إن إبراهيم كان أمة - (14) بعض الدروس المستفادة من حياة نبي الله إبراهيم عليه السلام

منذ 2014-04-04

ذكر القرآن الكريم في سورة الأنعام قوله تعالى:" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " (آية 74). وقال محمد بن اسحق والكلبي والضحاك: اسم أبي إبراهيم وهو تارح، ضبطه بعضهم بالحاء المهملة، وبعضهم بالخاء المعجمة (ابن كثير في تفسير الأنعام 6: 74)...

(14) بعض الدروس المستفادة من حياة نبي الله إبراهيم عليه السلام

لما كانت قصص الأنبياء عليهم السلام مذكورة في القرآن للعظة والعبرة والاستفادة منها كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]، وجب علينا أن نقف متأملين متدبرين في قصة إبراهيم عليه السلام، في محاولة لاستنباط الفوائد والعبر. ومن ذلك:

 

- الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى:

وهذه هي مهمة الأنبياء والمرسلين ومن سار على طريقهم ونهج نهجهم، فالواجب على كل مسلم أن يدعو إلى الله عز وجل في كل وقت وفي كل مكان وبشتى الطرق والوسائل وألا يدخر في سبيل ذلك جهدًا. فهذه الطريق هي طريق الأنبياء والمرسلين وهي أعظم غاية وأشرف هدف؛ قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]؛ فالمتُبع الحق للنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف وينهَ عن المُنكر.

وقد ضرب لنا إبراهيم عليه السلام أروع الأمثلة في كيفية الدعوة إلى الله تعالى؛ فنجده بدأ بدعوة أقرب الأقربين منه وهو أبوه آزر، ونجده يخاطب أباه بأرق عبارة، وبألطف إشارة، وبأبلغ بيان، وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن ينتهجه القائم بأمر الدعوة كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].

ثم نجده عليه السلام لم يترك وسيلة يتوقع عن طريقها أن يهتدي أبوه وقومه إلا استخدمها، كالدعوة باللين والحكمة ثم بالحجة البالغة عن طريق المشاهدة والمعاينة. ومع ذلك يجب أن يعلم الداعي إلى الله أن الهداية بيد الله وحده كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].

 

- الصبر على المصائب وتحمل الأذى:

فقد لاقى إبراهيم عليه السلام في سبيل الدعوة إلى الله تعالى الكثير من الأذى من قومه ووالده، فقد هدده والده بالرجم إن لم ينتهِ عن الدعوة، وقام قومه بتسفيهه والتحقير من شأنه ومع ذلك صبر وواصل مشوار الدعوة حتى أجمع قومه على حرقه في النار، ومع ذلك لم يرجع عن دعوته وإنما صبر وتوكل على الله وفوض أمره لله تعالى وكما في حديث ابن عباسٍ قال: "{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}" (رواه البخاري). فمما يجب علينا أن نصبر على تحمل الأذى في سبيل الدعوة ولا ننسى أن جميع الرسل والأنبياء قد لاقوا من أقوامهم ما لاقوا ومع ذلك صبروا واحتسبوا، ولم يتخلوا يومًا عن مهمتهم الشريفة تلك.

 

- الهجرة في سبيل الله:

فالواجب على المسلم أن يهاجر بدينه من أرض الكفر وأرض الفتن إلى أرض أخرى ليدعو إلى الله ويعبد الله تعالى فيها. فقد هاجر إبراهيم عليه السلام من بلاده بابل في العراق إلى الأرض المقدسة ومن ثم إلى مصر ثم عاد مرة أخرى إلى الأرض المقدسة. وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر أصحابة أولاً بالهجرة إلى الحبشة ليفروا بدينهم من الفتن ومن العذاب الذي كاله لهم الكفار، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه مرة أخرى إلى المدينة المنورة لينشر الإسلام. وكذلك عند التوبة يجب على المرء أن يعتزل أهل المعاصي وأن يهاجر من دياره إلى ديار المؤمنين الصالحين الذين يعبدون الله تعالى ويعينونه على الطاعة.

 

- صدق التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب:

وهذا نراه جليًا واضحًا فيما فعلته السيدة هاجر أم إسماعيل عليه السلام عندما تركها إبراهيم عليه السلام وحيدة في مكان لا زرع فيه ولا ماء ولا إنس ولا طير، عندما علمت أن الله سبحانه هو من أمر خليله بهذا أيقنت أنه تعالى لن يضيعهم وسيرزقهم ومع ذلك لم تتكل على هذا الأمر وتجلس تنتظر وإنما سارعت إلى الجبال القريبة منها وصعدتها لتنظر إن كان هناك زرع أو ماء قريب بل إنها لم تقعل ذلك مرة واحدة وإنما فعلت ذلك سبع مرات.

فالتوكل هو صفة من صفات المؤمن الحق، أما التواكل فليس من صفات المؤمن. قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] فالقلب يعتمد على الله جلَّ وعلا ويعلم يقينًا أن الله بيده كل شيء ومع ذلك على المرء أن يأخذ بالأسباب الموصلة إلى الهدف الذي يسعى من أجله. فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد المتوكلين على الله تعالى أخذ بالأسباب في هجرته الشريفة وفي الكثير والكثير من المواقف. قال سهل التستري رحمه الله: "الأخذ بالأسباب سنة النبي، والتوكل على الله حال النبي؛ فمن طعن في الأسباب، فقد طعن في السن، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان. فمن كان على حال النبي فلا يتركن سنة النبي".

فائدة: "لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله في الحديث: الله أمرك بهذا ؟ قال: نعم" (تفسير القرطبي).

 

-الفزع إلى الصلاة حال الخوف:

ففي الصلاة راحة للنفس وطمأنينة للقلب ومناجاة للرب؛ فإن إبراهيم عليه السلام فزع إلى الصلاة ونصب قدميه بين يدي ربه حينما ذهبت زوجته سارة إلى جبار مصر.. قام يدعو الله عز وجل ولم يزل كذلك حتى عادت زوجته سالمة غانمة بفضل الله تعالى. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفزع إلى الصلاة إذا ألَمَّ به خطبٌ ما. فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى" (رواه أحمد وأبو داوود).

 

- الاستغفار بعد الفراغ من العبادة:

وهذا شأن الصالحين حيث تكون قلوبهم وجلة خائفة ألا يتقبل الله منهم أعمالهم؛ فإبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل قالا بعد الفراغ من بناء البيت الحرام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:127، 128].

 

- من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه:

فالله سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين لا يتفضل عليه أحد من العالمين فمن ترك من أجله شيئًا عوضه مثله وزيادة؛ فإن إبراهيم عليه السلام لم أيس من قومه قرر أن يعتزلهم ويبتعد عنهم فوهب الله سبحانه وتعالى له على الكبر إسماعيل وإسحاق. قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49].

 

وهناك الكثير الكثير من الدروس المستفادة من حياة أبينا إبراهيم عليه السلام سبق وأن أشرت إليها في خضم الحديث عنه عليه السلام، ومن ذلك:

- إكرام الضيوف وآداب الضيافة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (رواه البخاري).

- رد السلام بأحسن منه؛ قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء:86].

 

وإلى هنا أكون قد انتهيت من هذه السلسلة الطيبة.. وما كان من توفيق فمن الله تعالى وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان. وأسأل الله تعالى أن ينفع بها كل من يقرأها وأن تكون حجة لي يوم القيامة. وأسأل الله تعالى أن يغفر لي ولوالدي وأن يرحمهما ويجزهما عني خير الجزاء، وأن يبارك لي في وذريتي، ويعفو عنا يوم الحساب.

وصلِ اللهم وسلم وبارِك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

سدرة المُنتهى

  • 218
  • 42
  • 521,575
المقال السابق
(13) صفة إبراهيم عليه السلام وبعض فضائله
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً