فألهمها فجورها وتقواها

منذ 2014-04-04

لا يقبل الله سبحانه وتعالى من النفوس إلا الزكية العابدة التقية، التي غلبت هواها وكسرت شهواتها.

النفس البشرية عجيبة من عجائب الخلق، وآية من آيات الله سبحانه، جل مَن أبدعها، وتعالى مَن أبرأها.

هي الصالحة التَّقية المطمئنة إذا تاقت إلى مولاها، وتعبدت إلى خالقها، وانضبطت بضوابط شرع نبيها صلى الله عليه وسلم، وتقاربت من صفاته.

وهي الفاجرة الفاسدة المتمردة إنْ هي نَأَت وبعُدت وانحرفت عن سبيل ربها المستقيم، وتقاربت مع سُبُل الشيطان الرجيم.

والنفس البشرية عميقةٌ عمقَ البحر الأعظم، وخفيةٌ خفاءً لا حدود له، وواسعةُ الجنان، مترامية الأركان، تحوي العالم بأسره، وتزيد، وكل امرئ يحمل بين جَنَباتِه نفسَه يستطيع أنْ يحيا بها في عالم مخصوص.

ولكل نفس صفات وأوصاف، رغبات، وشطحات، وآمال.

ولكل نفس خفايا ومناحٍ، ولكل نفس قدرة على المكر والخداع والتلوُّن.

فكل امرئ مِن حولنا يعيش في عالم نفسه، ويحيا في محيطها، ينضبط بضوابط عالمها، ويسير في مسالكها التي نظمت لها، حتى لكأنه أُمَّة وحده، فلربما يكون أمام الناس صالحًا ونفسه تغلي بالشرور، وربما يكون أمام الناس خاشعًا ونفسه تعاني داء الكِبْر، ولربما يكون أمام الناس متصدِّقًا، ونفسه يملؤها الشح والبخل، ولربما يعمل العمل الحسن ورجاؤه مِن خلفه خبيث، ولربما يتكلم بالكلمة الحسنة يريد بها غرضًا شريرًا، أو ربما يصمت فلا يتكلم يريد بذلك عجبًا وفخارًا، حتى إنه في بعض الأحيان لينتقص نفسَه وينتقدها ويسبُّها أمام الناس، وهو يرجو رِفعتها وتعظيمها، وأنْ يُقال عنه: عابد وَرِع.

ولذلك لا يحاسب اللهُ الناسَ على مجرد أعمالهم الظاهرة، بل على طهارة نفوسهم وسلامة قلوبهم، ولا يقبل سبحانه من النفوس إلا الزكية العابدة التقية، التي غلبت هواها وكسرت شهواتها، مستقيمة على أمر الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9-10]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم وﻻ إلى صُوَركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم». (رواه مسلم [2564]).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يرى الناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار؛ فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يرى الناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة؛ فيدخلها». (رواه البخاري [6493]، وابن ماجه [76]).

إنه الرياء إذًا، والنفاق إذًا، الذي جعل ذلك الذي يعمل أعمالًا تُرى للناس حسنةً، وهي في الحقيقة خبيثة، وفي الحديث: «أول مَن تُسَعَّر بهم النار ثلاثة: مجاهد، ومتصدق، وقارئ» (رواه الترمذي [2382])، سُعِّرت بهم النار لكونهم عملوا تلك الأعمال من أجل الناس؛ شهرةً ورياءً، ولم يريدوا بها وجهُ الله.

إنها أَنْفُس هؤلاء التي كدَّستهم في النار، وإنها أَنْفُس كثير من أهل الخيانة والكذب والنفاق، استطاعوا أنْ يخدعوا الناس بمظاهرهم، وقلوبُهم أنتنُ من الجِيَف، ففضح الله سترَهم، وكشف خبيئتهم، ولقَّاهم حسابَهم أمام الخلائق أجمعين.

الصالحون أدركوا تلك الحقيقة، فسارعوا في تهذيب نفوسهم، وتأديبها، وكبح جماحها، والإمساك بزمامها، وإقامتها على أمرِ الله، فعَرَفوا خفاياها، وأدركوا مرادها، فصاروا يحذِّرون الناس من مسالكها، فنصحوا الناس فقالوا: "خير الأعمال ما أُكْرِهَت عليه النفس"، وقالوا: "إن النفس كالطفل إذا ربَّيتها على حب الرضاعة تعوَّدت، وإنْ فطمتها تنفطم"، وقالوا: "إنَّ النفس إنْ لم تشغلها بالحق؛ شغلتك بالباطل"، وقالوا: "إنََّ هوى النفس قائدها إلى النار، ومَكَارِهَها قائدتُها إلى الجنة".

وجماع تهذيب النفس وتربيتها أربعة أمور:

  • أولها: مراقبة الله الواحد الأحد.
  • وثانيها: كثرة ذِكْره، قيامًا وقعودًا.
  • وثالثها: تذكُّر الآخرة، فلا تغيب.
  • ورابعها: عدم إجابتها فيما تُحب إلا إنْ كان في مرضاة الله، قال سبحانه: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ. وَآثَرَ‌ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ. وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَ‌بِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} [النازعات:37-41].

 

خالد رُوشه

27 /5/ 1435 هـ

  • 1
  • 0
  • 2,139

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً