وفاء الرسول

منذ 2014-04-09

بمجرد استيلاء النصارى على الأندلس تبخرت كل الوعود, واستحل النصارى الأموال والديار, وتم إكراه المسلمين على التنصر بما عرف في التاريخ بمحاكم التفتيش.

الوفاء من الرحمة :

كان محمد حليمًا رقيق القلب عظيم الإنسانية[1].

في أواخر أيام دولة الأندلس وقّع حاكم مدينة غرناطة معاهدة بينه وبين ملك قشتالة تنص على استسلام بلاده وتسليمها للنصارى, وتضمنت معاهدة التسليم سبعة وستين شرطًا بما يحفظ على المسلمين دينهم وعرضهم وأموالهم, ولكن بمجرد استيلاء النصارى على الأندلس تبخرت كل الوعود, واستحل النصارى الأموال والديار, وتم إكراه المسلمين على التنصر بما عرف في التاريخ بمحاكم التفتيش حتى تم محو الإسلام من أسبانيا بأكملها -الأندلس سابقًا-[2].

هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!!
بَلَغَ مِنْ رحمة رسول الله بغير المسلمين أنّه حَرَّمَ الغدر بهم ولو كان هذا في زمان الحرب, ولم يُؤْثَر عن الرسول أنه غَدَرَ بعهدٍ قطُّ, بل كان مثالَ الوفاء الدائم, وإن غَدَرَ به أعداؤه, وسنتناول هذا المعنى من خلال النقاط التالية:

شهادة الأعداء بوفاء النبي :
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بن حرب أَخْبَرَهُ أنه عندما كان في بلاد الروم في كفره أثناء صلح الحديبية؛ أحضره هرقل بين يديه, وسأله عن الرسول بعدما وَصَّلَه -أي: هرقل- رسالة رسول الله, وكان مما سأله عنه أن قال: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ فقال أبو سفيان: لا.
ثم عَلَقَّ هرقل في ختام حِواره مع أبي سفيان قائلاً: وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لا يَغْدِرُ, وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ[3].

أمر النبي أصحابه بعدم الغدر :
ومن رحمة النبي أنه كان حريصًا على أن يغرس في نفوس الصحابة خُلُقَ الوفاء حتى في وقت الحرب؛ فقد كان يُوَدِّعُ السرايا مُوصِيًا إيّاهم: «ولا تغدروا»[4], ولم يكن ذلك في معاملات المسلمين مع إخوانهم المسلمين, بل كان مع عدوٍّ يكيد لهم, ويجمع لهم, وهم ذاهبون لحربه, فما أسمى هذه الأخلاق النبوية!!

وقد وصلت أهمية الأمر عند رسول الله إلى أن يتبرَّأ من الغادرين ولو كانوا مسلمين, ولو كان المغدورُ به كافرًا محاربًا؛ فقد قال: «مَنْ أَمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ, فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ, وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا»[5].

وقد تَرَسَّخَتْ قِيمَةُ الوفاء في نفوس الصحابة حتى إنّ عمر بن الخطاب بَلَغَهُ في ولايته أنَّ بعض المجاهدين قال لمحارب من الفرس: لا تَخَفْ, ثم قتله.

فكتب إلى قائد الجيش: "إنّه بلغني أنَّ رجالاً منكم يَطْلُبُونَ العِلْجَ –الكافر-, حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع, يقول له: "لا تَخَفْ", فإذا أَدْرَكَهُ قَتَلَهُ, وإني والذي نفسي بيده, لا يَبْلُغَنِّي أنّ أَحَدًا فَعَلَ ذَلك إلا قَطَعْتُ عُنُقَه[6]".

ذِمَّة المسلمين واحدة :
ومن رحمته بغير المسلمين في أثناء الحرب أنّه كان يَقْبَلُ بإجارة المسلم لكافر, بمعنى أنه كان يُنْفِذُ وَعْدَ المسلم أيًّا كان للكافر المحارب بالأمان, ويحضُّ المسلمين جميعًا على إنفاذ هذا الوعد والأمان.
قال رسول الله: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ, فَإِنْ جَارَتْ عَلَيْهِمْ جَائِرَةٌ, فَلا تَخْفِرُوهَا[7], فَإِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً, يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَة»[8].

وقد طبَّق الرسول هذا المبدأ تطبيقًا عمليًّا بين المسلمين؛ فأوفى بجوار أُمِّ هانئ بنت أبي طالب لأحد المشركين يوم فتح مكة؛ فقد روى البخاري, وأبو داود, والترمذي عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أنها قالت: قُلتُ: يا رسول الله, زَعَمَ ابنُ أُمِّي تقصد أخاها عَلِيَّ بن أبي طالب, أنَّه قَاتِلٌ رجلاً قد أجرتُه: فلان ابن هبيرة؛ فقال رسول الله: «‏قَدْ ‏ ‏أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا‏ ‏أُمَّ هَانِئٍ»[9].
وبَعْدُ, فهذا غَيْضٌ مِنْ فَيْضِ أخلاق الرسول في حروبه مع المشركين التي لا تُقارَن بأخلاق قادة الكفر في كل مكان وزمان.
إنّ أخلاقه لا تُوصف إلا بأنها أخلاق أنبياء, فذلك أصدق وصفٍ لها, وكفى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (إميل درمنغم) مستشرق فرنسي عمل مديرًا لمكتبة الجزائر: (حياة محمد, تعريب عادل زعيتر, ط [2], دار العلم للملايين, صـ [183]).
[2] د. عبد الرحمن على الحجي, (التاريخ الأندلسي, ص[552]- [570]) بتصرف.
[3] البخاري في التفسير: سورة آل عمران [4278], ومسلم: كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام [1773], وابن حبان [6555].
[4] الحاكم [8623], وقال الذهبي قي التلخيص: صحيح. ابن هشام: (السيرة النبوية [2/631]).
[5] البخاري في (التاريخ الكبير [3/322], واللفظ له, وابن حبان [5982], والبزار [2308], والطبراني في [الكبير [64]), وفي (الصغير [38]), والطيالسي [1285], و أبو نعيم في الحلية [9/24] من طرق عن السدي عن رفاعة بن شداد. وقال الألباني: صحيح. انظر: (حديث [6103] في صحيح الجامع).
[6] الإمام مالك في (الموطأ برواية يحيى الليثي [967]).
[7] أخفره: نقض عهده.
[8] الحاكم [2626] وقال: صحيح الإسناد, وأبو يعلى [4392], وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح, وقال الألباني: صحيح. انظر (حديث [6683] في صحيح الجامع).
[9] البخاري: كتاب الجزية, باب أمان النساء وجوارهن [3000], ومسلم في الحيض باب تَسَتُّر المغتسل بثوب ونحوه [336], ومالك في (الموطأ برواية يحيى الليثي [356]), وأبو داود [2763], وأحمد [26936], وابن حبان [1188], والحاكم [6874], والطبراني في (الكبير [989]), والبيهقي في (سننه الكبرى [17953]).

المصدر: قصة الإسلام

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 5
  • 1
  • 7,093

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً