أحمد لطفي السيد
ظهر أحمد لطفي السيد ومعه ثلة على نفس فكره ليقود علمنة الشرق وإبعاده عن هويته الحقيقية والبحث عن هوية جديدة..
في أجواء ثقافية مليئة بالضبابية والتردد بين الارتماء في أحضان الحضارة الغربية الجديدة ببريقها الأخاذ وبين إصلاح ما فسد والرجوع إلى الهوية الحقيقية التي تقود بلا شك لسيادة الأمة وريادتها من جديد، في آخر زمان الخلافة العثمانية، وضعف شوكتها وتفكك دولتها كان الصراع الرهيب بين العودة للهوية وإصلاح الفكر وبين الأخذ من الغرب وحضارته بحلوها ومرها، ومع ضعف الوجود العلمي للمؤسسات الدينية وشبه انعدام للوجود الحقيقي الملموس للعلماء وانعدام مبادراتهم بالأخذ بزمام الأمة وقيادتها لبر الأمن ظهر أحمد لطفي السيد ومعه ثلة على نفس فكره ليقود علمنة الشرق وإبعاده عن هويته الحقيقية والبحث عن هوية جديدة فاختار لطفي السيد لنفسه العصبية الجاهلية متمثلة في المناداة بالهوية القومية المصرية والعمل من أجل المصلحة الملموسة والملموسة فقط، فكان مزيجًا من القومية والنفعية، ففي زمن الاحتلال البريطاني لمصر كانت مصر بلد الأزهر والعلماء في وضع شاذ، غرباء محتلون بيدهم مقاليد مصر يصرفونها كما يشاءون، ودولة الخلافة تدين لها مصر بالولاء والتبعية دون أن يكون لها نفوذ حقيقي في البلاد.
وهنا ظهر دور أحمد لطفي السيد الذي لقب بأستاذ الجيل، والذي بادر بزمام مدرسة نادت بالفرار والهلع إلى الجذور والهوية المصرية والانسلاخ من الهوية الإسلامية أو حتى العربية.
المولد والنشأة
في قرية (برقين) من قرى (السنبلاوين) التابعة لمحافظة الدقهلية بمصر ولد أحمد لطفي السيد في (4 من ذي القعدة 1288هـ / 15 من يناير 1872م)، ونشأ في أسرة على جانب من الثراء؛ فأبوه السيد باشا أبو علي كان عمدة للقرية ومن أعيانها؛ فعُني بتعليم ولده، فألحقه بكُتاب القرية، حيث تعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بمدرسة المنصورة الابتدائية سنة (1300هـ= 1882م)، وبعد ثلاث سنوات من الدراسة انتقل إلى القاهرة، والتحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، وظل بها حتى أتم دراسته الثانوية سنة (1307هـ = 1889م)، ثم التحق بمدرسة الحقوق.
وفي أثناء دراسته تعرف على الشيخ محمد عبده الذي شجعه لما رأى فيه أمارات النبوغ وميله إلى الحرية واحترام الحقوق، وقدرته على الكتابة والإنشاء، وكان من أثر هذا التشجيع أن قام أحمد لطفي السيد وجماعة من نابغي مدرسة الحقوق بإنشاء مجلة "التشريع"، كما التقى بجمال الدين الأفغاني في أثناء زيارته لإستانبول سنة (1311 هـ= 1893م) وتأثر بأفكاره.
في معترك الحياة
بعد حصول أحمد لطفي السيد على ليسانس الحقوق سنة (1312هـ / 1894م) عمل بالنيابة، وتدرج في مناصبها حتى عُين نائبًا للأحكام بالفيوم سنة (1322 هـ / 1904م)، وفي أثناء هذه الفترة اشترك مع صديقه القديم عبد العزيز فهمي الذي التقى به في المدرسة الثانوية بالقاهرة، في تأسيس جمعية سرية باسم (تحرير مصر) فلما نمى خبرها إلى الخديوي عباس حلمي سعى إليها عن طريق مصطفى كامل زميل أحمد لطفي السيد في مدرسة الحقوق، وكان الخديوي يسعى للتحرر من قبضة الاحتلال البريطاني وممارسة سلطانه دون قيد منه؛ فتقرب إلى الأمة، واستعان بشبابها الناهض لتحقيق أهدافه.
وكان من أمر هذا الاتصال أن تم الاتفاق على تأليف حزب وطني بزعامة الخديوي، وعلى سفر أحمد لطفي السيد إلى سويسرا والإقامة بها سنة لاكتساب الجنسية، والعودة إلى مصر لإصدار جريدة تقاوم الاحتلال البريطاني، محتميًا بجنسيته المكتسبة، وقد عقد أول اجتماع للحزب السري الجديد بمنزل محمد فريد برئاسة الخديوي عباس حلمي، وعضوية مصطفى كامل، وأحمد لطفي السيد، ومحمد عثمان وغيرهم.
وفي جنيف التحق أحمد لطفي السيد بجامعتها، وعكف على دراسة الآداب والفلسفة، وزامله في الدراسة الشيخ محمد عبده الذي كان يزور سويسرا في ذلك الوقت، وعاد أحمد لطفي السيد إلى القاهرة دون أن ينجح في الحصول على الجنسية، لرفض الباب العالي العثماني تجنسه بها، وفي الوقت نفسه قدم تقريرًا إلى الخديوي جاء فيه: "إن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها، وإن المصلحة الوطنية تقضي بأن يرأس سمو الخديوي حركة شاملة للتعليم العام"، وكان هذا هو رأي الشيخ محمد عبده الذي جعل من التربية والتعليم بعد عودته من المنفى خطته للإصلاح.
وعاد أحمد لطفي السيد إلى وظيفته في النيابة، وظل بها حتى ترك العمل بالقضاء سنة (1323هـ / 1905م)، واشتغل بالمحاماة، ثم لم يلبث أن ضاق بها؛ فتركها إلى العمل بالصحافة والسياسة.
حزب الأمة وصحيفة (الجريدة)
بعد أن ترك أحمد لطفي السيد العمل الحكومي اشترك مع جماعة من أعيان مصر في تأسيس حزب الأمة سنة (1325هـ / 1907م)، وتولى هو سكرتارية الحزب، ورأس صحيفته المعروفة باسم (الجريدة)، وقد استمرت رئاسته للجريدة سبع سنوات وبضعة أشهر توقفت بعدها تمامًا، بعد أن لفظ حزب الأمة أنفاسه الأخيرة.
وكانت سياسة الجريدة تقوم على الدعوة إلى فكرة (مصر للمصريين)، ومهاجمة الجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها السلطان عبد الحميد الثاني، ويعبر أحمد لطفي السيد عن هذا الاتجاه بقوله: "نريد الوطن المصري والاحتفاظ به، والغيرة عليه كغيرة التركي على وطنه، والإنجليزي على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع، وسط ما يسمى بالجامعة الإسلامية..".
وازدادت هذه السياسة وضوحًا بدعوته إلى حياد مصر من هجوم إيطاليا على ليبيا، حين رأى تعاطف المصريين مع الدولة العثمانية، وقيامهم بجمع التبرعات، وحشد المؤن والأسلحة لإرسالها إلى الجيش العثماني في طرابلس بليبيا، يقول لطفي السيد: "وقد أخذت أنبه على استحياء إلى واجب مصر من هذه الحرب، وهي أن تكون على الحياد، وأن سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها ضرًا"، غير أن دعوته لم تلقَ استجابة، وضاعت وسط عواطف المصريين، وتعلق قلوبهم بدولة الخلافة العثمانية.
وسلكت الجريدة مسلكًا مهادنًا مع الاحتلال البريطاني، بل نوهت بالتحسن المادي والإداري الذي وصلت إليه مصر في عهد الاحتلال، وقبل أن يرحل اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر إلى بلاده أقيم له حفل وداع بالأوبرا، في (ربيع الأول 1325 هـ / مايو 1907م)، وكان في مقدمة المحتفلين أعضاء حزب الأمة، وأفردت الجريدة ملحقًا عن حياة المعتمد البريطاني وأعماله في مصر، فأشادت بأعماله المالية والاقتصادية، ونددت بأعماله السياسية؛ "لأنه حرم مصر من حياة سياسية تطمح إليها كل أمة حية".
مديرًا لدار الكتب
وبعد توقف الحرب وإغلاق الجريدة عُين أحمد لطفي السيد مديرًا لدار الكتب خلفًا للدكتور (شاده) المدير الألماني، وفي دار الكتب انفسح الوقت له، فترجم بعض أعمال أرسطو، ودعا إلى ترجمة الكتب الأخرى، وندب من وثق بهم للاضطلاع بنقل الثقافة الغربية إلى العربية، موقنًا أن النهضات في بواكيرها إنما تقوم على الترجمة التي هي بمثابة التمهيد، بالاحتذاء ثم الخلق والأصالة.
ويُذكر له أنه في أثناء عمله بدار الكتب أنشأ مجمعًا لغويًا عرف باسم "مجمع دار الكتب"، تولى رئاسته الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي، واشترك في عضويته حفني ناصف وعاطف بركات وغيرهما، غير أن هذا المجمع الوليد لم تطل به الحياة، فانطوت صفحته بعد عام من إنشائه.
العودة إلى العمل السياسي
بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى سنة (1337هـ / 1918م) استقال أحمد لطفي السيد من دار الكتب، واشترك مع سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلى شعراوي وغيرهم في تأليف وفد للمطالبة بالاستقلال، وكان من شأن المطالبة أن نُفي سعد زغلول ورفيقاه إلى خارج البلاد، فاشتعلت البلاد بثورة 1919م العارمة التي أضجت مضاجع الاحتلال، وظل أحمد لطفي السيد في القاهرة يحرر بيانات الوفد ومذكراته، وتطور الأمر إلى رضوخ بريطانيا للتفاوض، وتشكلت وزارة حسين باشا؛ فأفرجت عن الزعماء المنفيين، وسافر لطفي السيد مع الوفد المصري إلى باريس، لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام المنعقد في فرساي.
ولما اشتعل الخلاف بين عدلي يكن رئيس الوزراء وسعد زغلول زعيم الثورة 1919 على رياسة المفاوضات مع بريطانيا وتلاحيا، اعتزل أحمد لطفي السيد العمل السياسي، وعاد إلى العمل بدار الكتب مديرًا لها، كما اشتغل بالجامعة المصرية الأهلية وكيلا لها.
مديرًا للجامعة المصرية
ظل أحمد لطفي مديرًا لدار الكتب حتى (شعبان 1343هـ / مارس 1925م) قبل أن يعين مديرًا للجامعة المصرية بعد أن أصبحت حكومية، وفي عهده اتسعت الجامعة؛ فضمت إليها كلية الهندسة والحقوق والتجارة والزراعة، والطب البيطري وغيرها، كما قبلت الجامعة سنة (1348هـ / 1929م) أول مجموعة من الفتيات للالتحاق حتى تخرجت أول دفعة من الطالبات سنة (1352هـ / 1933م) وكانت ثلاث طالبات في كلية الآداب وواحدة في كلية الحقوق.
وحين أُقصي طه حسين عن الجامعة سنة (1351هـ / 1932م) إلى وزارة المعارف، قدم لطفي السيد استقالته احتجاجًا على هذا التدخل، ولم يعد إلى الجامعة إلا بعد أن اشترط أن يعدل قانونها بما لا يدع لوزارة المعارف الحق في نقل أستاذ من الجامعة إلا بعد موافقة مجلسها، وقدم استقالته مرة أخرى سنة (1356هـ / 1937م) احتجاجًا على اقتحام الشرطة الجامعة.
ما بعد الجامعة
ظل أحمد لطفي السيد مديرًا للجامعة حتى استقال منها سنة (1362هـ / 1941م) بعد أن اطمأن إلى أوضاعها ورسوخ أقدامها، ثم دعاه أحمد ماهر سنة (1365هـ / 1944م)، ليكون عضوا في الهيئة التي كونها لدراسة مقترحات الحلفاء لإنشاء منظمة دولية جديدة تحل محل عصبة الأمم، كما اشترك في وزارة إسماعيل صدقي سنة (1367هـ / 1946م) وزيرًا للخارجية وعضوًا في هيئة المفاوضات بين مصر وبريطانيا التي عُرفت بمفاوضات "صدقي-بيفن"، غير أنها فشلت، وخرج لطفي السيد من الوزارة التي كانت قد شكلت برئاسة صدقي لمواجهة المد الشعبي المطالب بالتحرر والاستقلال، ولم يشترك بعد ذلك في أعمال سياسية أخرى.
وقد طالت الحياة بأحمد لطفي السيد حتى تجاوز التسعين، وظل موفور النشاط متوقد الذهن حتى لقي ربه في (سنة 1383هـ / 1963م)
فكر لطفي السيد
يعد لطفي السيد أحد التلاميذ البارزين! للمدرسة العصرانية الحديثة، التي أنشأها جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وهي المدرسة التي تقوم على تقديس العقل مقابل النقل، ومحاولة مزج المسلمين بغيرهم، والسير وراء الحضارة الغربية ونقلها إلى المجتمع المسلم، دون تفريق -للأسف- بين منافعها وأضرارها، ولهذا فقد انطبع لطفي السيد بسمات هذه المدرسة في تفكيره، بل زاد عليها شوطًا بعيدًا في الانحراف.
يقول الدكتور حسين النجار عن لطفي السيد بأنه "تتلمذ على الشيخ محمد عبده في مدرسة الحقوق، واتصل به وعرفه بعد ذلك في سويسرا" (أحمد لطفي السيد: أستاذ الجيل [193]).
ويقول ألبرت حوراني: "التقى لطفي السيد بمحمد عبده وأصبح صديقه وتلميذه، كذلك تعرف إلى الأفغاني في أثناء زيارة قام بها إلى استنبول، فأعجب به كثيرًا" (الفكر العربي في عصر النهضة :[210]).
أما الأستاذ أنور الجندي فله رأي أخر في هذا؛ حيث يرى بأن لطفي السيد قد تنكر لمبادئ مدرسة محمد عبده -التي لا زال الجندي يثني للأسف عليها!- وأنه انحرف عنها إلى تأييد المستعمر الإنجليزي والسير في ركابه. يقول الجندي: "قد بدأ ظاهر الأمر أن سعد زغلول ولطفي السيد هما من تلاميذ جمال الدين ومحمد عبده، ولكن الأمور ما لبثت أن كشفت عن تحول واضح في خطتهما نحو منهج التغريب الذي قاده كرومر والذي وضع للصحافة والثقافة والتعليم منهجًا جديدًا مفرغًا من الإسلام وهو المنهج الذي صنع ذلك الجيل الذي دخل الجامعة وكليه الآداب في أول افتتاح الجامعة المصرية 1925 (وقد قام بالدور الأكبر فيه الدكتور طه حسين) ومدرسة السياسة (هيكل وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي) وغيرهم.
ولا ريب أن كتابات لطفي السيد ومخططات سعد زغلول تكشف عن تجاوز كبير للنبع الذي صدرا منه. وعن مفاهيم جمال الدين ومحمد عبده ومهما كانت كتابات كرومر عن محمد عبده وحزبه فإنه ما كان يقر هذا التحول الذي وصل إليه الرجلان الذين أسلمهما كرومر مقادة الصحافة (لطفي السيد) والتربية (سعد زغلول) ومفاهيمهما هي مفاهيم كرومر وخطتهما هي خطته" (عقبات في طريق النهضة: ص [76-77]).
والحق خلاف ما ذكره الجندي! الذي أحسن الظن كثيرًا بمحمد عبده وشيخه، وتغافل أنهما -لا سيما الأخير- قد راهن عليهما المستعمر كثيرًا، ومكن لمدرستهما، ورحب بها، لتكون خليفة له بعد رحيله عن مصر؛ نظرًا لأنها تحقق له أهدافه.
نعم قد يكون لطفي السيد وسعد زغلول قد زادا في الانحراف عن الإسلام أكثر من شيخيهما، إلا أن هذا أمر متوقع لكل من تأثر بهذه المدرسة التي كانت تعاليمها أول ممهد لمثل هذا الانحراف، وهكذا البدع والانحرافات تبدأ صغيرة ثم لا تلبث أن تكبر وتتسع وتزداد، لأن القاعدة التي انطلقت منها تسمح بذلك.
انحرافاته:
1- أعظم انحراف له، بل هو من الكفريات -والعياذ بالله- أنه -كما يقول ألبرت حوراني- :"لم يكن مقتنعًا كأساتذته! بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللا إسلامي"! (الفكر العربي في عصر النهضة، ص[211])، وتوضيح هذا كما يقول حوراني : أن "الدين -سواء كان الإسلام أو غيره- لا يعنيه إلا كأحد العوامل المكونة للمجتمع".
كان يرى أن ليس باستطاعة بلد له تقاليد -كمصر- أن يقيم حياة الفرد وبناء الفضائل الاجتماعية إلا على أساس الإيمان الديني، وأن الإسلام-كدين لمصر- لا يمكن إلا أن يكون هذا الأساس. لكنه رأى أن أديانًا أخرى قد تصلح لبلدان أخرى، وبتعبير آخر، كان لطفي السيد مقتنعًا بأن المجتمع الديني خير من المجتمع اللاديني (على الأقل في مرحلة معينة من التطور)، لكنه لم يكن مقتنعًا كأساتذته بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللا إسلامي.
وفي هذا يقول: "لست ممن يتشبثون بوجوب تعليم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية معينة. ولكني أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره. وهذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر وما يتفرع عنه من الفروع الأخلاقية. لا شك في أن نظريات الخير والشر كثيرة التباين. ولكن الواجب على كل أمة أن تعلم بنيها نظريتها هي في هذا الشأن. فعندنا (في مصر) إن مبدأ الخير والشر راجع إلى أصل الاعتقاد بأصول الدين، فعليه يجب أن يكون الدين من هذه الوجهة الأخلاقية هو قاعدة التعليم العام" (المرجع السابق :ص [211-212] نقلًا عن صفحات مطوية، لطفي السيد، [1/118]).
قلت: فلطفي السيد إذًا لا يفرق بين الإسلام وغيره من الأديان أو النِحل! فجميعها -في نظره سواء- ما دامت تجعل معتنقها يحب الخير ويفعله، ويكره الشر ويبتعد عنه! فنعوذ بالله من خلط الكفر بالإسلام.
2- دعوته إلى العلمانية وعزل الإسلام عن أن يكون مرجعًا لسلوك الفرد والمجتمع إلى كونه مجرد علاقة بين العبد وربه يحتفظ بها في ضميره!
يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :"إن تأكيد لطفي السيد على العلمانية وإحالة الدين إلى ضمير الفرد أثار النقاد الذين نددوا به واتهموه بالإلحاد" (ص: [329]).
3- إلحاده! -إن صح النقل عنه- فقد قال مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :"أخبرني عبد الرحمن الرافعي المحامي المؤرخ مرة أن لطفي السيد كان شيخ الملحدين. ولكن عبد الرزاق السنهوري الذي سمع هذه الملاحظة قال: إن شيخ الملحدين هو شبلي شميّل وليس لطفي السيد، على الرغم من أن لطفي نفسه من الملحدين! وقال الرافعي إن لطفي كمدير للجامعة المصرية دافع عن ملحدين آخرين ؛ كطه حسين ومنصور فهمي وحسين هيكل" (ص: [329]).
"وقال لي السنهوري -وهو صديق حميم للطفي السيد- إن لطفي أثار شكوكًا جدية في المعتقدات الدينية التقليدية" وأنه "أعرب عن شكوك خطيرة فيها، وقد ظل مشككًا حتى آخر حياته"! (ص: [330]).
4- طعنه في الشريعة الإسلامية بأنها غير صالحة لهذا العصر! يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : "قال لي -أي لطفي السيد- مرة في سياق الحديث: إن الشريعة الإسلامية وهي في حالة ركود منذ زمن بعيد لم تعد تتفق والأوضاع الجديدة للحياة"! (ص: [330]).
5- دعوته إلى الوطنية الضيقة التي رفعت شعار "مصر للمصريين"! فأعادت النعرة الجاهلية من جديد، حيث استبدل لطفي السيد رباط الأخوة الإسلامية بهذا الرباط الجاهلي.
يقول ألبرت حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة): "كان لطفي كغيره من المفكرين المصريين لا يحدد الأمة على أساس اللغة أو الدين، بل على أساس الأرض، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية، بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر" (ص: [216]).
وأن "لمصر في نظره ماضيان: الماضي الفرعوني والماضي العربي، ومن المهم أن يدرس المصريون الماضي الفرعوني، لا للاعتزاز به فحسب!، بل لأنه يلقنهم قوانين النمو الارتقاء" (ص: [216-217]).
وقد ذهب لطفي السيد في غلوه الجاهلي إلى القول بأن "القومية الإسلامية ليست قومية حقيقية، وأن الفكرة القائلة بأن أرض الإسلام هي وطن كل مسلم إنما هي فكرة استعمارية تنتفع بها كل أمة استعمارية حريصة على توسيع رقعة أراضيها ونشر نفوذها"! (ص: [218]).
ويقول -أيضًا- : "أما الأمة الإسلامية فكادت تقع خارج نطاق تفكيره" (ص: [224]).
ويقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : "كانت فكرته -أي لطفي- في الأمة -كما استقاها من الفكرة الأوروبي-! إقليمية، لا إسلامية" (ص: [328]).
ويقول -أيضًا- : "نادى بهوية مصرية وطنية تستند إلى تاريخها المتواصل، الذي لم يكن الحكم الإسلامي فيه إلا مجرد فصل واحد" (ص: [328]).
6- "الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيدًا الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمنصرون قبله، وكان أبرز ما دعا إليه:
أ- إبطال الشكل وتغييره بالحروف اللينة.
ب- تسكين أواخر الكلمات.
ت- إحياء الكلمات العامية المتداولة، وإدخالها في صلب اللغة الفصحى" (انظر: رجال اختلف فيه الرأي، لأنور الجندي، ص: [4]، بتصرف).
قلت: وانظر للتدليل على ما سبق من كلام لطفي السيد، كتاب (قمم أدبية) للدكتورة نعمات أحمد فؤاد.
7- دعوته إلى مذهب (المنفعة) دون ضوابط شرعية لهذه المنفعة، وقد استقى هذا المذهب كما يقول الدكتور حسين النجار من الفيلسوف الإنجليزي (جون ستيوارت مل).
قال الدكتور: "فمذهب المنفعة هو القاعدة في تفكيره السياسي والاجتماعي، فالمنفعة هي الحافز الأصيل للعلاقة بين الدول بعضها ببعض، وبين الحكومة والأفراد، أو بين الأفراد فيما بينهم" (أحمد لطفي السيد، للنجار، ص: [202-203]).
قلت: وتطبيقًا لهذا المذهب الغربي فقد عارض لطفي السيد "مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911، وكتب في هذا المعنى تحت عنوان (سياسة المنافع لا سياسة العواطف)! مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر في سبيل أمر لا يفيد بلادهم" (رجال اختلف فيهم الرأي، للجندي، ص: [5]).
8- دعوته للديمقراطية: ولم يعد يخفى على عاقل مخالفة هذا المذهب للإسلام، وأنه مذهب يحوي الكثير من الكفريات، بداية بتحكيم ما لم ينزل الله، وانتهاء بنقض مبدأ الولاء والبراء الشرعي..الخ.
يقول الدكتور حسين النجار: "أما لطفي السيد وأضرابه من المثقفين فقد استهوتهم الديمقراطية كمذهب" (أحمد لطفي السيد، ص: [82]).
ويقول عنه بأنه : "بهرته الحياة السياسية للدولة القومية في الغرب، فكانت وحيًا لفلسفته السياسية التي أخذ يبشر بها المصريين" (المرجع السابق، ص: [199]).
9- دعوته لمذهب (الحرية) بالمفهوم الغربي، دون أي ضوابط شرعية لهذه الحرية!
يقول الدكتور النجار: "الفكرة في عقيدة لطفي السيد هي الحرية، الحرية في كل صورها ومعانيها" (أحمد لطفي السيد، ص: [331]).
ويقول -أيضًا- : "أما مذهب الحرية الذي نادى به جون ستيوارت مل أساسًا للنظام الاجتماعي فقد اتخذه لطفي السيد أساسًا لما أسماه "مذهب الحريين" للدولة" (المرجع السابق، ص: [203]).
ويقول مجيد خدوري : "ازداد حب لطفي السيد للحرية بدراسته للفكر الأوروبي" (عرب معاصرون، ص: [326]).
ويقول ألبرت حوراني: "كان مفهوم لطفي السيد للحرية -كما يعترف هو نفسه باعتزاز- مفهوم ليبراليي القرن التاسع عشر" (الفكر العربي في عصر النهضة، ص: [213]).
10- أنه كان مهادنًا للاستعمار الإنجليزي لمصر، بل كان صنيعة لهم؛ ليحقق هو وأضرابه أهدافهم بعد الرحيل عن مصر.
يقول الأستاذ أنور الجندي: "لقد كان الاستعمار حريصًا على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها، ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز، ووفى لها، وكان أبرزها: لطفي السيد" (عقبات في طريق النهضة، ص: 59).
ويقول -أيضًا-: "إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان (الذين وصفهم بأنهم أصحاب المصالح الحقيقية) وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقيادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب، وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته بشيء" (رجال اختلف فيهم الرأي، ص: [7]).
ويقول مجيد خدوري :" وكان اللورد كرومر قبل مغادرته مصر بقليل، قد أعجب باعتدال هذه الكتلة -أي مدرسة محمد عبده- وراح يشجعها على تأسيس حزب الأمة، بغية مجابهة نفوذ أتباع مصطفى كامل من الوطنيين" (عرب معاصرون، ص: [315]).
ويقول عنه -أيضًا- :" كثيرًا ما لام الوطنيين لمعارضة بريطانيا"! (المرجع السابق، ص: [331]).
ويقول فتحي رضوان: " إنك لتقرأ كل ما كتب لطفي السيد في الجريدة في موضوع علاقة مصر ببريطانيا، وفي موضوع علاقة مصر بتركيا، فإذا به في الموضوع الأول لطيفًا، كأنه مر النسيم، يخاف أن يخدش خد الاستعمار، أما في الموضوع الثاني فهو متحمس غضوب فما سر هذا، وما تفسيره؟" (عصر ورجال، ص: [443]).
قلت: ولأجل هذا نفهم تمجيده ومدحه للورد كرومر الحاكم البريطاني الذي أذل المصريين لمدة ربع قرن! حيث قال يوم خروجه من مصر:" أمامنا الآن رجل عظيم، من أعظم عظماء الرجال، ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندًا له يضارعه في عظائم الأعمال"! نشر هذا في (الجريدة) في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع، فسب المصريين جميعًا وقال لهم: إن الاحتلال البريطاني باقٍ إلى الأبد! (انظر: رجال اختلف فيهم الرأي، لأنور الجندي، ص: [5-6]).
11- دعوته ومؤازرته لحركة تحرير المرأة التي قادها صاحبه قاسم أمين ?عليه من الله ما يستحقه-
يقول الدكتور حسين النجار: "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر" (أحمد لطفي السيد، ص: 243]).
وقال -أيضًا- :"ويقيم لطفي السيد من دار "الجريدة" منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة" (المرجع السابق، ص248]).
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: "قاسم أمين القدوة الحسنة"! يقول فيها مخاطبًا الشباب المصري: "ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حُسن تفكيره" (المنتخبات [1/11]).
وأثنى كثيرًا على دعوته الفاجرة، (انظر:المنتخبات، [1/268 وما بعدها]).
وتطبيقًا من لطفي السيد لهذه الحركة التحريرية للمرأة المسلمة قام (عندما كان مديرًا للجماعة المصرية) هو وأصحابه بخطة ماكرة أقروا فيها دخول (البنات) لأول مرة في الجامعة المصرية واختلاطهم في الدراسة بالبنين! فكانوا أول من فعل ودعا إلى هذه الضلالة التي لا زالت تعيشها الجامعة المصرية إلى اليوم، فعليه وزرها ووزر من عمل بها. قال الزركلي في ترجمته: "هو أول من سهَّل للفتيات دخول الجامعة المختلفة في بدء إنشائها"
وانظر تفاصيل هذه الخطة الخبيثة في كتاب: "أحمد لطفي السيد" للدكتور حسين النجار، ص 317 وما بعدها.
12- دعوته إلى دراسة الفكر اليوناني، والاقتباس منه، وتشجيع تلاميذه على ذلك.
يقول الأستاذ مجيد خدوري: "رأى لطفي السيد من الضروري إعادة تعريف أبناء بلده بأرسطو الذي كان لطفي نفسه يدين إليه بكثير من آرائه في السلطة والحرية؛ مما جعله يشجع تلاميذه على دراسة الفكر اليوناني. لقد نشر خلال عشرين سنة ترجمات لكتاب (علم الأخلاق) في سنة 1924 وكتاب (الكون والفساد) في سنة 1932 وكتاب (علم الطبيعة) في سنة 1935 وكتاب (السياسة) في سنة 1940.
وهكذا فإن دراسة الفكر اليوناني لم يكن لها أثرها في تفكيره العلماني فحسب، بل في تفكير تلاميذه" (عرب معاصرون، ص: [335-336]).
قلت: ولكن بقي أن تعلم ما قاله الأستاذ أنور الجندي في هذه الترجمات التي قام بها لطفي السيد.
قال الأستاذ أنور: "تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو (التي ترجمت من الفرنسية) (السياسة، الكون والفساد، الأخلاق) وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مترجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة في دار الكتب المصرية! وذلك بشهادة عديد من معاصري هذه الفترة" (رجال اختلف فيهم الرأي، ص: [6]).
_______
مصادر البحث:
(أحمد لطفي السيد.. انسلاخ من الدولة العثمانية) لأحمد تمام - موقع إسلام أون لاين
أحمد لطفي السيد.. لسليمان الخراشي- موقع الكاشف
أحمد لطفي السيد: أستاذ الجيل!) للدكتور حسين فوزي النجار.. والترجمة من أعلام الزركلي.
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: