صفحات مطوية

منذ 2014-04-01

أحبتي في الله؛ لقاؤنا الليلة معكم يتجدد بعد زمن في هذه الكلمات القلائل المُعَنْوَنِ لها كما رأيتم وسمعتم بصفحات مطويّة، أودعتها طرفًا من حياة بعض العلماء الأفذاذ، ونتفًا من حرص طلاّب العلم على العلمِ، ونادرًا من ثبات أكثر أهل الملة، ونبذًا من نصح الأمة لدينها، وشذرًا من زهد العلية الأجِلَّة، وطيفًا من قوة البرهان والحجة مع السير على المحجة.

الحمدُ لله، الحمدُ لله قدم من شاء بفضله، وآخر من شاء بعدله، لا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، هو الكريم الوهاب، هازم الأحزاب، ومنشيء السحاب، ومُنزل الكتاب، ومسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب، الواحد الأحد، العزيز الماجد، المتفّرد بالتوحيد والتمجيد، ليس له مثل ولا نديد، هو المبديء المعيد، الفعّال لما يريد، جلّ عن اتخاذ الصاحبة والولد، ولم يكن له كفوًا أحد، لم يزل حكيمًا قديرًا عليمًا خبيرًا، سبق الأشياء علمه، ونفذت فيها إرادته، ولا يعزب عنه مثقال ذرةٍ سبحانه وبحمده، لم يلحقه في خلق شيء مما خلق كلال ولا تعب، وما مسّه لغوب ولا نصب، خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته، وذللها بعزته، فذلّت له الرقاب، وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب، وقامت بكلمته السماوات السبع والأرض المهاد، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب، وقامت البحار، وهو الله الواحد القهار، مغشي الليل النهار، خضع لعظمته المتعززون المتكبرون، وخشع له المترفعون، واستكان لربوبيته المتعظمون، ودان طوعًا وكرًها له الخلق أجمعون، نحمده على حَزَن الأمر وسهله، ونحمده كما حمد نفسه وكما حمده الحامدون من جميع خلقه، ونستعينه استعانة من فوَّض أمره إليه، وأقر أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، نستغفره استغفار مقرٍّ بذنبه، معترف بخطيئته، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. شهادة عبده، وابن عبده، وابن أَمَته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته؛ إقرارًا بوحدانيته، وإخلاصَا لربوبيته، فهو العالم بما تبطنه الضمائر، وما تنطوي عليه السرائر، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيءٍ عنده بمقدار، لا يوارى عنه كلمة، ولا يغيب عنه غائبة.

{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} نشهد أن محمدًا عبده ونبيه ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، بلّغ عن الله رسالاته، ونصح له في بَريِّاته، وجاهد في الله حق الجهاد، وقاتل أهل البغي والزيغ والعناد والفساد؛ حتى تمت كلمة الله، وقطع دابر الفساد، صلوات الله عليه وسلامه من قائد إلى الهدى وعلى آل بيته الطاهرين، وعلى أصحابه المنتخبين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، ومن سار على نهجهم واقتدى بهديهم من الفقهاء والزُّهاد والدعاة العاملين المشمرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا آمين آمين. لا أرضى بواحدة حتى أبلغها مليون آمين، أما بعد:

أحبتي في الله؛ لقاؤنا الليلة معكم يتجدد بعد زمن في هذه الكلمات القلائل المُعَنْوَنِ لها كما رأيتم وسمعتم بصفحات مطويّة، أودعتها طرفًا من حياة بعض العلماء الأفذاذ، ونتفًا من حرص طلاّب العلم على العلمِ، ونادرًا من ثبات أكثر أهل الملة، ونبذًا من نصح الأمة لدينها، وشذرًا من زهد العلية الأجِلَّة، وطيفًا من قوة البرهان والحجة مع السير على المحجة.

هي باقة من مكارم الآباء تُهدى إلى الأبناء، وطاقات علمية نادرة، وعبقريات فذّة مدهشة، هي لأهل العلم تذكرة، وللعامة والخاصة تبصرة، نرجو أن ينعش بها العليل، ويشحذ بها الكليل، ويُبعث الوسنان، ويُوقظ الهاجع، ويُنشر المطوي، ويُفتح المغلق، وينهض المقعد، ويمشي الكسيح.

أضعها بين أيديكم كالمائدة تختلف عليها أصناف الأطعمة لاختلاف شهوات الآكلين، وأنا لا أدعي -معاذ الله- أني أتيت فيها بجديد، ولا أدعي أني أتيت بخفي أو دقيق، فهي أشهر من أن تذكر، ما أظن أحدًا منكم إلا وقد سمعها.

جمعتها من كتب السير والتراجم، مجتهداً فقط باختيار اللفظ المناسب للموقف؛ فجاءت مشكلة المباني، مختلفة المعاني، راجيًا أن تنبع من بين الجوانح لتصل إلى الجوانح، وتظهر على الجوارح، فإذا مر بك يا أخي ما لا يُعجبك فلا تصعِّر خدك، ولا تعرض بوجهك، ولا تسُلّ لسَانَكَ، ولا تجلب بخيلك وَرَجِلَك، وخذ من المائدة ما يعجبك واتهم فهمك.

فكَمْ مِنْ عائبٍ قوْلاً صَحِيحًا *** وآفَتُهُ منَ الفَهْمِ السَّقِيمِ


ولا يَصُدنّك عن الحكمة قائلها؛ فقد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرميّة من غير الرامي، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفْقَهُ.


اعْمَلْ بعلمِي وغُضِّ الطَّرْفَ عَنْ ذَلَلَي *** يَنفَعْكَ قَوْلِي ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي


لقد خففت وإن كنت أكثرت، واختصرت وإن كنت أطلت، وتوقيت ما يتوقاه من رضي من الغنيمة فيها بالسلامة، ومن بعد الشقة بالإياب، لكني لم أجد بُدًا من الوقوف على ما أودعته هذه الصفحات؛ إذ لا يسع الصمت؛ ففي الصمت عِيٌ كعي الكَلِم، فأسأل الله بعزته وقدرته أن يمحو ببعض بعضًا، ويغفر بخير شرًا، وبجد هزلاً، ثم يعود علينا بفضله، ويتغمدنا بعفوه، ويعيذنا بعد طول الأمل فيه، وحسن الظن به من الخيبة والحرمان.

اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول والعمل، ونعوذ بك من التكلُّف لما لا نحسن، ونعوذ بك من العُجْب لما نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، ونعوذ بك من العي والحصر.


فالقولُ ذُو خَطَلٍ إذَا *** مَا لَمْ يَكُنْ ربِّي مُعِينِي
أعذني ربِّ مِنْ حَصَرٍ وَعِيٍّ *** ومن نفسٍ أُعَالِجُهَا عِلَاجًا


اللهم إنا نستعينك ونتوكل عليك، ونفر من حولنا وقوتنا إلى حولك وقوتك، لا إله إلا أنت، لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزَن إذا شئت سهلاً.

الصفحة الأولى: فِيمَ يختصمون؟

روى أن (أبا بكر)، رضي الله عنه وأرضاه عيَّن (عمر بن الخطاب)، رضي الله عنه وأرضاه قاضيًا على (المدينة)، فمكث عمر سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه إعفاءه من القضاء.

فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟

قال عمر: "لا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يُحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَ يختصمون؟ ففيمَ يختصمون؟".

هنيئًا، ثم هنيئًا، ثم هنيئًا لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك الجمع.

اللهم كما حرمناه في هذه الحياة فأقر أعيننا برؤيتهم في جنات النعيم، إخوانًا على سرر متقابلين.


أولئك النَّاسُ إنْ عُدُّوا وإنْ ذُكِرُوا *** وما سِوَاهُم فَلَغْوٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ
وأحرَّ شَوقِي إليهِم كُلَّمَا هَجَست *** نفسِي فنفسي بهمْ مجنونة الكَلَفِ
إنِّي سَئِمْتُ هَوَى الدُّنْيَا وزَهْرَتَهَا *** وملَّ قَلبِي ذُرَى رَوْضَاتِها الأُنَفِ
وقد بلوتُ لياليهَا وأَنهُرَها فَتَى *** وحُزْت لآليها منَ الصَّدَفِ
فلم أجدْ غيرَ دربِ اللهِ دربَ هُدَى *** وغيرَ ينبوعِهِم نبعًا لمُغترِفِ
كَرِّرْ عَليَّ حدِيثَهُم يَا حادِي *** فحدِيثُهُم يَجْلُو الفؤادَ الصَّادِي


الصفحة الثانية: شامة في جبين التاريخ، وغرة في ثبات المؤمنين.

روى أهل السير؛ (كالذهبي)، (وابن حجر)، وغيرهم أن (عمر)، رضي الله عنه وجّه في السنة التاسعة عشرة للهجرة جيشًا لحرب الروم، وفتح بلادهم للإسلام.

وقد علم قيصر الروم من أخبار جند المسلمين، وما يتحلّون به من صدق الإيمان، ورسوخ عقيدة، واسترخاصٍ للنفوس في سبيل الله، وصبر وبذل للمُهَج والأرواح في سبيل الله، ما علم؟ علم ما أذهله وما أدهشه وما أشدهَهُ، فأمر رجالاته أن إذا ظفروا بأسير من المسلمين أن يبقوا عليه حيًا ويأتوه به.

وشاء الله جلّ وعلا  أن يقع في الأسر عدد من المسلمين من بينهم صحابي جليل قد أدرك معنى العبودية لله عزّ وجلّ فتخلص من رقِّ المخلوقين، فلا تراه إلا وهو يصوم النهار، ويتلو القرآن، يقوم في جنح الليل، ويستغفر بالأسحار، فقليل ما يهجع.

راقبوه، فرأوا من تقاه وصلاحه وصلابته ورجولته وعقله ورزانته ما أدهشهم، ورأوا إن كسبوه لدينهم أنهم حققوا نصرًا عظيمًا، وكسباً عظيماً.

ذكروه لقيصرهم فقال: ائتوني به، فجاءوا به فكان الخُبْر أعظم من الخَبَر، وجاوزت المعاينة الخبر، وما راءٍ كمن سمع كما قيل، نظر إليه قيصرهم فرأى فيه عزّةٌ واستعلاء المؤمن، ونجابة الأبطال.

فبادره قائلاً: إني أعرض عليك أمرًا.

قال: ما هو؟

قال: أن تَتَنَصَّر، فإن فعلت خلَّيت سبيلك وأكرمت مثواك.

فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات هيهات، إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه.

هيهات، أنى لقلوب خالطتها بشاشة الإيمان أن تعود إلى ظلمات الكفر والضلال، مهما كانت الإغراءات، أنى لقلوب عرفت النور بحق أن تتدثر بالظلام مرةً أخرى مهما كانت المغريات، يفشل العرض الأول من هذا القيصر ويتحطّم على صخرة الإيمان؛ لأن هذا الرجل امتلأ قلبه بعبودية الله، فلم يبقَ في قلبه متسعٌ لغير تلك العبوديةز

بدأ بالإغراءات فقال قيصرهم: لو تَنصّرت شاطرتك ملكي، وقاسمتك سلطاني -يريدون أن يبيع دينه بعرض من الدنيا، يريدون أن يُصرف عن عبودية الله إلى رق المركز الذي طالما سال له لعاب كثير من الناس، فضيعوا حقوق الله في سبيل نيله، وباعوا دينهم بعرض من الدنيا.


هربوا من الرقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ *** فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفسِ والشَّيطانِ


فقال رضي الله عنه مبتسماً في قيده: "اخسأ عدو الله، والذي لا إله إلا هو لو أعطيتني جميع ما تملك وما تملكه العرب والعجمُ على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما رضيت".

الله أكبر، يتحطم الإغراء بالمركز على صخور الإيمان الشُّمِّ في نفس ذلك الصحابي، لماذا؟ لأنه طالب جنة، ولا يمكن أن يُغرى بما هو دون الجنة، وليس بأيديهم ما هو أعلى من الجنة ليغروه به، فأنى لهم أن يصلوا إليه، إنها سلعة الله، غالية جد غالية، مهرها بذل النفس والنفيس لمالكها الذي اشتراها من المؤمنين، وأيم الله، ما هزلت حتى يجتامها المفلسون المعرضون الجبناء، وأيم الله ما كسدت حتى يبتاعها نسيئة وتأجيلاً المعسرون المفلسون.

لقد أقيمت للعرض في السوق لمن يريد، وقيل: "هل من مزيد، فلم يرضَ لها بثمن دون حبل الوريد".

عندها قال قيصرهم: ردوه إلى الأسْرِ، فردوه، وطلب من حاشيته وبطانته الاجتماع فورًا لتداول الرأي في طريق يكسب به هذا الفتى ليكون من جند النصارى -وحقًا إنه كسب- وبعد المداولة استقر الرأي على أن الشهوة طريق مجرب ناجح صُرِفَ به الكثير عن دينه ومبادئه وثوابته، فلكم رأوا ولكم رأينا ولكم نر من أناسٍ يعبدون الشهوة، فينفقون أموالهم في الشهوة المحرَّمة؛ لتكون عليهم حسرة وبئس الإنفاق، يسافرون وراء الشهوة المُحرَّمة وبئس السفر والركب، يبيعون دينهم في سبيل الشهوة المحرمة وخسر البيع، والنار حُفّت بالشهوات وهم يتهافتون إليها وساء التهافت، عبَّاد شهوة وبئس العبيد.

قال قيصرهم: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي، فجيء بملكة جمال البلاد كما يقولون، وأغراها بالأموال العظيمة إن استطاعت أن توقعه في الفاحشة؛ لأن الفاحشة طريق إلى ترك دينه.

ولك أن تتصور أخي الحبيب، لك أن تتصور ما حال هذا الرجل، شاب في كامل فتوته، ورجولته، وشبابه، وقوته، وفوق ذلك غائب عن أهله منذ شهور، وهذا عامل يجعلهم يتفاءلون.

أدخلوها عليه، فتجردت من ملابسها بعد تجردها من الحياء! المترتب على التجرد من الإيمان، ولا ذنب بعد كفر، قامت تعرض نفسها أمامه، ثم ترتمي في أحضانه، فيهرب منها قائلا: معاذ الله، معاذ الله، فتطارده ويتجنبها، ويغمض عينيه؛ خشية أن يُفتن بها، ويقرأ القرآن ويستعيذ بالرحمن ولسان حاله ومقاله:   "رب القتل أحب إليَّ مما تدعوني إليه، وإلا تصرف عني كيدها أصْبُ إليها وأكن من الجاهلين"،تتابعه من جهة إلى جهة، وهو يستعيذ بالله الذي ما امتلأ قلبه إلا بعبوديته حتى يئست منه.

نَقَلَة الأخبار على الباب من شياطين الإنس ينتظرون خبر فتنة ذلك الصحابي ووقوعه في الفاحشة لينقلوه إلى الآفاق شماتة في الإسلام وأهله، وإعلانًا لانتصارهم في صرفه عن دينه، ولعل غيره يتبعه في ذلك {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُم إِنْ اسْتَطَاعُوا}.

وإذا بها تصيح أخرجوني أخرجوني، فأخرجوها قد تغير لونها، فشلت مهمتها، كرتها خاسرة عاهرة فاجرة، سألها مَن عند الباب من نقلة الأخبار:ما الذي حدث؟ هاتِ البشرى، يريدون أن يطيروا بالخبر، قالت: والله ما يدري أأنثى أنا أم ذكر، ووالله ما أدري أأدخلتموني على حجر أم على بشر؟!

الله أكبر الإغراء بالشهوة يخجل أمام عبودية الله التي ما تركت متسعًا لغيرها في قلبه، كيف يرضى طالب الحور العين بعاهرة فاجرة، ولذة قد يعقبها الهاوية؟

كيف يرضى وقد وُعِدَ بمن لو اطلعت إحداهنّ إلى أهل الأرض لملأت ما بين السماء والأرض ريحًا ولأضاءت ما بينهما؟

كيف ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها؟

كيف وقد وعد بمن ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة؟

كيف وقد وعد بمن أدنى لؤلؤة عليها تضئ ما بين المشرق والمغرب؟

كيف وقد وعد بمن يكون عليها سبعون ثوبًا ينفذ البصر حتى يرى مخَّ ساقها من وراء اللحم والدم والعصب والعظم؟

كيف وقد وعد بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟

خاب من باع باقيًا بفانٍ، خاب من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة.

هنا يقول قيصرهم: إذًا أقتلك، انتقل الأمر إلى التهديد وأنى لمؤمن امتلأ قلبه بعبودية الله أن يخشى تهديدًا دون نار جهنم إنه هارب من النار وما هناك تهديد بما هو أعظم من النار؛ فكل تهديد دونها ولا شك.

قال رضي الله عنه: أنت وما تريد، افعل ما بدا لك.

فأمر بصلبه، ثم أمر برميه بالسهام قرب يديه ورجليه وهو يعرض عليه أثناء ذلك أن يرتد عن دينه فيأبى، فيطلب منهم قيصرهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب لينوع التهديد عليه؛ علّه أن يلين، فيدعو بقِدْرٍ عظيم ويصب فيها الزيت، ويوقد تحتها النار حتى أصبح الزيت يغلي، ثم يأتي بأسيرين من أسرى المسلمين فيلقيهما في القدر أمام عينيه، فإذا بلحمهما يتفتت وعظامهما تبدو عارية، منظر فظيع بشع وحشي، ظنوا أنهم به وصلوا إلى قلب هذا الصحابي وإلى بغيتهم منه، التفت القيصر إلى الصحابي وعرض عليه النصرانية فكان أشد إباء من ذي قبل، فلما يئس منه أمر به أن يُلقى في القدر مع صاحبيه.

فلما ذُهب به دمعت عيناه، فظنوا أنه قد جزع وسيرتد عن دينه، فعرضوا عليه النصرانية مرة أخرى فأبى.

قال: ويحك فما أبكاك؟!

قال: "أبكاني أن قلت في نفسي إنما هي نفس تُلقى الآن في هذا القدر فتذهب، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفُس تُلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله".

لا إله إلا الله، والله أكبر، ويا لها من قلوب امتلأت بخشية الله وعبودية الله! لم يترك فيها فراغًا لوعد أو وعيد دون الجنة أو الجحيم، عندها ردوه إلى الأسر ووضعوا معه خمرًا ولحم خنزير، ومنعوا عنه الطعام والشراب، وبقي ثلاثة أيام يراقب علَّه أن يأكل لحم الخنزير، أو يشرب من الخمر فلم يفعل، وانثنت عنقه رضي الله عنه وأرضاه (مالت عنقه من شدة الجوع والعطش وأشرف على الهلاك)، فأخرجوه.

وقالوا له: ما منعك أن تأكل أو تشرب، فقال: أما إن الضرورة قد أحلت لي ذلك، ولكن والذي لا إله إلا هو لقد كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله، لسان حاله.


فَيَا أيُّها الكونُ منِّي اسْتَمِعْ *** ويا أُذُنَ الدَّهرِ عنِّي افهمِي
فَإِنِّي صريحٌ كَمَا تَعْلَمِين *** حريصٌ عَلَى مَبدأ قِيِّم
ومَهْما تعدَدَتِ الواجهاتُ *** فَلَستُ إلَى وِجْهَةٍ أنْتَمِي
سِوَى قِبلة المُصطَفَى والمَقامِ *** لأَرْوِى الحُشَاشَةَ مِنْ زَمْزَمِ
وأُشهدُ مَنْ دبَّ فوقَ الثَرَى *** وتحتَ السَّمَا عزةَ المُسْلِمِ


يا لها من كلمة! "كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله"، هذه الكلمة أهديها إلى أحبتنا الذين يخجلون من مواجهة الناس بالتزامهم، تجده يوم تلاحقه أعين السفهاء بالهمز، والغمز، واللمز، يمشي على خجل وعلى استحياء، يتوارى من القوم ليشمت غيره به، "إن حامل الحق يُجبر غيره على أن يخجل منه أو يموت بغيظه" فينتبه لذلك وليكن لسان الحال:


أنَا مُسْلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى *** وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وَسُؤْدُدِي


"كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله"، فقال له القيصر معجبًا بثباته ورشده وقوة عقله ولبِّه: هل لك أن تقبل رأسي فأخلي عنك، وكانوا لا يعيشون لأنفسهم، قال: وعن جميع أسرى المسلمين، قال: وعن جميعهم، فقال يسائل نفسه: عدو من أعداء الله أقبل رأسه ليخلي عن أسرى المسلمين لئلا يقتلوا، لا ضير في ذلك، فقبله فأطلق له الأسرى وأجازه بثلاثين ألف دينار وثلاثين وصيفًا وثلاثين وصيفة كما روى (ابن عائد) في السير (للذهبي)، وقدم على (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه وأرضاه بأسرى المسلمين ثابتًا كالطود الشامخ، يطأ بأخمصه الثريِّا، وهامه توازي الثريَّا، وأخبر عمر الخبر، فسُرَّ أعظم سرور، ثم قام فقبَّل رأسه.

وقال: حقٌ على كل مسلم أن يقبل رأسك، رأس من لا أظن أحدًا يجهل مثل هذا الرجل إنه (عبد الله بن حذافة السهمي) رضي الله عنه وأرضاه، (شامة في جبين التاريخ)، وغرّة في جبين الزمن.

أحبتي في الله لا يملك الإنسان أمام هذه المواقف التي تقف لها الهام إلا أن يقول: إنها النفوس المؤمنة يوم تجاهد في سبيل الله، لا في سبيل قولٍ، ولا في سبيل نفسٍ، ولا في سبيل وطنٍ، بل في سبيل الله؛ لتحقيق منهج الله في أرض الله في سبيل الله؛ لتنفيذ شرع الله على عباد الله، ليس لها لنفسها حظ، بل كلها لله الواحد القهار.

لا يخافون لومة لائم؛ وفيم الخوف من لوم الناس وقد ضمنوا حب وعبودية رب الناس؟!

إن ما يخشى الناس ولومهم من يستمد حركاته، وسكناته، ومقاييسه من أهواء الناس، فهو أرضيٌّ طينيٌّ دونيٌّ.

أما من يعود إلى موازين الله ليجعلها فوق كل الموازين فما يبالي بأهواء البشر وشهواتهم وقيمهم، لا يبالي بما يقولون، ولا بما يفعلون، ولا بما يتوعدون، إنها سمة المؤمنين المحبيّن لله ورسوله، الاطمئنان إلى الله يملأ قلوبهم فهلا أعددت نفسك لتكون من أمثال هؤلاء؟

فإن الينبوع واحد، وإن المورد واحد، وإن النهر واحد، ما أخذوا منه أنت تأخذ منه، ثبات على المبادئ، وصدق مع الباري، وإخلاص في الظاهر والخافي، سماويّون لا أرضيّون، لا دونيّون، لا طينيّون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

فيا ضعيف العزم، ويا دنئ الهمَّة، أين أنت؟ لا تستطل الطريق، الطريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأفجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف، بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضُّر أيوب، وزاد بكاء داود وعالج الأذى محمد صلى الله عليه وسلم ولكنكم تستعجلون.

إنما يقطع الطريق ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد السائر عن الطريق أو استطاله ونام الليل فمتى يصل إلى المقصود؟ متى!


أفيقوا استيقظوا وخُذُوا منَ الأَسْلافِ *** مِمَنْ قبلكُم عظةٌ تُنِيرُ قلوبكم وتبصر
رُومانَ في جَبروتِها وغُرورِهَا *** رضخت لمنْ حَمَلوا الضياءَ وحرَّرُوا
دُحر البغاةَ بظلمِهِم وشُرُورِهِم *** فخذوا دروسًا منهم واستعبروا


الصفحة الثالثة: إنما هي نفس واحدة.

روى (حميد بن هلال) كما في السير (للذهبي) قال: أتى بعض مخالفي أهل السنة (مطرف بن عبد الله) عليه رحمة الله -يدعونه إلى رأيهم المخالف لأهل السنة.

فقال -واسمعوا لما قال- قال: "يا هؤلاء لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى، فإن تبيّن أن الذي تقولونه هدى أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن إنما هي نفس واحدة، والله لا أغرِّر بها، والله لا أغرر بها".

إجابة حازمة وجازمة للدعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، إنما هي نفس لا يُغرَّر بها. إجابة لمن لا يملك تقوى أهل الإسلام، ولا عقول أهل الجاهلية، إنما هي نفس لا أغرر بها.

إجابة حاسمة جازمة لمن يريد أن تجعل دينك دونه، إنما هي نفس واحدة لا أغرر بها، يا من باع كل شيء بلا شيء، واشترى لا شيء بكل شيء إنما هي نفس واحدة، إلى عُبَّاد الأهواء والشهوات إنما هي نفس واحدة، إلى المتاجرين ببث الشبهات إنما هي نفس واحدة.


مَنْ كانَ حينَ تصيبُ الشمسُ جبهتَهُ *** أو الغبارُ يخافُ الشَينَ والشَّعثَ
ويَأْلفُ الظِّلَ كيْ تبقَى بَشَاشَتُهُ *** فسوفَ يسكنُ يَومًا راغمًا جَدَثَا
في قعْرِ مظلمةٍ غبراءَ موحشةٍ *** يُطيلُ فِي قَعْرِهَا تحتَ الثَّرَى اللَّبث
تَجَهزِي بجهازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ *** يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثًا


إنما هي نفس يا عبد الله فلا تغرر بها، اشترها اليوم فإن السوق قائمة، والثمن موجود وخطير، والبضائع رخيصة وفي ذات الوقت نفيسة، وسيأتي على السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير {ذَلِكَ يَومُ التَّغَابُنِ}  {ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} يوم الحساب.


إنَّ يومَ الحسابِ يومٌ عَسِيرٌ *** ليسَ فيه للظاَّلمينَ نَصِيرُ


الصفحة الرابعة: من استطاع منكم أن يؤثر الله في كل مقام فليفعل:

في (تهذيب الكمال)، وفي (صور من حياة التابعين)، أنه كان (ابن هبيرة) واليًا على العِرَاقين؛ والمقصود بالعراقين (البصرة) و(الكوفة)، في عهد الخليفة  (يزيد بن عبد الملك) وكان يزيد يرسل إليه بالكتاب تلو الكتاب ويأمره بإنفاذ ما في تلك الكتب ولو كان مجافيًا للحق أحيانا.

فدعا ابن هبيرة عالميْن؛ هما (الحسن البصري)، و(عامر الشعبي)، يستفتيهما في ذلك، هل له مخرج في دين الله أن ينفذ تلك الكتب؟

فأجاب الشعبي جوابًا فيه ملاطفة ومسايرة والحسن ساكت، فالتفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول يا أبا سعيد؟

فقال: "يا ابن هبيرة خَف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله عزّ وجلّ  يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله. يا ابن هبيرة؛ إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد، يا ابن هبيرة؛ إنك إن تكن مع الله وفي طاعته يكفك بائقة يزيد، وإن تكن مع يزيد في معصية الله فإن الله يكلك إلى يزيد".

فبكى ابن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته، ومال عن (الشعبي) إلى (الحسن) وبالغ في إعظامه وإكرامه فلما خرجا من عنده توجها إلى المسجد فاجتمع عليهما الناس وجعلوا يسألانهما عن خبرهما مع ابن هبيرة.

فالتفت الشعبي إليهم وقال: "أيها الناس؛ من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل؛ فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لابن هبيرة قولا أجهله، ولكني أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة، وأراد الحسن وجه الله فأقصاني الله منه، وأدنى الحسن وحببه إليه".

 أيها الأحبة : إن القلب هو محل التأثر من الإنسان، والقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، ومن راءى بعلمه ونصحه فقد قطع ما بينه وبين الله، وأنى له أن يمنحه الله إقبالاً من الناس أو تأثيرًا فيهم! لذا تراه إن تكلم لم يُسْمع، وإن عمل لم يحرك ويظن أنه قد أحسن، ولكن كم من مسيء يرى أنه محسن، وجاهل يرى أنه عالم، وبخيل يرى أنه كريم، وأحمق يرى أنه عاقل، وظالم يرى أنه مظلوم، وآكل للحرام يرى أنه متورع، وفاسق يعتقد أنه عدل، وطالب علم للدنيا يرى أنه لله، والأجل قصير، والأمل طويل، والمرد إلى الله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، من آثر الله دله الله على الطريق، وإنا لله من بُعْدٍ عن الطريق.

وفي السير أيضًا أن (الحسن)، قد خرج من عند (ابن هبيرة) فإذا هو بالقراء على الباب، فقال: ما يجلسكم هنا؟

تريدون الدخول، أتجالسونه مجالسة الأبرار؟ تفرقوا فرَّق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد فَرْطَحْتُم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، فضحتم القراء فضحكم الله، والله لو زهدتم لرغبوا فيما عندكم من العلم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم، أبعد الله من أبعد، أبعد الله من أبعد، أبعد الله من أبعد. أهينوا الدنيا؛ فوالله لأهنأ ما تكونون إذا أهنتموها.

ثم كان مما قال: السكين تُحدُّ، والكبش يُعْلف، والتنور يُسْجَر، ومن سمع سمّع الله به، وما أحد أعز الدرهم إلا أذلّه الله. تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار.

أيها الأحبة؛ إننا نفوس لا ألفاظ، والكلمة من قائلها بمعناها في نفسه، لا بمعناها في نفسها، فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده عليه الشرع، ولو نافق طالب العلم لكان كل منافقٍ أشرف منه، ولطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود. والدينار إذا كان صحيحًا في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعض فهو زائف كله، فمن ترك واجبًا مخافة أحد نزعت منه هيبة الله حتى لو أمر بعض ولده أو مواليه لاستخف به.

يقول (الفضيل): إنما يهابك الخلق على قدر هيبتك لله عزّ وجلّ.


فاجعلْ رِضَا اللهِ كلَّ القَصدِ تنْجُو فَمَا *** يُغني رِضَا الخَلْق والخَلاقُ قد سخطا
هل يبسطون لِمَا القهارُ قابضهُ *** أوْ يَقْبضونَ إذا الرّحمنُ قد بَسَطَا


لا والله.


الصفحة الخامسة: "من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه":

في (ذيل طبقات الحنابلة) ذكر (ابن رجب) في ترجمة القاضي (أبي بكر الأنصاري البزاز) أنه قال: كنت مجاورًا في (مكة)، -حرسها الله- فأصابني يومًا من الأيام جوع شديد، ولم أجد شيئًا أدفع به عني ذلك الجوع، وخرجت أبحث عن طعام فلم أجد، فوجدت كيسًا من حرير مشدود برباط من حرير أيضًا.

قال: فأخذته وجئت به إلى بيتي، وحللته فوجدت فيه عقدًا من لؤلؤ لم أرَ مثله قط.

قال: فربطته وأعدته كما كان، وخرجت أبحث عن طعام فوجدت شيخًا ينادي ويقول: من وجد لنا كيسًا صفته كذا وكذا فله خمسمائة دينار من الذهب.

قال: فقلت في نفسي إني محتاج وجائع أفآخذ هذه الدنانير لأنتفع بها وأرد عليه كيسه؟ لا ضير.

فقلت له: تعال إليَّ فأخذته، وذهبت به إلى بيتي، وسألته عن علامة الكيس، وعلامة اللؤلؤ، وعدد اللؤلؤ، والخيط المشدود به، فإذا هو كما قال.

قال: فأخرجته ودفعته إليه، فسلم إليَّ خمسمائة دينار الجائزة التي ذكرها.

قال: فقلت له: يجب علي أن أعيده لك ولا آخذ له جزاءً، قال: لابد أن تأخذ، وألحَّ عليَّ كثيرًا، وأنا أحوج ما أكون، قال: فقلت: والذي لا إله إلا هو ما آخذ عليه جزاءً من أحد سوى الله، فلم يقبل الدنانير.

قال: فتركني ومضى، ورجع الشيخ بعد موسم الحج إلى بلده، وأما ما كان مني -الإمام البزاز الكلام له- قال: فإني خرجت من مكة وركبت البحر في وسط أمواجه المتلاطمة وأهواله، فانكسر المركب، وغرق الناس، وهلكت الأموال، وقال وسلمني الله إذ بقيت على قطعة من المركب تذهب بي يمنة ويسرة لا أدري إلى أين يذهب بي.

بقيت مدة في البحر تتقاذفني الأمواج من مكان إلى مكان حتى لفظتني إلى جزيرة فيها قوم أميون لا يقرؤون ولا يكتبون.

قال: فجلست في مسجدهم، وكنت أقرأ، قال: فما أن رآني أهل المسجد حتى اجتمعوا عليَّ، فلم يبقَ في الجزيرة أحد إلا قال: علمني القرآن، قال: فعلمتهم القرآن، وحصل لي خير كثير من جراء ذلك.

قال: ثم إني رأيت في ذلك المسجد مصحفاً ممزقاً، فأخذت أوراقه لأقرأ فيها، فقالوا: أتحسن الكتابة؟ قلت: نعم، قالوا: علمنا الخط، قال: قلت: لا بأس، فجاءوا بصبيانهم وشبابهم فكنت أعلمهم، وحصل لي من ذلك خير عظيم.

رغبوا فيه فقالوا له بعد ذلك وهم يريدون أن يبقى معهم: عندنا صبية يتيمة ومعها شيء من الدنيا، ونريد أن نزوجك بها، وتبقى معنا في هذه الجزيرة.

قال: فامتنعت، فألحوا عليَّ وألزموني، فلم أملك أمام إلحاحهم وإصرارهم إلا أن أجبت لطلبهم، فجهَّزوها لي، وزفُّوها إليَّ، زفها محارمها، وجلست معهم، وإذا بي أنظر إليها وإذا ذلك العقد الذي رأيته (بمكة) بعينه معلق في عنقها، دهشت وما كان لي حينئذ من شغل إلا النظر لهذا العقد.

فقال محارمها: يا شيخ كسرت قلب هذه اليتيمة، لم تنظر إليها، وإنما تنظر إلى العقد.

قلت لهم: إن لهذا العقد قصة، قالوا: وما هي؟ فقصصتها عليهم فصاحوا وضجوا بالتهليل والتكبير، وصرخوا بالتسبيح حتى بلغ صوتهم أنحاء الجزيرة.

فقلت: سبحان الله! ما بكم؟

قالوا: إن الشيخ الذي أخذ منك العقد في مكة هو أبو هذه الصبية، وكان يقول عند عودته من الحج ويردد دائمًا: "والله ما وجدت على وجه الأرض مسلمًا كهذا الذي ردَّ عليَّ العقد في مكة، اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي"، وتوفى ذلك الرجل، وحقق الله دعوته وزوَّجك بابنته.

فيقول: فبقيت معها مدة من الزمن فكانت خير امرأة، رزقت منها بولدين، ثم توفيت فعليها رحمة الله، فورثت العقد المعهود أنا وولدي، قال: ثم توفى الولدان واحدًا تلو الآخر، قال: فورثت العقد منهما.

قال: فبعته بمائة ألف دينار، يحدث بعد مدة ويقول: هذا من بقايا ثمن ذلك العقد، فرحمة الله على الجميع. من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء {وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}.


الصفحة السادسة:

ذكر أهل السير أن (هشام بن عمار) عليه رحمة الله كان شغوفًا بطلب العلم، بـ(طلب علم النبوة) وهو صغير، وكان معاصرًا (للإمام مالك) عليه رحمة الله جاءه في رحلة شاقة طويلة -فاسمع لها يا طالب العلم وعِهَا فلعل لك فيها عظة وعبرة- عن (محمد بن الفيض الغساني) قال: سمعت (هشام بن عمار) يقول: "باع أبي بيته بعشرين دينارًا وجهزني للحج وطلب العلم".

قال: فتوجهت من (دمشق) تاركاً أهلي ووطني رغبة في الحج إلى بيت الله ولقاء الأئمة أمثال (مالك) رحمه الله.

قال: فلما صرت إلى (المدينة)، أتيت مجلس الإمام مالك ومعي مسائل -أعدَّ مسائل يريد أن يسائل الإمام فيها- قال: وأريد مع ذلك أن يحدثني.

قال: فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمانه قيام حوله، والناس يسألونه ويجيبهم، يتدفق كالبحر.

قال: فلما انقضى المجلس قمت لأسأله وأطلب أن يحدثني، فاستصغرني ورآني لست أهلاً للرواية.

فقال: حصَّلنا على الصبيان؛ (يعني أنه لم يبقَ إلا الصبيان)، يا غلام -لأحد غلمانه الذين حواليه- احمله، قال: فحملني كما يُحْمل الصبي، وأنا يومئذ غلام مدرك، فأخرجني.

يقول (ابن جزرة): ودخل (هشام) ذات يوم على الإمام (مالك)، بغير إذن وقال له: حدثني، فرفض الإمام مالك، يقول (هشام): فكررت عليه وراودته.

فقال لغلامه: خذ هذا واضربه خمسة عشرة سوطًا.

قال: فأخذه وذهب به وضربه خمسة عشرة سوطًا، فوقف يبكي على الباب حتى خرج الإمام (مالك) فإذا به يبكي، فقال له: ما يبكيك يا (هشام)؟ أو أوجعتك؟

قال هشام: إن أبي باع منزله بعشرين دينارًا، ووجه بي إليك لأتشرف بالسماع منك، فضربتني وظلمتني بغير جرم فعلته سوى أني أطلب حديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم والله لا جعلتك في حلٍّ، لأسائلنك بين يدي الله.

فتأثر الإمام مالك، وعلم أنه طالب حديث وجامع سنُّة بحق، فقال: يا بني ما يرضيك؟ ما كفارة ذلك؟

فقال هشام: أن تحدثني بكل سوط ضربتنيه حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 قال الإمام: فجلس وقال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان ، فسرد له خمسة عشرة حديثًا.

فقال بعدها: يا إمام زد في الضرب، وزد من الحديث، فضحك الإمام (مالك) وقال: اذهب.

فانظر يا طالب العلم، يا طالب العلم انظر كيف عرفوا العلم وقدره، واستعذبوا العذاب في سبيل الحصول عليه، باعوا بيوتهم، وقطعوا الفيافي والقفار حتى وصلوا؛ لأنهم يعرفون أنه بواسطة العلم يُعْبد الله في الأرض على بصيرة.
هاهو (الحافظ ابن عساكر)، عليه رحمة الله لاقى في تحصيل العلم ما لاقى من الشدائد مما تنقله كتب السير والتراجم هاجر من (دمشق)، إلى (نيسابور)، وكانت ذات ثلج شديد، وبرد زمهرير لم يألفه في موطنه دمشق، وفي ذات ليلة تحت وطأة الغربة، وفراق الأحبة، وفراق الأبناء، وشدة برد البلدة في نيسابور قال يصور معاناته، ويذكر لأهله أنه لا زال على عهده أن يطلب العلم ثم يعود إليهم، فكان مما قال:


لولا الجحيم الذي في القلبِ من حُرَقي *** لفُرقة الأهلِ والأحبابِ والوطنِ
لمِتُّ من شِدةِ البَردِ الذي ظهرتْ *** آثارُ شدَّتِهِ في ظَاهرِ البَدَنِ
يا قومِ دُوموا على عهدِ الهُدى وثِقوا *** أنّي على العهدِ لم أغدِرْ ولَم أَخُنِ


ثم ذكر ما كان له من أسفار متواصلة، ورحلات في الأرض متباعدة في سبيل طلب العلم الشرعي، فقال رحمه الله:


وأنا الذي سافرتُ في طلبِ الهُدى *** سفرَيْنِ بينَ فدافدٍ وتنائفِ
وأنا الذي طوَّفت غيرَ مدينةٍ *** منْ أصْبهانَ إلى حدودِ الطَّائِفِ
الشرق قد عاينت أكثر مدْنِه *** بعدَ العراقِ وشامِنا المُتَعارفِ
وجمعت في الأسفار كل نفيسةٍ *** ولقيت كل مخالِفٍ ومُعَاكِسِ
وسمعتُ سنةَ أحمد منْ بَعدما *** أنفقت فيها تالدي مع طَارفِي


صلى الله على نبينا محمد، لله درهم، ما أمضى عزائمهم! وما أشد جلدهم وشوقهم لطلب العلم لوجه الله! وما أقواهم على الدخول فيما يريدون حين يريدون! طافوا الدنيا لتحصيل العلم، زرعوها بالأقدام زرعًا يوم لم يكن قطار ولا سيارة ولا باخرة ولا طيارة، طواف للبلدان، ونصب للأبدان، وكسب للزمان، لا راحة ولا استرخاء. لا صعوبة تمنعهم من لقاء العلماء، أمانيهم في تحصيل العلم، وخدمة هذا الدين تحدوهم إلى المزيد، وتنسيهم ما يلقون من تعب وعناء شديد. لسان حال بعضهم:


كَنَفِي بَعِيرِي إنْ ظعَنتُ ومَفْرشي كُمِّي *** وجُنحُ الليلِ مطرح هَوْدجِي
ماتوا وغُيِّبَ في الترابِ شُخُوصُهم *** فالنَّشرُ مسكٌ والعظامُ رميمُ


هل من مقتد بهم يا طلبة العلم في هذا الزمان؟ إن مرحلة تحصيل العلم شاقة تنقطع دون بلوغها حيازيم الصبر، وتنحسر أمامها عزمات الرجال، ولا يصبر على اجتيازها إلا الأفذاذ الأبطال، من لم يستسلموا للكسل والتواني، لولا قول ألاقي من لم يطع التواني، ولم يضيع الحقوق.

فيا طلبة العلم؛ اعلموا أن علوم الإسلام لم تدون في ظلال الأشجار والثمار، وعلى ضفاف الأنهار، إنما دوِّنت باللحم والدم والعصب، وظمأ الهواجر، وسهر الليالي، على السراج الذي لا يكاد يضيء نفسه أحيانا، في ظل الجوع والعري، وانقطاع النفقة في بلاد الغربة، والصبر على أهوال الأسفار، وملاقاة الخطوب والأخطار، والتيه في الفيافي والقفار، والغرق في البحار، مع البعد عن الأهل والزوجة والدار. لسان حال الكثير منهم من علماء الإسلام:
في الشامِ أهلِي وبغدادُ الهَوَى *** وأنَا بالرَّقْمتَينِ وبِالْفُسطَاطِ خِلاَّنِي
بالصبرِ بلَغُوا ما أرادُوا والصبرُ يُوجدُ*** إنْ باءٌ له كُسِرَت لكنَّهُ بِسُكُونِ الباءِ مفقودُ


رحمهم الله، تحمَّلوا ما تحملوا لتدوين العلم، فلم يبقَ لك إلا أن تطلبه في مظانه بهمة الرجال التي تتصاغر وتتضاءل أمامها المشاق والمتاعب والأخطار. ولن يخيب الله مسعي من سعى، ولن يتخلف الصادق عن النبوغ؛ فالنبوغ صبر طويل كما قيل.


وإنَّ سِيادةَ الأقوامِ فاعلمْ *** لَهَا صُعَدَاءُ مَطلعُهَا طَوِيلُ
وأنت لها أهل *** خلَقَ اللهُ للخُطُوبِ رجالا


ورجالا لقَصْعَةٍ وثَرِيدِ.


فكن من رجال الخطوب لا من رجال القصعة والثريد، فمن ساق الأماني، وصاحب التواني، واستلذَّ المطاعم، واستحبَّ النوم، وشغلته تقلبات الفصول عن التحصيل فما أبعده عن العلم! وما أبعد العلم عنه! وما أنفره عن العلم! وما أنفر العلم عنه! إذا كان يؤذيك حر المصيف، ويبس الخريف، وبرد الشتاء، ويلهيك حسن زمان الربيع، فأخذك للعلم قل لي متى؟


فكُنْ رَجُلا عَلَى العَلْياءِ جَلْدًا *** وشيمتُك التَّصَبُّرُ للعَنَاءِ
فقلْ لمنْ جدَّ في أمرٍ يحاوِلُهُ *** واستَصْحِب الصَّبْرَ إلا فَازَ بالظَّفرِ
كَمْ حاجةٍ بِمكانِ النَّجْمِ قرَّبها *** طولُ التَّرَدُدِ فِي الرَّوْحَاتِ والبكرِ


الصفحة السابعة: تكليف لا تشريف.

حدث (الفضيل بن الربيع) قال: حج أمير المؤمنين (هارون الرشيد) عليه رحمة الله قال: ثم أتاني وخرجت مسرعًا، أقول له: لو أرسلت إليَّ لأتيتك.

قال: ويحك قد حاك في نفسي شيء فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت له: هنا (سفيان بن عيينة)، فقال: امض بنا إليه .

قال: فأتينا فقرعنا الباب، فقال: من؟ قلت: أمير المؤمنين، فخرج وقال: لو أرسلت إليَّ أتيتك، فحادثه ساعة، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، قال: اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئًا، انظر لي رجلاً آخر أسأله، قلت: هاهنا (عبد الرزاق بن همام) قال: امض بنا إليه.

فأتيناه، فقرعنا الباب وخرج إلينا، فإذا هو بأمير المؤمنين، فقال: لو أرسلت إليَّ لأتيتك، فحادثه ساعة، ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم، قال: يا (أبا عباس) اقضِ دينه، قال: فلما خرجنا قال ما أغنى عنا صاحبك شيئًا، انظر لي رجلاً أسأله، قلت: هاهنا (الفضيل بن عياض) قال: امض بنا إليه.

قال: فأتينا، فإذا هو قائم يتلو آية من القرآن يرددها، قال: فقرعت الباب فلم يرد، فقلت: أجب أمير المؤمنين، قال: فاستمر في قراءته، فقلت: أما عليك طاعة، قال: بلى، لكن ليس للمؤمن أن يذل نفسه.

ثم نزل ففتح باب الدار، ثم ارتقى إلى غرفة من الغرف، وأطفأ السراج، والتجأ إلى زاوية في بيته.

قال: فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا علَّنا نجده، فسبقت كف هارون إليه، فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله عزّ وجلّ!

فقلت في نفسي: ليكلمنّه الليلة بكلام قوي من قلب تقيّ.

قال: خذ رحمك الله  لمجيئنا إليك، وأعطاه مالاً، فقال: إن (عمر بن عبد العزيز)، لما وليَ الخلافة دعا (سالم بن عبد الله)، و(محمد بن كعب)، و(رجاء بن حيوة)، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ، فعدَّ الخلافة بلاء، وعددتها أنت نعمة، خذ مالك لا أريده، ثم واصل فقال:

قال له سالم: -يعني قال سالم لعمر-: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت.

وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين لك أبًا، وأوسطهم أخًا، وأصغرهم ابنًا، ووقِّر أباك، وأكرم أخاك، واحنُ على ولدك.

وقال له رجاء: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت.

وإني أقول لك يا أمير المؤمنين: إني أخاف عليك أشد الخوف من يوم تذلُّ فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل ذلك.

فبكى هارون بكاءً شديدًا حتى غشي عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين.

فقال: يا ابن الربيع؛ تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا، إن النصح رفق، النصح رفق.

أفاق الرشيد وقال: زدني رحمك الله.

فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لـ(عمر بن عبد العزيز) شكا إليه، فكتب عمر عليه قائلاً: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد.

فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر فقال له عمر: ما أقدمك؟

قال: خلعت قلبي بكتابك، والله لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عزّ وجلّ فبكى الرشيد بكاءً شديدًا، ثم قال: زدني رحمك الله.

فقال: يا حسن الوجه، أنت الذي سيسألك الله عزّ وجلّ عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقيَ هذا الوجه النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك؛ فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح لهم غاشًا لم يرد رائحة الجنة».


فبكى هارون بكاءً شديدًا، ثم أفاق وقال له: أعليك دين؟

قال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم أُلْهَم حُجَّتي، ثم انفجر باكيًا مضطربًا كما يضطرب العصفور المبلل بالماء، ثم هدأ فقال له: أما عليك دين لعباد الله نقضيه عنك؟

قال: إن ربي أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره.

فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُم من رزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.


توكلت في رزقي على الله خالقي *** وأيقنتُ أنَّ اللهَ لا شكَّ رَازِقِي
وما يك منْ رزقٍ فليسَ يَفوتني *** ولَوْ كانَ في قاعِ البِحارِ العَوَامِقِ


قال: هذه ألف دينار تقوَّ بها على عبادتك، وأنفقها على عيالك، وسد بها حاجاتهم.

قال: سبحان الله! أدلك على طريق النجاة، وتكافئني بمثل هذا سلمك الله، ثم صمت فلم يتكلم بعدها.

قال: فخرجنا من عنده، فلما صرنا إلى الباب قال هارون لحاجبه هذا: إذا سألتك أن تدلني على أحد فدلني على مثل هذا.

فلما انصرفنا قال: دخلت عليه امرأته فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت المال لتسد به حاجتنا، فقال لها: إنما مَثَلِي ومثلكم كمَثَل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه.

فلما سمع هارون كلامه وهو على الباب قال: نرجع إليه فعسى أن يقبل الدراهم، فلما علم (الفضيل) بعودتهم خرج فجلس على سطح الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينما هم كذلك إذ خرجت جارية فقالت: يا هذا؛ قد آذيتموه هذه الليلة، دعوه مع كتاب الله وانصرفوا رحمكم الله، فانصرفوا رحم الله الجميع.

أحبتي في الله؛ يمكننا أن نأخذ من هذه الحادثة عبرتين:

أولاً: أن طلب النصيحة من صاحب المنزلة والسعي للبحث عنها في مظانها، وطرق الأبواب لها، وتلمس الوسائل للحصول عليها، عقل ورشد، وأي رشد! لأن إتيان النصيحة إلى صاحب المكانة يجعلها في مركز الضعف، والعكس بالعكس؛ إتيانه للنصيحة يجعلها في مركز القوة.

ثانيًا: أن المؤمنين إخوة لا تظالم، ولا تخاذل، ولا تحاقر بينهم، الصغير ابن، والوسط أخ، والكبير أب، جسد واحد، وأمة واحدة. قد قالها (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه لأخوة له خرجوا يريدون نشر دين الله في الأرض بأمره خلف السهوب، والبحار، والفيافي، والقفار، قال لهم: سيروا على بركة الله، وأنا أبو العيال حتى تعودوا، قالها حتى لا يترك في قلوبهم شغلاً بهؤلاء الصغار.

فهل تستطيع أمة الإسلام أن تربي مثل هذه النماذج؟ نعم والله، إنها لأمة خير يتعاقبه جيل بعد جيل، ولن تعدم الأمة وسائل لتربية مثل هذا النماذج، وأعلى وسيلة علم كل فرد وهو على ثغرة من ثغور الإسلام أن المسئولية تكليف لا تشريف، وأن له شيئًا وعليه شيء، فليأخذ ما له من حق وليقم بما عليه من واجب، وليكن مع ذلك أصم سميعًا، أعمى بصيرًا، سكوتًا نطوقًا. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

 الصفحة الثامنة: حكمها رحمة ونعمة.

كان (قتيبة بن مسلم الباهلي) عليه رحمة الله في شرق الكرة الأرضية يفتح المدن والقرى، ينشر دين الله في الأرض، ويفتح الله على يديه مدينة (سمرقند)، افتتحها بدون أن يدعو أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثًا؛ كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال.

فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر في دين الإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت؛ وهو (عمر بن عبد العزيز) عليه رحمة الله أرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند.

فاسمع إلى هذا الرسول يقول: أخذت أتنقل من بلد إلى بلد شهرًا حتى وصلت إلى (دمشق)، دار الخلافة، فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها.

وأحدث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان، ثم أخشى على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أخذ أخذًا، فلما رأيت أعظم بناء في المدينة دخلت إليه، وإذا بالناس يدخلون ويخرجون ويدوكون، وإذا بحلقات في هذا البناء، وأناس يركعون ويسجدون.

يقول: فقلت لأحدهم: أهذه دار الوالي؟، قال: لا بل هذا هو المسجد.

قال: هل صليت؟ قلت: وما صليت؟ قال: فما دينك؟ قلت: على دين أهل سمرقند، فجعل يُحدثنيّ عن الإسلام حتى اعتنقته، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قلت له: أنا رجل غريب، أريد السلطان، دلنيّ عليه يرحمك الله قال: تعني أمير المؤمنين، قلت: نعم، قال: اسلك هذا الطريق حتى تصل إلى تلك الدار، وأشار إلى دار من طين، فقلت: أتهزأ بي؟ قال: لا، ولكن اسلك هذا الطريق، فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده.

قال: فذهبت واقتربت، وإذا برجل يأخذ طينًا، ويسد به ثلمة في الدار، وامرأة تناوله الطين، قال: فرجعت إلى الذي دلَّني وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين فتدلني على دار رجل طيَّان قال: هو ذاك أمير المؤمنين.

قال: فطرقت الباب، وذهبت المرأة، ونزل الرجل، ورحب بي، وغسل يديه وخرج وقال: ما تريد؟ قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند، فقرأها، ثم قلبها فكتب على ظهرها، "من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله بسمرقند: أن نصِّب قاضيًا ينظر فيما ذكروا"، ثم ختمها، وناولني، وانطلقت.

يقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق، ماذا تفعل هذه الورقة وهذه الكلمات في إخراج الجيوش العرمرم الجرارة، وذلك القائد الذي دوَّخ شرق الكرة الأرضية برمتها؛ يعني (قتيبة بن مسلم)؟

قال: وعدت بفضل الله مسلمًا، كلما دخلت بلدًا صليت في مسجده واجتمعت باخوتي وآنست بهم، فأكرموني وأنسوا بي، فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة أظلمت عليهم الأرض، وضاقت بما رحبت.

وقالوا: ما تنفع هذه الرسالة وماذا تغني عنًا، ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند، فنصب لهم الوالي (جميع بن حاضر الباجي) قاضيًا لهم لينظر في شكواهم، حدد القاضي لهم يومًا اجتمعوا فيه.

ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟

قال: اجتاحنا قتيبة، ولم يدعُنَا إلى الإسلام، ويمهلنا لينظر في أمرنا.

فقال القاضي لـ(خليفة قتيبة)، وقد مات قتيبة عليه رحمة الله قال: أنت ما تقول؟

قال: لقد كانت أرضهم خصبة، وأرضهم واسعة، وخشي قتيبة إن هو آذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه، والحرب خدعة.

قال -واسمعوا إلى ما قال-: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله، وما خرجنا فاتحين للأرض أشرًا وبترًا.

ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك وينابذهم وفقًا للمبادئ الإسلامية.

ما ظن أهل سمرقند أن تلك الكلمات ستفعل فعلها، ما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند، خرج الجيش كله، وبدأ لينذرهم ويدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية؛ من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها قالوا: هذه أمة حكمها رحمة ونعمة، فدخل أغلبهم في دين الله، وفرضت الجزية على الباقين.

فيا لله! أرأيتم جيشًا يفتح مدينة ويدخلها ويشتكي أهل المدينة للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر بالخروج، بل هل رأيتم في التاريخ قديمًا وحديثًا حربًا يتقيد أصحابها بمبادئ الأخلاق والحق كما تقيد به الجيش الإسلامي؟ والله لا نعلم في الدنيا كلها موقف مثل هذا لأمة من أمم الأرض.


والليلُ يشهدُ والكواكبُ والثَّرى *** وكفى بهم شهداء يومَ الدِّينِ
جمال ذي الأرض كانُوا فِي الحياةِ *** وهم بعد الممات جمال الكُتْب والسير


الصفحة التاسعة: لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر.

جاء في إنباء الرواة في ترجمة (أبي نصر القرطبي) قال: كنا نختلف إلى (أبي علي القالي) رحمه الله وقت إملائه (النوادر) في جامع الزهراء بحي (قرطبة) ونحن في فصل الربيع.

قال: فبينما أنا ذات يوم في بعض الطريق إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلس (أبي علي) إلا وقد ابتلت ثيابي كلها، وحوالي أبي علي أعلام أهل قرطبة، فلما رآني مبتلا بالماء أمرني بالدنو منه.

وقال لي: مهلاً يا أبا نصر لا تأسف، ولا تأس، ولا تحزن على ما عرض لك؛ فهذا شيء يضمحل عنك بسرعة، بثياب تبدِّلها بغير ثيابك، لكن اسمع -يريد أن يعزيه وأن يسليه على ما أصابه- قد عرض لي -يقول أبو علي عن نفسه- ما أبقى في جسمي ندوباً وجروحاً تدخل معي القبر، لقد كنت أختلف في الطلب؛ يعني في طلب العلم إلى (ابن مجاهد) رحمة الله عليه فذهبت إليه آخر الليل قبل طلوع الفجر؛ لأقترب منه لأستفيد، فلما انتهيت إلى الطريق الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ألفيته مغلقًا،قال وعسر عليَّ فتحه.

فقلت: سبحان الله! أبكِّر هذا البكور ثم أغلب على القرب منه، والله لا يكون ذلك، فنظرت إلى سرب بجانب الدار ضيق فاقتحمته، فلما توسطته ضاق بي ذلك السرب وذلك النفق، فلم أقدر على الخروج منه، ولم أستطع النهوض، قال: فاقتحمته بشدة حتى خرجت بعد أن تخرقت ثيابي، وأثَّر السرب في لحمي حتى انكشف العظم، ومنَّ الله عليّ بالخروج فوافيت مجلس الشيخ على حالتي هذه، فأين أنت مما عرض لي؟ ثم أنشد يقول:


دببتُ إلى المجدِ والسَّاعينَ قدْ بَلَغُوا *** جُهدَ النُّفوسِ وألقَوا دُونَهُ الأزرَ
وكابدوا المجدَ حتَّى ملَّ أكثرُهُم *** وعانَقَ المجدَ مَنْ أوْفَى ومَنْ صبرَ
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر


قال أبو نصر: فسلاني ما حكاه، وهان عندي ما عرض لي من بلل للثياب بجانب ما أصابه، فلازمته حتى مات، فرحمة الله على الجميع.

هم أسلافنا، وندعي الصلة بهم، فهل مجالسنا مجالسهم، وهممنا هممهم؟


لمَّا تَبَدَّلَتِ المَجالسُ أوجُهًا *** غيرَ الذينَ عَهِدتُ مِنْ عُلمائِهَا
ورأيتُها محفوفةً بِسِوَى الأُلَى *** كَانُوا وُلاةَ صُدُورِهَا وفَنَائِها
أنشدتُ بيتًا ثائرًا متقدمًا *** والعينُ قدْ شرَقَت بجَارِي مائِها
أما الخيامُ فإنَّها كخيامهِم *** وأَرَى نِساءَ الحَيِّ غيرَ نِسَائِها
يا حسرةً من لي بصفقةِ رابح *** فِي مَتْجَرٍ والعِلْمُ رأسُ المالِ؟
يا ويح أهل العلمِ كيفَ تأخَّرُوا *** والسَّبْقُ كُلُّ السَّبْقِ للجُهَّالِ
فإِلَى إلهِي المُشْتَكَى وبفضلِهِ *** دونَ الأنامِ منوطة آمَالِي


لله هذه المواقف، ما أبلغها! وما أعلى على هام الثُّريَّا مواضعها! وهكذا فليكن الطلب وإلا فلا.


إن هذه الصفحة -أعني الماضية- لتذكِّر بموقف آخر (لابن برهان)؛ كما جاء في (طبقات الشافعية)، يوم تزاحم الطلاّب على بابه حتى صار جميع نهاره، وقطعة من ليله مستوعبًا في التدريس، يجلس من وقت السحر إلى وقت العشاء الآخرة، ويتأخر أحياناً بعدها إذا دعت الحاجة لذلك.

ذكر أن مجموعة من طلبة العلم سألوه أن يدرس لهم كتابًا فقال: لا أجد لكم وقتاً، فذكروا أوقاتًا معينة فلم يجد إلا في نصف الليل فوافقوا.

وانظر يا أخي كيف نظم أوقاته للعبادة، والطاعة، والمنام، والمطالعة، والحفظ، والتدريس، والقراءة، وهذا شيء هام جدًا يتمكن به العالم وطالب العلم من بلوغ مرغوباته العلمية جميعًا، فلا يطغى مرغوب على مرغوب.

ثم انظر أخي طالب العلم رعاك الله إلى هذا الصبر العجيب من هذا الشيخ الجليل على بث العلم ونشره، والاحتساب في أدائه ونقله.

ثم انظر أخرى إلى هذا الشوق والحرص المحرق من أولئك الطلبة المحترقين بالعلم الذين لم يجدوا وقتًا ليقرؤوا عليه إلا نصف الليل، فأتوا مسرورين وظنوا أنهم محظوظين مكرمون، ثم انظر لذلك الذي نسى بدنه واقتحم السرب وخرج اللحم عن العظم ليحظى بالقرب من العالم ليستفيد فلله در أولئك الشيوخ! ولله در أولئك الآباء والطلبة الأبناء! ما أشد حب أولئك للطلب! وما أصبر أولئك على إشاعة العلم وإيصاله للمتعلمين! أداءً للأمانة ووفاءً بالعهد.

وإنا لله من طلبة هذا العصر الذين يستعجلون دق الجرس ليخرجوا من الدرس المؤقت بخمس وأربعين دقيقة في ألين الأوقات راحةً. وأفضلها نشاطًا وأجمعها ذهنا من قاعات مبردة صيفًا مدفأة شتاءً يخرجون يزحم بعضهم بعضًا كأنما يفرون من حريق أو ينطلقون من سجن ظالم عنيد وآه لهم.


إذا مَا علا المرء رَامَ العُلا *** ويقنَعُ بالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا
إذَا رأيْتَ شبابَ الحيِّ قَدْ نشئوا *** لا ينقلونَ مِدَادَ الحِبْرِ والوَرَقِ
وَلا تَرَاهُم لَدَى الأشْيَاخِ في حِلَق *** يَعُونَ مِنْ صَالحِ الأخبارِ مَا اتَّسَقَ
فذَرْهُم وعنكَ واعْلَم أنَّهُم هَمَجٌ *** قد بَدَّلُوا بِعُلُوِّ الهِمَّةِ الخَرَقَ
أنتم كأسلافكم ومنْ *** يشابِه أبَهُ فمَا ظَلَمْ
على المرءِ أنْ يَسعَى إلَى الخيرِ جاهدًا، وليسَ علَيْهِ أن تَتِمَّ المَقاصِدُ
فانْفُضُوا النومَ وهُبُّوا للعُلا *** فالعلا وقْفٌ علَى منْ لَمْ يَنَم
أفيقوا لا مجال لخامل *** ولا سبْقَ إلا للذي يتَقَحَمُ


الصفحة العاشرة:

استراحة في السير (للذهبي)، أن (همّام بن منبه)، قعد في مجلس (ابن الزبير)، وكان هناك رجل من (نجران) يعظمونه اسمه (حنش)، كبير السن، وليس له لحية، فقال رجل قرشي في مجلس (لابن الزبير) لهمام: من أين أنت؟

قال همام: من أهل اليمن، قال: ما فعلت عجوزكم؛ يعني كبير السن (حنش)؟

قال -واسمعوا إلى القول-: عجوزنا أسلمت مع (سليمان) لله رب العالمين، وعجوزكم يا قريش حمَّالة الحطب، فبهت القرشي.

وقال ابن الزبير: أتدري من كلَّمت؟ إنه همام، وله من اسمه نصيب.

وروى أن (أبا حنيفة) رحمه الله  كان عند الخليفة العباسي (أبي جعفر) ومعه (الربيع) حاجبه، وكان بين الربيع وبين أبي حنيفة بعض سوء فهم فقال الربيع محاولاً الإيقاع بين أبي حنيفة وأبي جعفر قال: يا أمير المؤمنين إن هذا يخالف جدك ابن عباس فلا يجيز الاستثناء في اليمين إلا متصلاً باليمين، لو استثنى بعد يوم لا يجوز له ذلك.

فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب الناس بيعة، فقال المنصور: كيف؟

قال أبو حنيفة: إنهم يحلفون لك على البيعة، ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم، فضحك المنصور.

وقال للربيع: لا تعرض لأبي حنيفة، وانقلب السحر -كما يقال- على الساحر.


وفي السير (للذهبي): أرسل الأمير (عيسى بن موسى) إلى الإمام (الأعمش])، بألف درهم وصحيفة ليكتب له فيها الحديث.

فكتب فيها (الأعمش): بسم الله الرحمن الرحيم، قل هو الله أحد، ثم أرسل بها إليه، فلما وصلت إلى عيسى رفعها ونظر فيها.

وقال: يا ابن الفاعلة؛ ظننت أني لا أحسن كتاب الله.

فرد عليه (الأعمش) قال: وظننت أني أبيع الحديث.

وفي السير (للذهبي) أيضًا أنه أوتي (بعبد الرحمن بن عائد)، إلى الحجاج، فقال له الحجاج: كيف أصبحت؟

قال: لا كما يريد الله، ولا كما يريد الشيطان، ولا كما أريد.

قال: ويحك ما تقول؟ قال: نعم، يريد الله أن أكون عابدًا زاهدًا، وأنا أعلم أني لست كذلك، ويريد الشيطان أن أكون فاسقًا مارقًا، وما أنا بذاك، وأريد أن أكون مخلاًّ في بيتي، آمنا في أهلي، ولم تتركني يا حجاج، فقال الحجاج أدبٌ عراقي، ومولدٌ شامي، وجيرانناً إذ كنا بالطائف، خلُّوا عنه، فخلوا عنه.


وفي السير (للذهبي) أيضًا أن (سليمان بن عبد الملك)، استصغر (أبا العلاء)؛ مولى من موالي (الحجاج)؛ كان هذا مشوهًا ودميمًا.

فقال هذا المولى: إنك رأيتني والأمور مدبرة عني، ولو رأيتني وهي مقبلة لاستعظمت ما احتقرت، فقال سليمان قاتلك الله، ما أسدَّ عقلك! أترى الحجاج يهوي بعد في جهنم أم بلغ قعرها؟

يقول سليمان: قال: لا تقل ذاك، فإنه يحشر مع من ولاَّه، والذي ولاَّه (أبو سليمان)، فقال: مثل هذا فليُصْطَنَع.

ودخل أعرابي على (سليمان بن عبد الملك) فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني مكلِّمك بكلام فاحتمله وإن كرهته؛ فإن وراءه ما تحب إن قبلته؟

فقال: يا أعرابي -وكان عاقلاً- إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غشه، فكيف بما نأمن غشه، ونرجو نصحه؟

فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين؛ لقد تكنَّفك رجالاً أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله؛ فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعًا، وفي الأمة خَسْفًا وعَسْفًا، وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك؛ فإن أعظم الناس غُبْنًا من باع آخرته بدنيا غيره.

فقال سليمان: يا أعرابي أما إنك سللت لسانك وهو أقطع من سيفك.

قال: أجل يا أمير المؤمنين، ولكن لك لا عليك، لك لا عليك، والدين النصيحة، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششه، والنصيحة لك لا عليك.


الصفحة الحادية عشر: من أورق بوعد فليثمر بفعل.

يروي أهل السير أن (عبد الله بن عمر) رضي الله عنه أعطى رجلاً من قريش شبه وعد أن يزوجه ابنته، فلما حضرته الوفاة أرسل إليه فزوَّجه إياها، وقال: كرهت أن ألقى الله عزّ وجلّ بثلث نفاق.


إذا قالَ تمَّ عَلَى قولِهِ *** ومات العناءُ بلا أو نَعَمْ
وبعضُ الرجالِ بمَوعودِه *** قريبٌ وبالفِعْلِ تحتَ الرَّجَم
كجَارِي السرابِ تَرَى لمعَهُ *** ولستَ بواجِدِهِ عِنْدَكُم


هذه الصفحة رسالة لي، ولإخوتي معشر طلاب العلم، وللناس عامة؛ أن نتقي الله فيما نعد به؛ فكم من أوقات تهدر ومصالح للأمة تتعطل بناء على مواعيد عرقوب، يعدك الواحد في السابعة ويأتيك إن أتى في العاشرة، أو لا يأتيك ولا يعتذر إليك عن مجيئه.

وما هكذا تكون أخلاق المسلم أبدًا، إن عرقوب المضروب به المثل أصبح واقع كثيراً هذه الأيام.

وما قصة عرقوب؟ يأتيه أخ محتاج سائل فيسأله شيئًا، فقال عرقوب: إذا أطلع النخل أعطيتك، فلما أطلع أتاه فقال: إذا صار بلحًا أعطيتك، فلما صار بلحًا أتاه، فقال: إذا أزهى بحمرة وصفرة، فلما أزهى أتاه، فقال: إذا أرطب، (إذا صار رطبًا)، فلما صار رطباً أتاه، فقال: إذا صار تمرًا، فلما صار تمرًا خرج إليه في الليل، وقطعه في الليل ولم يعط أخاه شيئًا، فقال ذلك الرجل:


وعدتني ثم لم تُوف بموعدتي *** فكنت كالمُزْن لم يمطرْ وقدْ رعَدَ
كانت مواعيد عرقوبٍ لنا مثلا *** وما مواعيدُهُ إلاَّ الأبَاطِيـــلُ


فيا أيها المؤمنون عامة؛ ويا طلبة العلم خاصة؛ إن وعد الكريم نقض، ووعد اللئيم تسويف، فإن وعدت بخير فأوف، وإن وعدت بشر فاعف، وإياك أن تلقى الله بخصلة نفاق؛ فإن من آية المنافق أنه إذا حدَّث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف، والنسيان جائز ومغفور، {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.


الصفحة الأخيرة: الحق يدفع الباطل.

أورد (ابن كثير) في (البداية والنهاية) أنه في القرن الخامس الهجري زور يهود (خيبر) إحدى الوثائق -وكثيرًا ما يزورون ويغشون ويكذبون ويفترون ويمكرون، وتاريخهم لا يخفى على ذي عين- زعموا في وثيقتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الجزية، وأقرهم على خيبر، يمكثون فيها ما شاءوا.

وكما هو معلوم فقد أخرجهم عمر رضي الله عنه وما أخرجهم عبثًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:أ «خرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب».

حاولوا بهذه الوثيقة الرجوع إلى خيبر كما يحاولون في كل زمان وبكل الوسائل المتاحة لإطفاء النور، ولن يرضوا حتى تتبع ملتهم، والله متم نوره ولو كرهوا وخططوا ودبروا، ومكروا والله خير الماكرين، والعاقبة للمتقين زوروا الوثيقة وجاءوا بها إلى الوزير العباسي (أبي القاسم بن مسلمة)، جاءوا إليه وقالوا: معنا كتاب نبوي بإسقاط الجزية وإقرارنا على خيبر، بكتابة صحابي، وشهادة الصحابة، نظر الوزير في الوثيقة فكر وقدَّر وتأمل وتملَّى، ثم لم يفصل في المسألة، بل رد الأمر إلى أهله الذين يستنبطونه، دفع الكتاب -وحسنًا فعل- إلى الحافظ (الخطيب البغدادي)؛ شيخ علماء بغداد ومؤرخها ومحدثها في عصره.

فنظر فيها ثم قال: هذا كذب والذي لا إله إلا هو، قال الوزير: كيف ذلك؟ ما دليل كذبها، أريد دليلاً؟

قال: لأنها بكتابة وشهادة (معاوية بن أبي سفيان) رضي الله عنه ولم يكن أسلم إلا عام (فتح مكة)، فكيف يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم أو يشهد قبل إسلامه بعام؟! هذه واحدة.

أما الثانية فهي بشهادة (سعد بن معاذ) رضي الله عنه وسعد بن معاذ قد مات بعد الأحزاب وقبل خيبر، فكيف يشهد بعد وفاته بأكثر من عام؟ فبهت الذين كفروا، والله لا يهدي القوم الظالمين، وخابوا وخسروا، أولئك في الأذلين.

بذلك نقضت الوثيقة، وظهر زيفها وباطلها، ولو جيء بها إلى غير أهلها العلماء لوقعت الأمة في شباك أعدائها ولكنه العلم.


العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه *** كما يجلي سوادَ الظلمة القمرُ


وقبل ذلك بعدة قرون يجئ رجل من الخوارج إلى (أبي حنيفة) رحمه الله فيقول له: تب وعد إلى الله، قال أبو حنيفة: مِمَّ؟

قال الخارجي: من قولك بتجويز الحكمين في الخلاف بين (علي)،(ومعاوية)، والله يقول:  {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.

فقال أبو حنيفة: ألا تقبل أن تناظرني في هذا الموضوع؟

قال الخارجي: قد قبلت، فقال أبو حنيفة: فإن اختلفنا فمن يحكم بيني وبينك؟ قال الخارجي: من شئت.

قال وكان مع الخارجي صاحب له آخر فالتفت أبو حنيفة إلى صاحبه وقال: اقعد فاحكم بيننا فيما اختلفنا فيه إن اختلفنا، فسر الخارجي بكون صاحبه هو الحكم، عندها فاجأه أبو حنيفة قائلاً: أترضى بهذا حكماً بيني وبينك؟

قال: نعم.

فقال أبو حنيفة: إذًا أنت جوَّزت التحكيم، فبهت الخارجي ولم يحر جوابًا، وبهت الذين كفروا، والله لا يهدي القوم الظالمين.

العلم فيه حياة للقلوب؛ كما تحي البلاد إذا ما مسها المطر.

وإن نسيت فلا أنس بالأمس القريب يوم يزور أحد علماء المسلمين مدرسة نصرانية، ويجري حديثا طويلاً بينه وبين مديرها، فكان مما قاله هذا العالم لمديرها: "لماذا تحملون على الإسلام وعلى نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم  في كتبكم المدرسية، وفي اجتماعاتكم بما لا يصح أن يقال في عصر تعارفت فيه الشعوب، والتقت فيه الثقافات كما تدعون؟

فأجاب قائلاً: نحن الغربيين لا نستطيع أن نحترم رجلاً تزوج من تسع نساء؛ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: ومن تحترمون من أنبياء الله؟ هل تحترمون نبي الله (داود) عليه صلوات الله وسلامه؟

قال: نعم إنه من أنبياء التوراة.

قال: ونبي الله سليمان؟

قال: نعم إنه من أنبياء التوراة أيضًا.

فقال العالم المستضيئ بنور العلم الساطع، بحجة الحق، إن نبي الله (داود) كان له تسع وتسعون زوجة، وأكملهن مائة من أجمل فتيات زمانهن، ونبي الله (سليمان) كما جاء في التوراة له سبعمائة زوجة وثلاثمائة ألف جارية، وكنّ من أجمل أهل زمانهن، فلم يستحق احترامكم من يتزوج ألف امرأة، ولا يستحق احترامكم من يتزوج تسعًا؛ ثماني منهن ثيِّبات وأمهات، والتاسعة هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوجها طيلة العمر، فسكت الرجل، وألقم الحجر، ولم يَحِر جوابًا.

والحق يعلو والأباطل تسفله، أرأيتم إلى العلماء يا أيها الأحبة كيف يدفعون الشبه عن الأمة، ويلجمون من يقع في الأنبياء؟ لأنهم ورثة الأنبياء، بل إنهم صمام أمان الأمة ولا شك، إليهم يُرْجع في النوازل والمدلهمات، فضلهم عظيم، خطرهم جزيل، الحيتان والنمل لهم في البحر والجحور تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة تشفع.

حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، لا يتوقع منهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بجميل موعظتهم يرجع المقصرون، الطاعة لهم في غير معصية الله واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد، ومن عصاهم عند، ما ورد على إمام المسلمين من أمر اشتبه عليه فبقول العلماء يعمل، وعن رأيهم يصدر، وما ورد على ولاة المسلمين من حكم لا علم لهم به فبقولهم يعملون، وعن رأيهم يصدرون، وما أشكل على قضاة المسلمين من حكم، فبقول العلماء يحكمون وبعلمهم وعلى علمهم يعولون، حجة الله على العباد، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ} هم سراج البلاد، ومنار العباد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحي قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيف، مَثَلهم في الأرض كالنجوم في السماء يُهْتَدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا طمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر الظلام أبصروا.


فليس ذو العلم بالفتوى كجاهلها *** ولا البصير كأعمى ما له بصر
لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة
ومن وقع في العلماء بالسلب *** بلاه الله قبل موته بموت القلب


أحبتي في الله؛ هذا ما تيسر جمعه من طي الصفحات من تاريخ مشرف احتوى على أحداث ووقائع قامت على أكتاف رجال كالنجوم تضيء لمن يسري، وتبدد الظلام.

رجال أسسوا حضارة نابعة من عقيدة ليست مَسْخًا مشوَّهًا من حضارات مشوهة، لم يقيموا حضارتنا على فكر بشري، أو رؤية شخصية، بل أدركوا دورهم وفق ما شرعه الله، فقدموا الإسلام في صورة بناء حقيقي متماسك، في صورة مجتمع ملموس محسوس، في صورة أمَّة واقعية، فلم يتخلوا عن حياتهم، ويقبعوا في زوايا مساجدهم، بل انتشروا في الأرض يدعون بدعوة المرسلين: أن اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره، فكانت حضارة الإسلام التي نعم بها العالم أجمع، حضارة تجمع الدين والدنيا، تحققت بها مطالب البشرية من غير اعتبارات جاهلية لعنصر أو لون أو قومية. أكرمكم أتقاكم، صفحات مطوية مضيئة وضعتها بين أيديكم مشعلا ومنارًا ومَعْلَمًا ومقتدىً مع اشتغال البال، وكثرة الأوزار، فلعل سامعًا ينتفع بها. جعل الله الجهد نافعًا، وجعلني للحق طالبًا، ومن الشر محذرًا، وإلى الخير مناديًا.


فلئن أُفِدْ أو قد أَجَدتُّ فإنها *** مطوية من ربنا الباري فَتَح
فالله يجزيكم بأجر وافر *** ويثيبكم ويزيدكم مِمَّا صَلَح
ويبارك الرحمن في أوقاتكم *** حتى نرى منكم سواها قد نجح
ثم الصلاة مع السلام لأحمد *** والآل والأصحاب ما نُور وَضَح


اللهم إنا نسألك بأنَّا نشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، نسألك بكل اسم هو لك، ونسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تدمر أعداء الدين، وأن تصلح من في صلاحه صلاح الإسلام والمسلمين، وأن تهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين. اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واخلفنا بركنك الذي لا يرام، ولا تهلكنا وأنت رجاؤنا. يا رب كم من نعمة أنعمت بها علينا قلَّ لك عندها شكرنا، وكم من بليَّة ابتليتنا بها قل لها عندك صبرنا. يا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا، ويا من قل عند بليته صبرنا فلم يخذلنا، يا من رآنا على المعاصي فلم يفضحنا، يا ذا النعم التي لا تحصى، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدًا، هب لنا فرجًا قريبًا، وصبرًا جميلا، وأعنَّا على ديننا بدنيانا،وعلى آخرتنا بتقوى، وكن لنا في الآخرة والأولى، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وتول أمرنا، أنت حسبنا ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل. وآخر دعوانا أَنِ الحمد لله رب العالمين وصل اللهم على سيدنا محمد وسبحانك اللهم وبحمدك.          

علي بن عبد الخالق القرني

داعية معروف بفصاحته .. وهو من أرض الحجاز

  • 25
  • 3
  • 37,045

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً