عنفوان الانقلاب

منذ 2014-03-29

انقلاب علّمني أنَّ الدنيا معنى ومغزى ومعبر إلى الحقيقة الخالدة، وأن هذا المعنى لا تحدده أنتَ بل يهيئه لك الرب تعالى متى شاء وكيفما شاء وبما شاء.

وكم من ميِّت لم يرالموت إلا مرَّة واحدة؟!
وكم من حيّ رآه أكثر من مرَّة؟!

أسلاكٌ شائكةٌ ضعيفةٌ واهية، جسور متوالية دونها الهاوية، بيني وبينها العديد من القصص!
قصص الوفاء والغدر، قصص الحب والرَّهبة.

اليتمة [1] كان المكان الأسوأ، مكانًا لن أنساه ما حييت!
كلما مرَّ عليه روحي بات يناجيه يزفر بقصتي الأولى التي تقربني من ثنائية الحياة التي لا وسطية فيها، فلا أرى في "اليتمة" أكثر من شيئين حق وباطل، خير وشر، وكأنها سكين على سالفة التلون والميل، تريني معنى القوة حيث لا قسوة سوى قسوة حقيقتي.

مكان يكشف لي عن  عنفوان الدنيا في خيانتها، ورحمة الأقدار وسلاستها.
تريني أكف الحكمة والرحمة حين تشفق على روح هي أضعف من البلاء فتعفوا وتصفح.

وحتى الضعف الذي كان يبدو لي في براءته محتاطًا من شبهات الركون؛ حتى الضعف أراه موسومًا بالخيانة وحب الدنيا.

العديد من المعاني تنهار، والعديد منها تُبنى في لحظة واحدة حين تذكر حقيقة موتٍ، وقصة نجاة.

"اليتمة" كيف أشكوها وأنا أحمد شهامتها حتى أسلاكها القاسية المستطالة استطالة عمري،
كانت حانية قبل أن تقفز سيارتنا من فوقها إلى الحارة المعاكسة؟!
حتى الردة التي اطاحت بنا وبت بعدها اتحسس حجابي على وجهي، أطفالي، وليدتي الرضيعة، زوجي وأشيائي، جزءًا جزءًا.
ونحن لا نصدق أننا خرجنا من هذه الكارثة بلا دماء ولا حتى كدمات تُذْكَر، رغم أن معدن السيارة لم يتبق منه سوى صفائح انحنت تحت قهر الونش الثقيل مستسلمة.

"اليتمة" كيف أشكوها وأنا أرى فيها رحمات السماء تنَزَّل؟!
الطريق توقف، انتصف بين طامح في بذل الخير شهم السريرة جيّاش العطاء، وبين طامع متلصص النظرة كصقر أجيف، خسته لا تميزها عن جرذ رمادي.

في عنفوان الانقلاب، مرة والثانية ولربما الثالثة حتى تستقر السيارة بك حيث أرادت، تمامًا في منتصف الطريق المعاكس، تتبدى لك الحياة كما هي، تختصر لك في لحظات كل ما عجزت عن فهمه في تاريخك ومنذ مولدك وحتى اللحظة.
تقتحم مشاعرك مفاهيم تكاسلت عن فهمها، أو ربما أخَّرتها، تحاول أن تتدارك توبة سريعة عما اقترفته بفهم تام عاجل لكل الحقائق.
تحاول أن تستدر الإخلاص، أن تتوسل إلى الصدق، أن تستحث التقوى علَّ أحدًا منهم يكون لك شفيعًا عند ربك.

في لحظات الإنقلاب يُختصر علمك وعملك شهودك وسهوك في تلفظ "شهادة التوحيد" وكأنها أمر جلل وأكبر من أن يُحكى وأعجز من أن يوصف، كأنها ذرة مكثفة حملت في جوفها كل أفلاك الكون العظيم.
هي في حقيقتها شهادةً منك على سيادة ربك المهيمن على جميع تفاصيلك المادية والروحية، المدبر لأنفاسك، الخالق لحوادثك، اللطيف بقلبك، العليم بسرّك وجهرك، شهادة عبودية وإقرار ومحبة وخوف ورجاء، شهادة توكل واحتساب ورضى وسعي وعمل، شهادة تحكي الرحمة والفضل والمنة على كل من أدركها في نهاية خدمته لتلك الدنيا الصاغرة.

انقلاب زفّ إلىَّ الرحمات تترى رغم قسوة مشهده، علمني أن النجاة لم ترتسم على نفشات المظاهر بل إنها محفورة في بواطن الأمور ولطائف الأقدار، علمني أنَّ السكينة ليست في مكان ولا ممتلك ولا أي عالق من عوالق الدنيا، بل قد يكون كامنًا في زلزلة القلوب ذاتها، في تمحيصها في قربها من الحقيقة حيث تتصافى الأرواح وتستخلص العبر.

انقلاب علّمني أن الدنيا معنى ومغزى ومعبر إلى الحقيقة الخالدة، وأنَّ هذا المعنى لا تحدده أنتَ بل يهيئه لك الرب تعالى متى شاء وكيفما شاء وبما شاء.

لم تكن قصتي مذ سنوات سوى جلاء لقلبي كجلاء حاج خرج من حجته كيوم ولدته أمه.
غيوم السماء التي تفتحت بها أبواب الجنة صبيحة ذاك اليوم وقبيل الظعن بساعة واحدة في يوم مطير على طيبة الطيِّبة، جعلني أخر ساجدة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن بيني وبين تلك السجدة شوق السنين، وكأنني لا أريد ترك تلك البقعة، وكأن ضوءها اللامرئي يجذبني رأسًا لأنهمر في الدعاء والتوبة .

ويالها من لحظات تمنيتُ لو تعود لي تمنيت لو يعود ذاك القلب كما في هذا اليوم، تمامًا كما تمنيتُ اللقيا فيه، دعوات لم أكن أعلم لماذا ولا كيف جرت على لساني لكن شعور وإرهاصات جعلتني اتيقن من شيئ ما كتمته عن أسرتي وتوكلت على ربي.


طريق المدينة بمخاوفه ووحشتة وظلمته المنيرة، وغموضه الساكن وجبينه السافر وسكونه الآسر، وشاطئيه المجهولين، وأسراب طيور تتمنى ان تودعك كما تودعها أنت، يذكرك بأنفاث المهاجرين وكأن ذراتهم لا تزال محفورة في صفحة الكون.
وكأن أثير كلماتهم لم تزل عالقةً هناك تهمس في آذان الزائرين لتلك الجبال القاسية مفاخر أولئك الشجعان.
وكلما مرت دقيقة دقّ في قلبك معنى مختلف عن كفاحهم كيف كانوا هناك، كيف اجتازوا تلك الدنيا المختصرة في ذاك الطريق الموحش، بهجرتهم الى الله ورسوله، وتلكم الرمال المستعرة بمفازة من عذاب؟!
كيف حفرت أقدامهم تلك الصخور فألانتها إيمانًا وتسليمًا؟
كيف شقت قلوبهم هذا الظلام المُغير فأحالته نورًا مبينًا؟
كيف غلبت أمنياتهم وحشة الطريق فملئته سكينةً وخشوعًا؟

في تلك الموحشات الوعرات الموغلات في سرائر الصحراء، وكأنها تستدعي بطون القبائل لتشهد المواقف الرهيبة والثبات المُهاب من أولئك الآل والأصحاب!


إنك رغم كل ما بك من وهنٍ؛ وغربة، قد لا تجد المُعين، قد تستوحش طول الطريق، لكنك تظلُّ قويًا بشعارهم، بدثارهم المنزَّل على وحي قلبك، بذكرياتهم تلك التي تملأ ذاكرتك حبًا وإعزازًا وتوقيرًا لجهادهم، بمفازتهم وإرادتهم بتقواهم وصدقهم، ذاك وحده الذي يمنحك شربة إخلاص لا تظمأ بعدها أبدًا، ويغرقك بماء اليقين، وقوة الدفع التي تجعلك أكثر قدرة على الاستمرار وأقوى عزيمة على التغيير.

رحاب حسّان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] اليتمة مكان على طريق (المدينة - مكة).

المصدر: فريق عمل طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 3,826

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً