طريقة الراسخين في العلم

منذ 2014-05-21

الرَّاسخونَ في العلم هم المتواضعون لله، المتذلِّلون له في مرضاته، الذين لا يتعاظمون مَن فوقهم، ولا يحقرون مَن دونهم.

إن فقهاء أهل الحديث العامِلين به معظم همِّهمُ البحثُ عن معاني كتاب الله، وما يُفسِّرُهُ من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة صحيحها وسقيمِها، ثم التفقه فيها وفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السُّنة والزهد والرقائق وغيرِ ذلك، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومَنْ وافقه من علماء الحديث الرَّبّانيين.

وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغُل بما أُحْدِثَ من الرأي ممَّا لا يُنتفع به، ولا يقع، وإنَّما يُورثُ التجادلُ فيه الخصوماتِ والجدالَ وكثرة القيل والقال.

 

وما أحسن ما قال السَّقَطِيُّ: "نظرتُ في الأمرِ، فإذا هو الحديث والرأي، فوجدتُ في الحديث ذِكْرَ الرب وربوبيتَه وجلاله وعظمته، وذِكْرَ العرش وصفة الجنة والنار، وذِكْرَ النبيين والمرسلين، والحلال والحرام، والحثَّ على صلة الأرحام، وجماع الخير فيه. ونظرت في الرأي، فإذا فيه المكرُ، والغدرُ، والحيلُ، وقطيعة الأرحام، وجماع الشَّرِّ فيه".

ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه، تمكَّن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبًا؛ لأنَّ أصولها تُوجد في تلك الأصول المشار إليها.

ولا بدَّ أنْ يكون سلوكُ هذه الطريق خلف أئمة أهل الدين المجمَعِ على هدايتهم ودرايتهم؛ كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد ومَن سلك مسلكَهم، فإنَّ مَنِ ادعى سلوكَ هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوزَ ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذُ به، وترك ما يجب العملُ به.

 

ومِلاكُ الأمرِ كلِّه: أنْ يقصِدَ بذلك وجه الله، والتقرُّبَ إليه بمعرفة ما أنزله على رسوله، وسلوكِ طَريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخَلْق إليه، ومَنْ كان كذلك؛ وفَّقه الله وسدَّده، وألهمه رشده، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: من الآية 28]، ومن الراسخين في العلم.

فالرَّاسخونَ في العلم: المتواضعون لله، المتذلِّلون له في مرضاته، لا يتعاظمون مَن فوقهم، ولا يحقرون مَن دونهم.

ويشهد لهذا قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أتاكم أهلُ اليمن، هُمْ أبرُّ قلوبًا، وأرقُّ أفئدةً. الإيمان يمانٍ، والفِقه يمانٍ، والحكمة يمانيةٌ» (رواه البخاري [4388]، ومسلم [52]). وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري، ومَن كان على طريقهِ من عُلَماء أهلِ اليمن، ثمَّ إلى مثل أبي مسلم الخولاني، وأويس القَرَنيِّ، وطاووس، ووهب بن منبه، وغيرهم من عُلماء أهل اليمن.

 

وكلُّ هؤلاء مِنَ العلماء الربانيين الخائفين لله، فكلهم علماءُ بالله يخشونه ويخافونه، وبعضُهم أوسعُ علمًا بأحكام الله وشرائع دينه من بعض، ولم يكن تميُّزهم عن الناس بكثرة قيلَ ولا قالَ، ولا بحثٍ ولا جدالٍ.

وكذلك معاذُ بنُ جبل رضي الله عنه أعلم الناس بالحلال والحرام، وهو الذي يُحشر يومَ القيامة أمام العلماء برتوة -الرتوة: الدرجة والمنزلة-، ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها، وإنما كان عالمًا بالله وعالمًا بأصول دينه.

وقد قيل للإمام أحمد: مَنْ نسألُ بعدَك؟ قال: "عبد الوهَّاب الورَّاق"، قيل له: إنَّه ليس له اتِّساعٌ في العلم، قال: "إنَّه رجل صالح مثلُه يُوفَّقُ لإصابة الحق".

وسئل عن معروف الكرخي، فقال: "كان معه أصلُ العلم: خشية الله". وهذا يرجعُ إلى قولِ بعض السَّلف: "كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا".

المصدر: من كتاب (جامع العلوم والحكم) الحديث التاسع، باختصار.
  • 3
  • 1
  • 6,222

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً