إياك والتشدُّد والغلو
كثيرٌ مِنَّا يُشدِّد على نفسه ثم تنتقل الحرارة في جسده.. فيُشدِّد على من حوله ظنًا منه أنه يأخذ بأيديهم للجنة أو يُبعِدهم عن النار وهو لا يدري أنه يُبعِدهم عن السنة وقد يتسبَّب في انتكاسهم بغضًا في التشدُّد والتنطُّع.
كثيرٌ مِنَّا يُشدِّد على نفسه ثم تنتقل الحرارة في جسده.. فيُشدِّد على من حوله ظنًا منه أنه يأخذ بأيديهم للجنة أو يُبعِدهم عن النار وهو لا يدري أنه يُبعِدهم عن السنة وقد يتسبَّب في انتكاسهم بغضًا في التشدُّد والتنطُّع.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها -أي: عدُّوها قليلة-، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليل أبدًا -أي: دائمًا دون انقطاع-، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر -أي: أواصل الصيام يومًا بعد يوم-، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا"..
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ الحولاء بنت تُوَيْتِ بن حبيب بن أسد ابن عبد العزَّى مرَّت بها، وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "فقلت: هذه الحولاء بنت تويتٍ. وزعموا أنَّها لا تنام بالليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »" (رواه مسلم: [785]).
قال ابن القيم: "نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين بالزيادة على المشروع، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ تشديد العبد، على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه إما بالقدر وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يُشدِّد على نفسه بالنذر الثقيل، فيَلزَمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفةً لازمةً لهم" (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان؛ لابن القيم: [1/132]).
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
».ونقل ابن حجر في شرحه للحديث في فتح الباري: عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (قال ابن حجر: رواهما أحمد، وإسنادٌ كلٍ منهما حسن)."قوله: «
» هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السكن وفي بعض الروايات عن الأصيلي بلفظ: « »، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وابن حبان وغيرهم، والدين منصوب على المفعولية وكذا في روايتنا أيضًا، وأضمر الفاعل للعلم به، وحكى صاحب المطالع أن أكثر الروايات برفع الدين على أن يُشاد مبني لما لم يُسمَّ فاعله، وعارضه النووي بأن أكثر الروايات بالنصب، ويجمع بين كلاميهما بأنه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيد النصب لفظ حديث بريدة عند أحمد: « » ذكره في حديث آخر يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب. والمشادة بالتشديد المغالبة، يقال: شَادَّهُ يُشَادُّهُ مُشَادَّةً إذا قَاوَاهُ، والمعنى لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب".قال ابن المنير: "في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطِّع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة.. بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يُصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة، وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: « » وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطُّع، كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر".
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: