الإفك وسر القلادة

منذ 2014-04-30

تلك القلادة التي زينت عنقها فزادتها جماًلا وأناقة، بل بركة، وزادتنا حبًا لها رضي الله عنها، فقد كانت سببًا في بركات على هذه الأمة لم تكن تحدث بغير تلك القلادة.

تلك القلادة التي زينت عنقها فزادتها جماًلا وأناقة، بل بركة، وزادتنا حبًا لها رضي الله عنها، فقد كانت سببًا في بركات على هذه الأمة لم تكن تحدث بغير تلك القلادة.

ولنرجع للوراء لنعرف ما سر هذه القلادة؟

إنها مثل أيّ قلادة تشتهي المرأة أن تزين بها صفحة عنقها لتزيدها تألقًا في عين زوجها، ولقد تعاهدت هذه القلادة ألا تفارق جيدها في الحل والترحال، وبرغم عصيان تلك القلادة وكثرة شغبها حيث لم تكن المرة الأولى التي تسقط من عنق السيدة عائشة رضي الله عنها.

فهذا الحادث يبدو وأنه قد تكرَّر مرارًا، ويبدو لي أنه كان ثمة خلل بسيط أصاب تلك القلادة من مكان قفلها فمع الحركة الشديدة والجهد والسفر والغزو وتضميد الجرحى والسعي غدوًا ورواحًا، لراحتهم ثم صعود الهودج و الهبوط منه.. كل هذا لم يُنهك تلك القلادة التي بدت متماسكة حتى آخر لحظة في عنق الصديقة رضي الله عنها، والتي انتهت بسقوطها من جيدها في إحدى الغزوات، حينما كانت في قضاء حاجتها رضي الله عنها، ثم لتبدأ عائشة في رحلة البحث عنها.

تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها: "فلمّا قضيتُ شأني أقبلتُ إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدتُ عُقدي بعد ما استمر الجيش" [1].

انتهت قصة القلادة التي تبدو الأولى لنا ولربما سبقتها حوادث أخرى من سقوطها في حُجرة عائشة رضي الله عنها بالمدينة.

 

والقصة الثانية التي وصلت إلينا عن القلادة كانت في إحدى الغزوات أيضًا حيث وقعت منها مرة أخرى. تقول عائشة رضي الله عنها: "ولمَّا كانَ مِن أمر عقدي ما كان، قال أهل الإفك ما قالُوا، فخرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في غَزاةٍ أخرى، فسقطَ أيضا عقدي حتَّى حَبَسَ التماسُه الناس، ولقيتُ مِن أبى بكر ما شاء اللَّهُ، وقال لي‏:‏ يا بُنيَّةُ؛ في كُلِّ سفرٍ تكونين عَناءً وبلاءً، وليس مع الناس ماء" [2].

 

وفي رواية أخرى: "فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَه".

 

وقد اختلف العلماء في تحديد زمن القصتين هل كانتا في نفس الغزوة أم في غزوتين مختلفتين على الرواية الأولى. لكن الذي يهمنا في القصة قول أبو بكر رضي الله عنه: "يا بنية في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس‏؟"‏

فلقد مثلت سقوط القلادة بداية محنتين عظيمتين:

الأولى منها: كانت محنة عصيبة على آل محمد صلى الله عليه وسلم وبلاء شاق على آل الصديق رضي الله عنهم متمثلا ذلك فيما تبعه من أحداث الإفك الأثيم.

والثانية: تمثلت في حبس الجيش بسبب قلادة عائشة رضي الله عنها وما ترتب على ذلك من شح الماء لدى الجيش وافتقارهم لما يلتمسونه للوضوء ولم تكن آية التيمم قد نزلت واحتار الصحابة فيما يفعلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان نائمًا حينه.

ثم ربط أبو بكر الصديق بين هذه المحن التي اقترنت بابنته المطيعة الأريبة وبين نتائجها العظيمة على هذه الأمة فلقد نزلت بسببها آية التيمم في القصة الثانية، وفي القصة الأولى نزلت آيات من سورة النور هي نجاة و تبرئة لكل من يعبث بأعراض المسلمين. يقول أبو بكر لعائشة رضي الله عنهما لما نزلت آية التيمم: "إنك لمباركة، ثلاثا‏". وقال أسيد بن الحضير رضي الله عنه: "مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ". وفي رواية فقال أسيد بن حضير لعائشة: "جزاك الله خيرا، فو الله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا" [3].

بل أيضا لقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنح ببعضها فقال لها: «ما كان أعظم بركة قلادتك» [4]. ‏وفي شرح الإمام ابن حجر ما هي بأول بركتكم أي بل هي مسبوقة بغيرها من البركات، والمراد بآل أبي بكر نفسه وأهله وأتباعه‏.‏ وفيه دليل على فضل عائشة وأبيها وتكرار البركة منهما‏.

ونحن هنا بالتأكيد لسنا بصدد الحديث عن قلادة من جذع ظفار كانت لأم المؤمنين أو اقترضتها من أختها أسماء؛ بل نحن نلتمس إلى التأكيد على برَكتها رضي الله عنها على هذه الأمة وما ألمّ بها من حوادث مريرة وآلام عصيبة تألمت بسببها وجاهدت في دفعها، وذاقت مخاطرها ومرارتها، ثم حصل بها أسباب الخير والبركة على هذه الأمة.‏

 

[1] الراوي: عائشة- المحدث: البخاري- المصدر: صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم: 4141- خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[2] زاد المعاد /ابن القيم/ غزوة المريسيع.

[3] الراوي: عائشة المحدث: البخاري- المصدر: صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم: 336- خلاصة حكم المحدث: صحيح

[4]انظر فتح الباري لابن حجر /كتاب التيمم.

  • 34
  • 3
  • 29,287
  • nada

      منذ
    فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا ..

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً