حروب النبي مع النصارى
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبدأ أحدًا أبدًا في أي حرب خاضها بعدوان، بل كان يرد بها عدوانًا واقعًا، أو وشيكَ الوقوع؛ لأن الحرب في الإسلام ليست أول ما يلجأ إليه المسلمون لحلِّ خلافاتهم مع أعدائهم
لم يكن احتكاك النصارى بالمسلمين مبكرًا كما كان الحال مع المشركين واليهود، وذلك لندرة النصارى في منطقتي مكة والمدينة، ولكن مع ازدياد قوة المسلمين وانتشار الإسلام في الجزيرة العربية شعرت القبائل النصرانية -والتي كانت متمركزة في الأساس في مناطق الشمال- بالقلق والرِّيبة، مما دفعها إلى جمع الجموع لمهاجمة المسلمين، وذلك منعًا لقوتهم من التزايد، ولنفوذهم من النمو.
وكان أول تجمع نصراني من هذا النوع من قبائل قضاعة وغسان من أهل دومة الجندل، وكانت هذه القبائل تتعرض لقوافل المسلمين المارَّة بمناطقها، بل كان منهم من يريد غزو المدينة، أما الذي كان يُجرِّيء هذه القبائل على هذا العمل الخطير فهو ارتباطها الوثيق بالدولة الرومانية، والتي تُعَدُّ القوة الأولى في العالم في ذلك الوقت، وكانت الدولة الرومانية لا ترضى -بلا شك- عن نموِّ أي قوة منافسة في المنطقة.
وما إن علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الجمعَ يريد أن يهاجم المدينة حتى خرج إليهم، وذلك في ربيع الأول سنة 5 هـ، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة [1]، وجاء الخبرُ أهلَ دومة الجندل فتفرقوا، ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد فيها أحدًا، فأقام بها أيامًا، وبثَّ السرايا [2].
ولما ظهرت تكتلات أخرى تهدف لمحاربة المدينة أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل، وذلك في شعبان سنة 6 هـ، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بدعوتهم إلى الله تعالى، ومن بين ما قال له: «إِنِ اسْتَجَابُوا لَكَ فَتَزَوَّجِ ابْنَةَ مَلِكِهِم» [3]، -وذلك كسبًا لمودتهم وتعزيزًا للعلاقات معهم- فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل؛ فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام؛ فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانيًّا وكان رأسهم، وأسلم معه ناسٌ كثير من قومه، وتزوج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تماضر بنت الأصبغ، وقدم بها إلى المدينة [4].
وهكذا نرى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على التوادِّ والتحابِّ مَع مَنْ حوله، ودعوتهم إلى الله تعالى، والمحاولات المتكررة لإيصال الخير إليهم.
ثم حدثت أزمة شديدة عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدًا من الدعاة المسلمين إلى مشارف الشام يعلِّمون الناس مباديء الإسلام؛ فوَثَبَتْ عليهم جموع العرب الموالين للروم فقتلتهم جميعًا في مكان يُسمَّى (ذات أطلاح) [5]، وكانوا خمسةَ عشرَ داعيًا، واستطاع رئيسهم النجاة بأعجوبة [6].
وكذلك لمَّا بَعثَ الرسول صلى الله عليه وسلم الحارثَ بن عُمَير الأزدي إلى ملك بُصرَى بكتاب؛ نزل مؤتة [7] فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني -وكان الغساسنة يدينون بالنصرانية ويتبعون الدولة البيزنطية- فقال: أين تريد؟ فقال: الشام، قال: لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم. أنا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فأُمِر به فأُوثِقَ رباطًا، ثم قدمه فضرب عنقه صبرًا، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فاشتد عليه، وندب الناس فأخبرهم بمقتل الحارث ومن قتله [8].
ولم يكن أمام المسلمين إزاء هذه الحوادث إلا أن يردعوا الروم وأشياعهم حتى لا يعاودوا ما فعلوه مرةً أخرى. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم حملة تأديبية من ثلاثة آلاف مقاتلٍ أخذت طريقها إلى الشام، بَيْد أن الروم كانوا قد استعدوا بجيش كثيف لقاء هذه الكتيبة من المؤمنين، فجمعوا نحو مائتي ألفٍ من رجالهم، ومن انضم إليهم من قبائل لخم وجذام والقين وبهراء وبلى، ومع الفارق المهول بين أعداد المسلمين والرومان إلا أن المسلمين خاضوا هذه المعركة الشرسة وهي غزوة مؤتة، فقُتِلَ قادتُهم الثلاثة على التعاقب: (زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم)، وانسحب خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيشه إلى المدينة، وهنا يثور التساؤل: هل كان مطلوبًا من المسلمين أن يصمتوا على قتل رسلهم، وإهانة كرامة دولتهم، حتى لا يُتَّهَموا بأنهم هم الذين يسعون إلى القتال دائمًا؟!
وبعد مؤتة بعام تجمَّع الرومان ومن شايعهم من قبائل العرب النصرانية -(أمثال: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان)- مرَّة أخرى في منطقة البلقاء -الأردن حاليًا- يريدون دولة الإسلام، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن هناك تجمعاتٍ للرومان ومن حالفهم بهدف القضاء على المدينة المنورة.. فقرر أن يخرج إليهم في شمال الجزيرة العربية، وبالتالي خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه على رأس أعظم جيوشه، وأقرب خاصته؛ ليلقى أعتى قوة في العالم، وذلك حتى يحفظ دماء شعبه، فكانت غزوة تبوك المشهورة [9]، وأَلقى اللهُ الرعبَ في قلوب قادة الروم وجنودهم، وأتباعهم من نصارى العرب؛ ففَرُّوا خائفين لا يَلْوُون على شيء، وليس من الممكن أن يُطلَب من المسلمين أن يُغمِضوا أعينهم، ويتعامَوا عن المؤامرات التي تُحاكُ ضدهم.
هذه هي ملابسات الحروب التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين، ومع اليهود والنَّصارى، وقد ظهر لنا من خلالها أنه صلى الله عليه وسلم لم يبدأ أحدًا فيها بعدوان، بل كان يرد بها عدوانًا واقعًا، أو وشيكَ الوقوع؛ لأن الحرب في الإسلام ليست أول ما يلجأ إليه المسلمون لحلِّ خلافاتهم مع أعدائهم، بل هي دومًا -كما بينَّا- آخر الدواء.
[1] سباع بن عرفطة الغفاري، ويقال له: "الكناني"، من كبار الصحابة، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة حين خرج إلى خيبر، وإلى دومة الجندل (انظر: الاستيعاب 1/206، وأسد الغابة، 1/418، والإصابة: الترجمة:3082).
[2] ابن سعد: الطبقات 2/62، وابن هشام 3/229، والبلاذري: أنساب 1/341، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/564، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/83، وابن القيم: زاد المعاد 3/255، والمغلطاي: الإشارة ص249، والمقريزي: إمتاع الأسماع ص194.
[3] البيهقي: دلائل النبوة: رقم: 1424.
[4] انظر ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/64 – 65 بتصرف.
[5] ذات أطلاح: مكان قرب دمشق الحالية.
[6] كعب بن عُمَيْر الغفاري، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّة بعد مرَّة على السرايا، وقد بعثه صلى الله عليه وسلم إلى ذات أطلاح فأصيب أصحابه جميعًا حين قتلتهم قضاعة، وسَلِمَ هو جريحًا. انظر إلى الاستيعاب 3/380، أسد الغابة 4/175، والإصابة الترجمة (7426).
[7] قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، وبها كانت تُطبع السيوف، وهي الآن بَلْدَةٌ أُرْدُنُّيَّةٌ، تَقَعُ جَنُوبَ الْكَرْكِ، انظر: معجم البلدان 4/178- المعالم الجغرافية الواردة في السيرة النبوية، ص398.
[8] ابن سعد: الطبقات 2/128، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/208، ومغلطاي: الإشارة ص298، وابن القيم: زاد المعاد 3/381، وابن حجر في الفتح 7/511.
[9] تبوك: كانت منهلاً من أطراف الشام، وكانت من ديار قُضَاعَة تحت سلطة الروم، وقد أصبحت اليوم مدينة من مدن شمال الحجاز الرئيسية، وهي تبعد عن المدينة المنورة شمالاً (778 كلم). انظر: المعالم الجغرافية الواردة في السيرة النبوية ص 236.
- التصنيف:
- المصدر: