{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}

منذ 2014-04-14

من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى يُقسِم بما شاء من خلقه، بينما ليس لخلقه أن يُقسِموا إلا به جل وعلا. فإذا أقسم سبحانه بشيء من خلقه دل هذا على عظم هذا المخلوق، لأنه عظيم فلا يُقسِم إلا بعظيم، وعظمة هذه المخلوقات إنما هي بالنسبة لنا....

من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى يُقسِم بما شاء من خلقه، بينما ليس لخلقه أن يُقسِموا إلا به جل وعلا. فإذا أقسم سبحانه بشيء من خلقه دل هذا على عظم هذا المخلوق، لأنه عظيم فلا يُقسِم إلا بعظيم، وعظمة هذه المخلوقات إنما هي بالنسبة لنا، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، ويقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، ويقول: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم من الآية:27].

قال ابن كثير رحمه الله: "قال العَوْفي، عن ابن عباس رضي الله عنهما: كلٌ عليه هين. وكذا قال الربيع بن خُثَيْم" (تفسير ابن كثير: [6/312]).

فإذا أقسم سبحانه بهذه المخلوقات فإنما يقسم بها ليتفكر الناس في عظمتها، ويعلموا أن هذا الخلق دليل من أدلة كثيرة على أنه سبحانه وتعالى خالقهم لا خالق لهم سواه؛ فيكون المستحق للعبادة وحده دون من يعجز عن خلق ذبابة.

وإذا ذكر جواب القسم -وهذا هو الغالب- فإنه يدل الناس على قضية من القضايا المهمة؛ كالتوحيد، أو صدق القرآن، أو صدق الرسول، أو الجزاء والوعد والوعيد، أو ليدل على بعض أحوال الإنسان، وهو ما يستدعي إعمال الفكر في هذا المقسَم عليه لاستخلاص العبر والدروس التي أراد الله جل وعلا أن يعرفها الناس.

ومما أقسم به الله سبحانه وتعالى: السماء، وقد تكرر هذا القسم في القرآن أكثر من مرة، ووصفت فيها بأوصاف مختلفة لحكم وفوائد عظيمة، قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1]، أي ذات النجوم العظيمة، أو ذات الخلق الحسن، أو ذات المنازل، وقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق:11]، أي ذات المطر الذي يرجع، أو النجوم التي ترجع؛ مرة بعد مرة، وقال: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5]، أي وبنائها المتقن، على أحد القولين في المراد ب {وَمَا}.

وأما في سورة الذاريات فقد قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7]، قال ابن القيم رحمه الله: "أصل الحَبْك في اللغة إجادة النسج... وقال شمر: المحبوك في اللغة ما أجيد عمله، ودابة محبوكة: إذا كانت مدمجة الخلق، وقال أبو عبيدة والمبرد الحُبك: الطُّرق... والمقصود بهذا كله ما أفصح به ابن عباس فقال: يريد الخلق الحسن، وروى سعيد بن جبير عنه قال: الحبك حسنها واستواؤها، وقال قتادة: ذات الخلق الشديد، وقال مجاهد: متقنة البنيان، وقال أيضاً: ذات الطرائق، ولكنها بعيدة من العباد فلا يرونها" (التبيان في أقسام القرآن: [1/176]).

فهو سبحانه يقسم بهذه السماء التي صنعها فأحسن صنعها وخلقها فأتقن خلقها، كما قال عز من قائل: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4].

قال ابن كثير: "ومعنى الآية: إنك لو كررت البصر، مهما كررت، لانقلب إليك، أي: لرجع إليك البصر، {خَاسِئًا} عن أن يرى عيبًا أو خللاً {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر، ولا يرى نقصًا" (تفسير ابن كثير: [8/177]).

والمقصود من هذا القسم أن يتأمَّل الناس في نظامها البديع فإنها كما قال ابن القيم رحمه الله: "من أعظم آياته قدرًا وارتفاعًا وسعة وسمكًا ولونًا وإشراقًا، وهي محل ملائكته، وهي سقف العالم وبها انتظامه، ومحل النيرين اللذين بهما قوام الليل والنهار والسنين والشهور والأيام والصيف والشتاء والربيع والخريف، ومنها تنزل البركات، وإليها تصعد الأرواح وأعمالها وكلماتها الطيبة" (التبيان في أقسام القرآن: [1/164]).

فما دامت على هذه الصفة فكأن المراد بالقسم بها هو: تفكروا، فمن الذي خلقها بهذا الإحكام والإتقان؟ فتجيب القلوب السليمة والفطر السوية: هو الله.

سبحان من أعطى الوجود وجوده *** ليدل منه على الجواد المحسن
وودائع الأكوان في إتقانها *** أثر يشير إلى البديع المتقن

وأما المقسم عليه فهو قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8]، قال ابن القيم رحمه الله: "القول المختلف؛ أقوالهم في القرآن، وفي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خرص كله، فإنهم لما كذَّبوا بالحق اختلفت مذاهبهم وآراؤهم وطرائقهم وأقوالهم، فإن الحق شيء واحد وطريق مستقيم، فمن خالفه اختلفت به الطرق والمذاهب" (التبيان في أقسام القرآن: [1/178]).

وهنا نكتة لطيفة؛ ففي مقابل إتقان الله عز وجل وحسن بنائه للسماء وما فيها، نجد الاختلاف والتضاد والفوضى عند من أعرض عن منهجه سبحانه وتعالى، وشتان بين الأمرين، وفي هذا لفت لأنظار المؤمنين الموحدين إلى أنهم إن اتبعوا الحق فلابد لهم من إحكام أمورهم وإتقانها في الاعتقاد والأقوال والأفعال، ولا يليق بهم أن تكون أمورهم فوضى!

إن لله سبحانه وتعالى أوصافًا لا يحق لأحد من الخلق أن يدعيها، ومن ادعاها كان كاذبًا في دعواه؛ كالألوهية والربوبية، ومنها ما لا يجوز لأحد من الخلق أن يتصف بها إلا فيما استثناه الشرع كالعظمة والكبرياء، ومنها ما يتصف بها الخلق على الوجه اللائق بهم، كالحكمة والرحمة والصبر والرأفة والشدة في موضعها، وما أشبه ذلك، فمن فعل ذلك ابتغاء وجه الله نال رضاه وحصل سعادة الدارين.

وإن من هذه الصفات: الإحسان والإحكام والإتقان، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة من لآية:138]، وقال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل من الآية:88]، وقال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة من الآية:7]، وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون من الآية:14]، وقال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ} [القصص من الآية:77]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته» (صحيح مسلم: [3/1548] [1955]).

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ وهو في هذا المجلس فأحسن الوضوء ثم قال: «من توضأ مثل هذا الوضوء ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس غفر له ما تقدم من ذنبه»" (صحيح البخاري: [5/2363] [6069]، صحيح مسلم: [1/208] [232]).

وقال صلى الله عليه وسلم: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته». قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: «لا يتم ركوعها ولا سجودها». أو قال: «لا يقيم صلبه في الركوع والسجود» (مسند أحمد بن حنبل: [5/310] [22695]، وصحَّحه الأرنؤوط).

وقال: «إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه» (صحيح مسلم: [2/651] [943]).

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» (المعجم الأوسط: [1/275] [897]، صحَّحه الألباني وضعَّفه غيره).

وله شاهد بلفظ: «لكن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن» (شعب الإيمان للبيهقي: [4/335] [5315]).

فكل عمل يعمله الإنسان يحب الله عز وجل منه أن يعمله بإتقان، وهذا يشمل الرجال والنساء، الكبار والصغار، الحكام والمحكومين.

إن أولى من يتصف بذلك هم المؤمنون الموحدون، أهل السنة والجماعة، فلو أنهم فعلوا ذلك وصدقوا في توكلهم على الله عز وجل لحافظوا على ريادتهم للأمم، ولما سبقهم غيرهم إلى امتلاك أسباب القوة المادية التي أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالأخذ بها كما في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال من الآية:60]...

لكنهم لما ابتعدوا عن دينهم -إلا من رحم الله- ولما فرَّط كثير منهم في الاتصاف بهذه الصفات، صار أمرهم إلى ما صار إليه من الفوضى والاختلاف وعدم الإتقان، حتى صاروا مضرب المثل في هذه الأمور، وهذا حديث ذو شجون، فعسى أن يكون للكلام بقية إن شاء الله...

 

 

ناصر بن سليمان العمر

أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا

  • 3
  • 0
  • 6,491

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً