لله في قدره سرٌّ وعلمٌ
المؤمن بالقدر لا يعتمد على الدجَّالين والمشعوذين، ولا يذهب إلى الكهان والمنجمين والعرافين، فلا يعتد بأقوالهم، ولا ينطلي عليه زيفهم ودجلهم؛ فيعيش سالمًا من زيف هذه الأقاويل، متحررًا من جميع تلك الخرافات والأباطيل.
ويكفي العاقل أن يعرف أن الله عز وجل حكيم رحيم، بهرت الألباب حكمته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمًا، وأحصاه لوحُه وقلمُه، وأن لله تعالى في قَدَرِه سرًّا مصونًا، وعلمًا مخزونًا، احترز به دون جميع خلقه، وقد سأل موسى وعيسى وعزير ربنا تبارك وتعالى عن شيء من سر القدر[1]، وأنه لو شاء أن يُطاع لأُطيع، وأنه مع ذلك يُعْصَى؛ فأخبرهم سبحانه وتعالى أن هذا سره.
الإرادة الشرعية والإرادة الكونية:
وهو سبحانه يعاقب الخلق على مخالفة أمره وإرادته الشرعية، وإن كان ذلك بإرادته القدرية؛ فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى أيضًا بعقابها، كما أنه سبحانه قد يقدر على العبد أمراضًا تعقبها الآم؛ فالمرض بقدره والألم بقدره.
فإذا قال العبد: قد تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب؛ كان بمنزلة قول المريض: قد تقدمت الإرادة بالمرض فلا أتألم؛ وهذا مع أنه جهل فإنه لا ينفع صاحبه؛ بل اعتلاله بالقدر ذنب ثانٍ يعاقب عليه أيضًا، مثل إبليس حيث اعتل بالقدر، فقال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]، وأما آدم فقال: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
فمن أراد الله سعادته ألهمه أن يقول كما قال آدم أو نحوه عليه وعلى نبينا محمد الصلاة والسلام، ومن أراد الله شقاوته اعتل بعلة إبليس - لعنه الله - فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، ومثله: مثل رجل طار إلى داره شرارة نار فقال له العقلاء: أطفئها؛ لئلا تحرق المنزل، فأخذ يقول: من أين كانت؟ من أين جاءت؟ هذه ريح ألقتها، وأنا لا ذنب لي في هذه النار، فما زال يتعلل بهذه العلل حتى استعرت وانتشرت وأحرقت الدار وما فيها؛ هذه حال من شرع يحيل الذنوب على المقادير ولا يردها بالاستغفار والمعاذير؛ بل حاله أسوء بذلك منه بالذنب الذي فعله من الشرارة، فإنه كما أنه من الممكن إخماد الشرارة قبل أن تستفحل وتنتشر، كان أيضًا ممكن محو السيئات والجرائم بالاستغفار والأعمال الصالحة وغير ذلك.
فالله تعالى أعظم وأجل وأعز من أن يُجبَر أو يُعضل أو يُكْرِه، ولكن يقضي ويقدر ويجبل عبده على ما أحب وييسره لما خلقه له، والمراد بقوله جل وعلا: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء من الآية:79]، النعم والمصائب وليس الطاعات والمعاصي.
فالنعم من الله وإن كانت بسبب أعمالك الصالحة، فهو الذي هداك وأعانك ويسر لك ومنَّ عليك بالإيمان وزينه في قلبك.
أما المصائب وما يُبتلى به العبد من الذنوب الوجودية وإن كانت خلقًا لله تعالى فهي عقوبة على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب ومن عقاب السيئة السيئة، فالذنوب كالأمراض يورث بعضها بعضًا.
يبقى أن يقال: الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب كيف جاء؟
فيقال: هو عقوبة أيضًا على عدم شغل القلب والجوارح والنفس فيما خُلقت أو خُلقن له، وفُطرن عليه، فإن الله خلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتأليهه، والإنابة إليه، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: « »[2]، وقال صلى الله عليه وسلم: « »[3]، وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم من الآية:30]، فلما لم يفعل ما خُلِق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه، عوقب بأن زَيّن له الشيطان أنواع المعاصي والشرك فارتاح لها وقبلها؛ لأنه صادف قلبًا فارغًا خاليًا قابلًا للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده، لم يتمكن من قبول الشر والترحيب له.
والشيطان يعرض بضاعته على كل قلوب البشر؛ فما كان مملوءً بالخير والصلاح لا يقبل منه، وما كان فارغًا قبل، قال جل وعلا: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف من الآية:24].
والإخلاص: خلوص القلب من تأله من سوى الله وإرادته ومحبته، فخلص لله، أي: امتلأ بتعظيم الله وإجلاله، فلم يتمكن الشيطان من النفاذ إليه وإغوائه، كما قال ابن قيم الجوزية في نونيته:
وحقيقةُ الإخلاصِ توحيدُ الم *** رادِ فلا يزاحِمُه مرادٌ ثاني
أما إذا صادفه فارغًا تمكن منه بحسب فراغه وخلوه، فيكون جعله مسيئًا مذنبًا في هذه الحال عقوبة عدم هذا الإخلاص، كما قال القائل:
أَتَاني هَوَاها قَبل أَن أعرِفَ الهَوَى *** فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب (رسالتان في القدر والربا ومقالات متنوعة) للمؤلف
[1] ومن هذا المنطلق تجد المؤمن بالقدر لا يعتمد على الدجَّالين والمشعوذين، ولا يذهب إلى الكهان والمنجمين والعرافين، فلا يعتد بأقوالهم، ولا ينطلي عليه زيفهم ودجلهم؛ فيعيش سالمًا من زيف هذه الأقاويل، متحررًا من جميع تلك الخرافات والأباطيل.
[2] جزء من حديث أخرجه مسلم برقم [2658]، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] جزء من حديث طويل أخرجه مسلم برقم [2865]، عن عياض المجاشعي رضي الله عنه.
- التصنيف:
- المصدر: