال صلى الله عليه وسلم: «النبي صلى الله عليه وسلم: « » وقال: « »، فإذا أرادت دخول المسجد فلها باب يخصها لا يدخل منه الرجال. قال صلى الله عليه وسلم: « ». فإذا استقرت في المسجد كان محل صلاتها خلف الرجال، وكلما تأخرت عنهم فهو خيرٌ لها. قال صلى الله عليه وسلم: « ». فإذا انتهت الصلاة مكث الرجال مدةً حتى ينصرف النساء عن أم سلمة قالت: "كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم، قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم", قال: نُرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال فإذا كانوا في الطريق مع الرجال فليس لهن أن يزاحمن الرجال ويختلطن بل لهن حافات الطريق. عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه "أنه سمع صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق؛ فقال صلى الله عليه وسلم للنساء: « »، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به".
». فإذا خرجت حرم عليها مس الطيب والتعطر ولبس ما تتزين به. قالولا يغيبن عن ذهنك وأنت تقرأ مثل هذه الاحتياطات التشريعية أنها جاءت في حق أشرف الناس بعد الأنبياء، وفي الطريق العابر، وفي الوقت القصير، وفي وضح النهار، مع وجود الحجاب، حالة الخروج من أطهر البقاع، بعد أشرف العبادات العملية، فمن باب أولى أن يمنع في أماكن المكث الطويل في أزمان الريب، والبعد عن الحجاب، وضعف الإيمان.
وبالله عليك حين يقرأ المسلم المتجرد الباحث عن الحق كل هذه المنظومة المتماسكة من التشريعات التي تستهدف سدَّ كل الطرق المفضية لتطبيع العلاقات بين الجنسين، فهل يشك أن من مقاصد الشريعة التي يريدها الله ويحبها التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين؟! وأن اختلاط الرجل بالمرأة في دوائر العمل بالساعات الطوال من الأمر المحرم في دين الإسلام.
والذي أريد أن أفهمه: كيف يستقيم لشخص أن يُحرِّم خلوة الرجل بالأجنبية ولو مرةً واحدةً لدقائق معدودة مع تقدير انشغاله عنها وهي محتشمة متحفظة لورود النص المحرم ولانعقاد الإجماع على تحريم الخلوة، كيف يستقيم لهذا أن يبيح الاختلاط بين الجنسين الساعات الطوال على مدى أيامٍ وسنواتٍ في دوائر العمل وقاعات الدراسة، فأي الأمرين أولى بالتحريم في قياس الشريعة، وأيهما أعظم مظنةً لوقوع المحذور. ومن المعلوم ما تفضي إليه مثل هذه المخالطة المطولة من رفع للكلفة وإزالة للحرج، فلو قُدّر أن هذا وهذه تحفظا في بداية اختلاطهما فإن مآل هذا التواصل الطويل غالباً ارتفاع مثل هذا التحفظ وهذه الكلفة وتلكم الحساسية، والبدء بعلاقة يسودها ما يسود العلاقات من عفويةٍ وضحكةٍ ونكتةٍ ودعابةٍ وغير ذلك، ليتطور الأمر إلى ما ورائه، والواقع شاهدٌ، والصور حواضر، وفتش في عالم اليوتيوب وفضاء الإنترنت تعلم حجم الخلل وواقع الإشكال.
وليت شعري هل يصح أن تترك مثل هذه المحكمات في تحريم الاختلاط المقنن ويتعلل مثلاً بكون المرأة كانت تساعد في الحروب، أو أنهن يختلطن في المطاف، أو أنهن يبعن ويشترين في السوق، أو أنهن كن يستفتين النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة الرجال، أو أن النبي كان يأتيهن ونحو ذلك من النصوص المجملة المحتملة، بل والخارجة عن سياق مسألتنا أصلاً.
ولنراجع السيرة العملية التي عاشها الصحابة في العهد النبوي حتى ننتزع بقية هذا الإشكال من أساسه، هل كان النساء يخالطن الصحابة في المجالس والملتقيات؟! وهل كن يتزاحمن على النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال كل يطلب قربه والتواصل معه؟! وهل كانت الواحدة منهن تجلس بجانب الرجل لا تجد في ذلك غضاضةً ولا حرجاً؟! أم أنه كان للنساء مجالس وللرجال مجالس، وأن مثل هذا الاختلاط المقنن لم يكن له وجود ولا حضور عند الصدر الأول. ووالله لو كان الأمر أمر اختلاطٍ ظاهرٍ لكان في شهرته وانتشاره ما يغني عن الاستدلال له بأن امرأة جاءت تستفي النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على امرأةٍ مرةً ونحو ذلك. فإن مثل هذا لو كان لكان من الكثرة والشهرة ما يغني صاحبه عناء تتبع أفراد أدلته وجزئياته.
ثم تدبر الحديث التالي، والذي يبين طبيعة مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يقع في زمانه من الفصل بين الجنسين:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: "غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: «البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم".
». فقالت امرأة : واثنين؟ فقال: « »." وقد بوب الإمامفلو كان الاختلاط جائزاً، وكان هو الأصل لكان حال النساء في الأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله كحال الرجال، فلم يكن هناك غالبٌ ومغلوبٌ، ولقيل لهن: تعالين وساوين الرجال في مكانكن من النبي صلى الله عليه وسلم، أو اجلسن بين ظهراني الرجال، أو تقدمن عليهم. ولا شك أن هذا يتضمن توفيراً للوقت وللجهد، قائد الأمة صلى الله عليه وسلم بأمس الحاجة إليه.
والمقصود أن القدح في مثل هذه المحكمات الشرعية بمثل هذه الاحتمالات غير صحيح ولا جائز، ومثل هذا المتلاعب بهذه المحكمات لن يعجزه أن يستحل جمهور المسكرات المعاصرة (باعتبارها خمراً من غير العنب)، وجمهور الربويات المعاصرة (باعتبارها أوراق نقدية لا ذهب وفضة)، وسائر العلاقات غير المشروعة بين الجنسين (باعتبارها نكاح متعة يشترط فيه فقط تراضي الطرفين، ولا يشترط ولي ولا شهود ولا مهر) إلخ إلخ من محرمات الإسلام، وسيجد من المشتبهات نظير ما وجد في مسألتنا هذه، بل أكثر من ذلك. فمن أهدر قاعدة المحكم والمتشابه فلن يجد مشكلة في تخريج ما شاء من آحاد الأحكام الشرعية وفق هواه، وهذه إشكالية جوهرية في التدين تتسلسل بالشخص إلى الانحلال عن ربقة التكليف، التي هي أساس التشريع، فإن مبنى الشريعة إنما جاء لإخراج العبد عن داعية هواه ليكون عبداً لله.
ومن المثير للدهشة فعلاً أن أصحاب هذا المسلك في التعاطي مع مسألة الاختلاط واقعون في فخ المراوحة بين النصوصية والمقاصدية بحسب ما تمليه الرغبات. فإذا كانت مقاصد الشريعة تخدم أهواءهم في قضية ما تحولوا شاطبيين وطوفيين حتى النخاع. وإذا كان الوقوف على ظاهر النص في قضية أخرى هو الذي يخدم أهواءهم؛ تحولوا بقدرة قادر إلى حزميين بل أكثر من ابن حزم ذاته!
واعتبر بحالهم في مسألتنا، فحين تسرد عليهم تلك النصوص الشرعية الجزئية الدالة على التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين وما يحدثه ذلك من معرفة بمقصد الشريعة في هذا الباب، فإن ذلك يتبخر في طرفة عينٍ تحت ضغط السؤال أين النص على كلمة الاختلاط في النص المحرم، وإذا قُدّر وباحثك ذات الشخص في مسائل أخر فاستدللت عليه بنص الشريعة حدثك عن ضرورة النظرة المقاصدية وأن كليات الشريعة مهيمنة على فروعها وجزئياتها، فساعة ظاهري وساعة مقاصدي بحسب الأهواء، أسأل الله أن يعيذنا من الفتن والأهواء، والله يرعاكم
تنبيه مهم:
هذا المقال مستفادٌ بحرفه ومعناه من مجموع مقالاتٍ كتبت في هذا الشأن، مع فوائد وزوائد، أهم هذه المقالات:
1. (الاختلاط هم ووهم) للشيخ فهد العجلان.
2. درس عملي في المحكم والمتشابه الاختلاط أنموذجاً للشيخ منصور العيدي.
3. تعليق حول كتاب أبي شقة تحرير المرأة في عصر الرسالة للشيخ إبراهيم السكران.
عبدالله بن صالح العجيري
Med Mrani
منذ