غَيْمَةُ الْأَسَى
المسلم القابض على دينه في هذا الزمان الذي تلاحقت فيه الفتن ليبكي قلبه كمدًا على ما وصل إليه العالم الإسلامي من هَوَانٍ، جعله عاجز المنة، قاصر القوة، يتعلق بأذناب المعاذير، وإذا كان المرء قد تصدّر لإرشاد قومه، وإنقاذهم من وَهْدة البَعْثَرة، فإنّ طبائع الأمور تقتضي مني التَّطْوَافَة العَجْلى للتنبيه على أسباب هُزَال العالم الإسلامي اليوم..
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام علي النبي المُجْتَبَى، وبعد: فقد ذكر أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله علَيه وسلم قال: «إنما مثلي ومثلُ ما بعثني اللهُ به، كمثلِ رجلٍ أتى قومًا فقال: يا قوم إني رأيتُ الجيشَ بعيني، وإني أنا النذيرُ العريانُ، فالنجاءَ، فأطاعه طائفةٌ من قومِه فأدْلجوا، فانطلقوا على مهلِهم فَنَجوْا، وكذَّبّتْ طائفةٌ منهم فأصبحوا مكانَهم، فصبَّحهمُ الجيشُ فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتَّبعَ ما جئتُ به، ومثل من عصاني وكذب بما جئتُ به من الحقِّ» (البخاري، الجامع الصحيح:6740، أيضًا: مسلم في صحيحه:4233)، (1).
من خلال الظلال الوَارِفَةِ للحديث النبوي السابق أقول: رَحِمَ اللهُ بصيرًا بزمانه؛ فإنّ المسلم القابض على دينه في هذا الزمان الذي تلاحقت فيه الفتن ليبكي قلبه كمدًا على ما وصل إليه العالم الإسلامي من هَوَانٍ، جعله عاجز المنة، قاصر القوة، يتعلق بأذناب المعاذير، وإذا كان المرء قد تصدّر لإرشاد قومه، وإنقاذهم من وَهْدة البَعْثَرة، فإنّ طبائع الأمور تقتضي مني التَّطْوَافَة العَجْلى للتنبيه على أسباب هُزَال العالم الإسلامي اليوم في عُجَالةٍ:
1- ضعف العقيدة والانحراف عن المنهج:
إنّ صلاح هذه الأمة، وإفاقتها من سُبَاتها العميق، وجمع أشلائها المُبَعْثرة لن يكون إلا بإصلاح العقيدة؛ لهذا قال الإمام مالك رحمه الله: "لا يصلح أخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أوله".
2- التحالف مع النصارى والخضوع لهم ومجاملتهم، وذوبان مفهوم الولاء والبراء: ولهذا الأمر شواهد تملأ القلب كَمَدًا وحُزْنًا، فمن الزمن الماضي وجدنا ابن الأحمر الأندلسي يعقد معاهدة مع ملك قشتالة النصراني، مقتضاها أن يحكم ابن الأحمر مملكة غرناطة، باسم ملك قشتالة، على أن يؤدي له جزية سنوية كذلك! أين هذا الأحمق، وَضَيِعُ مَنَاطِ الهمة من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]؟!
وفي العصر الحديث وجدنا إمارات الشر والتأليب على المسلمين ترتمي في أحضان فرنسا، وتساعد الفرنسي الحاقد على الإسلام هولاند في حربه ضد العِصَابة المؤمنة المجاهدة من شباب مالي، وتمده بالمال بحجة محاربة الإرهاب، رغم أن شباب مالي الشجعان ما طالبوا إلا بتحكيم شريعة رب البرية، وحدّث ولا حرج عن القواعد الأمريكية التي تَعُجُّ بها أراضي الجزيرة العربية، بعد أن باع الكثير دينه وأمته من أجل لُعَاعة من الدنيا!
وأنت واجد -إذا نظرت في مصر- ارتماء الساسة وعُبَّاد الدنيا في أحضان نصارى مصر، ادِّعاءً للإحسان إلى أهل الذمة، واتكاءً على حديث إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون مصرَ. وهي أرضٌ يسمى فيها القيراطُ . فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلِها، فإن لهم ذمةً ورحمًا، أو قال: ذمةً وصهرًا» (مسلم:2543، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه).
وهؤلاء يَعْرِضون الأدلة الشرعية، يُخَالِطُها الهوى الذي يخدم أغراضهم الخبيثة؛ فالذي يذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوصاة بأهل الذمة لم يقل لنا: إن الذميّ هو من نزل وانضوى تحت راية الإسلام وتحت حكمه وشروطه، ومن هذه الشروط: أنه يتعبد في مكانه بحيث لا يظهر هذا التعبد، ولا يؤذي المسلمين في دينهم، ولا يُظهر كفرًا بينهم، وإذا أمعنت النظر فيما ذكرته لك من بعض هذه الشروط آنفًا تجد أنّ نصارى مصر قد خرقوها في تحدٍّ مُزْرٍ لمشاعر المسلمين؛ فقد جهروا بباطلهم وسلطوا سفاءهم وأقزامهم لسبِّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والتَّنَقُّصِ من شأن القرآن.
والحكايات في ذلك أكثر من حصرها، وما زكريا بطرس -عليه من الله ما يستحقه- وأكاذيبه عنا ببعيد، هذا إلى جانب المواقف الدنيئة التي سطرها التاريخ ضدهم، فهذا يعقوب يوحنّا -المعروف بالمعلم يعقوب-، والذي رشحه جرجس جوهري (رئيس المباشرين، وعميد الأقباط) لخدمة الحملة الفرنسية على مصر؛ نِكَاية في مسلمي مصر، قام بدور مدير عام لتموين وإمداد الحملة الفرنسية في مصر بالطعام، إلى جانب توزيع الضرائب على أهل الوجه القبلي وجبايتها من قبل الجنرال ديزيه، وكان يرافق ديزيه في حملاته على مسلمي الصعيد، بل قام الأنبا بيشوي في وقتنا الحاضر، وأعلنها مُدويّة أنّ المسلمين ضيوف على الأقباط في مصر! فأين إذًا الوَحْدة الوطنية المزعومة؟!
وفي مرثية أخرى من مآسيهم حاولوا تكدير السِّلْم الاجتماعي، والانشقاق عن الدولة المصرية بإنشاء جماعة الأمة القبطية -وهي جماعة تؤمن بالعنف-، والغاية عندهم تبرر الوسيلة عام 1919 م على يد راهب يُدْعى أنطونيوس، ولإدراك حجم محنة مسلمي مصر اليوم لك أنْ تتصور أنّ معظم قيادي الكنيسة القبطية في العصر الحديث هم من تلامذة تلك الجماعة، ومنهم: عازر يوسف عطا (الأنبا كيرلس السادس)، وكان يعمل في مجال السياحة، ثم اتجه لدراسة اللاهوت، والدكتور سعد عزيز (الأب متى المسكين)، وكان مُنْجذبًا للفكر الشيوعي؛ لذا لقبه الرئيس السادات بالراهب الشيوعي، وكان يعمل صيدليًا بمدينة دمنهور، وقد اعتنق فكر الجماعة وأصبح أحد تلامذة (الأنبا كيرلس السادس)، ثم صار معلمًا لتلامذة كُثُر من جماعة الأمة القبطية، وعلى رأسهم نظير جَيِّد روفائيل (الأنبا شنودة) وهو خريج كلية الآداب (قسم تاريخ)، ويعتبر عُصَارة فكر الجماعة القبطية، وفي عصره صُكَّ مصطلح الفتنة الطائفية، وهؤلاء أحدثوا انقلابًا شاملًا لم يحدث من قبل في تاريخ وقوانين الكنيسة القبطية، بحيث تمكنوا من إحلال تعاليم الأمة القبطية محل تعاليم المسيحية الارثوذكسية للكنيسة القبطية!
ثم أنت إِنْ بَيَّنْتَ أخطاء هؤلاء في حق مصر وساكنيها من المسلمين وهم الأكثرية، بلا مِرَاء وكشفت عَوَارَهم وإِرْجَافَهُم وجدت مِنَ المنافقين المنتسبين للإسلام -بلا أي واقع يدل على إسلامهم- والمخنثين مَنْ يتباكى بكاء التماسيح، ويتَّهِمُكَ بإزكاء أَوَارِ الفتنة الطائفية! ألا تغارون على دينكم أيها الأوغاد، يا أشباه الرجال؟! إلى الله المشتكى والمعوّل!
3- الانغماس في الشهوات والركون إلى الدعة والترف:
وهذا أمر انتشر بين المسلمين بصورة لا تخفى على عاقل، حتى أصبح لسان هؤلاء من أرباب الفسوق والخنا:
وقد كنت جنديًّا لإبليس فارتقى *** بي الحال حتى صار إبليس من جندي
ويكفي أن تعرف أن دولة الإمارات تحتل المرتبة الأولى عالميُّا في ارتياد المواقع الإباحية، على حين تحتل مصر المرتبة الثانية، ولا شكّ أن هذا مؤشر صادق على انغماس هذه الأمة في بئر الشهوات الآسن!
4- الاختلاف بين المسلمين:
المسلمون اليوم ليسوا على قلب رجل واحد، ومما ينبغي أنْ أذكره في هذا الصدد أنّ الافتراق وإن كان شرًّا إلا أنّه أمر كوني قَدَري أوجده الله لحكمة؛ فالأمور الكونية القدرية قد يوجد منها أشياء يُبْغضها الله ويكرهها، لكن يشـاؤها الله تعالى ابتلاءً وتمحيصًا لنا، ولحِكَمٍ عظيمة تَترتّبُ على ذلك، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
ورغم كونه أمرًا كونيًّا قَدَرِيًّا فقد أمرنـا الله تعالى بعلاجه وتَجنّب أسبابه، قـال تعـالى: {وَلاَ تَنَـازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران من الآية:103]، وقال: " {..وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }" [هود:118-119] (2). فجعل المسلمين المجتمعين على كلمة سواء هم أهل الرحمة، وهو توجيه لعلاج الفُرْقة، فكأن الآية تقول: مَنْ أراد الرحمة فعليه بِنَبْذِ الفُرْقة والتّشَرْذُم.
5- تخلي بعض العلماء عن القيام بواجبهم:
ليس من شكٍّ أنَّ هذه الأمة فيها من العلماء الأشاوس، والدعاة الأماجد ما لا ينكره مُنْصِف، لكن المؤسف لكل مَنْ كان له قلب أنّ الكثرة الكاثرة منهم سبب في البلاء والمحنة التي تَرْزَحُ الأمة في أغلالها اليوم؛ فأنت بين علماء السلطة الذين جعلوا الدين مَطيّة لأهواء الحكام، يُطَوِّعون الأحكام لخدمة أغراضهم السقيمة، وبين فتاوى فقهاء نادي المارينز الذين يدورون في فلك أمريكا وحلفائها، وأنت واجد طائفة ثالثة من هؤلاء العلماء الذين يؤصِّلون للأمة الجُبْن الدّفين والخَوَرَ المهين بدعوى الحكمة ومراعاة المصالح والمفاسد، وهي دعوى تحتاج إلى تأصيل علمي من علماء ربانيين؛ لأن المخذلين، وحاملي جينات الضعف والهوى تَوَسَّعُوا في تفسير قاعدة أصولية شهيرة هي: "درء المفاسد مُقَدّم على جَلْبِ المصالح"! حتى نجحوا في القضاء على فُحولة الأمة وشجاعتها. وأجدني إزاء هؤلاء أُرَدِّدُ عبارة كوامي نكروما: "تتحقق الثورات بواسطة رجال، رجال يفكرون كرجال فعل ويفعلون كرجال فكر".
أين هؤلاء من قول ابن تيمية: "وكانوا يراجعونه في الاجتهاد في الأمور الدنيوية المتعلقة بمصالح الدين، وهو باب يجوز له العمل فيه باجتهاده باتفاق الأمة..."؟! (3)، ألا يذكرون ما قاله ابن كثير عن الإمام أحمد بن حنبل: "من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر"؟! (انظر: البداية والنهاية، ج10، ص 303).
وهذه هي أبرز الأمور التي رأيتها كرجل ينظر من مرآة الواقع؛ إشفاقًا على أمته المكلومة تُعْرقل استعادة الأمة لمجدها التليد السليب، ألا يستفيق أبناء أمتي المجيدة من نومهم، فقد بلغ صوت غطيطهم أرجاء المعمورة؟!
أخي المسلم استمع لِوصَاة الرضى:
عَلَى الْعِزِّ مُتْ لا مِيتَةً مُسْتَكِينةً *** تُزِيلُ عن الدُّنيا بُشُمِّ الْمَرَاغِمِ
وَخَاطِر عَلَى الجُلَّى خِطَارَ ابنِ حُرَّةٍ *** وإنْ زَاحَمَ الأمْرُ العظيمُ فَزَاحِمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قَالَ الْعُلَمَاء: "أَصْله أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرَادَ إِنْذَار قَوْمه وَإِعْلَامهمْ بِمَا يُوجِبُ الْمَخَافَة نَزَعَ ثَوْبه، وَأَشَارَ بِهِ إِلَيْهِمْ إِذَا كَانَ بَعِيدًا مِنْهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ بِمَا دَهَمَهُمْ، وَأَكْثَر مَا يَفْعَلُ هَذَا رَبِيئَة الْقَوْم، وَهُوَ طَلِيعَتهمْ وَرَقِيبهمْ"، قَالُوا: وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْيَنُ لِلنَّاظِرِ، وَأَغْرَبُ وَأَشْنَعُ مَنْظَرًا، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي اِسْتِحْثَاثِهِمْ فِي التَّأَهُّب لِلْعَدُوِّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَا النَّذِير الَّذِي أَدْرَكَنِي جَيْشُ الْعَدُوّ، فَأَخَذَ ثِيَابِي، فَأَنَا أُنْذِركُمْ عُرْيَانًا" (انظر: النهاية في غريب الأثر. ج3. ص 452).
[2] وهذا الكلام يتضمن نفي الاضطرار، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل، فاختلفوا، إلا ناسًا هداهم الله ولطف بهم، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه. وأثاب الله تعالى مختار الحق بحسن اختياره، وعاقب مختار الباطل بسوء اختياره (الزمخشري: الكشاف عن حقـائق غوامض التنزيل وعيون الأقـــاويل في وجوه التـــــأويل. جـ 3. ص 247، 248. تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض. ط1. 1418هـ / 1998م. مكتبة العُبَيْكان– الرياض).
[3] أي الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم (انظر: الصارم المسلول، ص 191).
- التصنيف: