تسامح المحبين
إذا استطعت أن تسامح فأنت أقوى الأقوياء، وحين تأمّلت هذه الكلمات وجدتها صالحة، فهي حكمة من حكم العلاقة بين شركاء الحياة
كان أبي رحمه الله يقول لي: "إذا استطعت أن تسامح فأنت أقوى الأقوياء، وحين تأمّلت هذه الكلمات وجدتها صالحة، فهي حكمة من حكم العلاقة بين شركاء الحياة" (حتى يبقى الحب، د. محمد محمد بدري، ص [678]).
إنه لا يوجد شخص في الدنيا ليس لديه قدر من الأخطاء والتصرفات التي تُضايِق الآخرين، إننا جميعًا بشر ونتعامل مع شريك الحياة وهو بشر أيضًا بالتالي لابد أن يكون لدينا أخطاء، وهنا علينا أن نختار بين طريقتين في التعامل مع الأخطاء:
الأولى: أن تُواصِل نقدك وضيقك بالأخطاء الصغيرة.
والثانية: أن تسامح شريك الحياة على كل هذه الأخطاء التي يقع فيها.
ولاشك أن الطريقة الثانية تحمل لك قدرًا كبيرًا من الارتياح، فالعفو والتسامح يُورِث في النفس راحةً وطمأنينةً ومن ثم سعادةً ذاتية، وحبًا للآخر.
مبدأ قبول الأخطاء:
إن قبول الأخطاء والمشكلات كجزء من الحياة الزوجية يُسهِم بالإسراع في التوصل إلى علاقة زوجية طيبة، فالبيت السعيد لا يقوم على المحبة وحدها بل لابد أن تتبعها روح التسامح بين الزوجين، والتسامح لا يأتي بغير تبادل حسن الظن والثقة بين الطرفين.
الإسلام الحضاري:
وقد أولى الإسلام قيمة التسامح مكانةً هامة، وأعطى نبيه صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته العطرة أمثلةً تطبيقيةً عملية في ممارسة هذه القيمة، وظلَّت تلك القيمة سِمة من سِمات حضارة الإسلام وقت ازدهارها، يقول الفيلسوف الألماني الشهير غوته في كتابه أخلاق المسلمين وعاداتهم عن التسامح: "التسامح الأكبر أمام اعتداء أصحاب الديانات الأخرى، وأمام إرهاصات وتخريفات اللّادينيين، التسامح بمعناه الإلهي، غرَسه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين".
"فقد كان محمدٍ صلى الله عليه وسلم المتسامِح الأكبر، ولم يتخذ رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم موقفًا صعبًا ضد كل الذين كانوا يعتدون عليه بالسبّ أو بمدّ الأيدي أو بعرقلة الطريق وما شابه ذلك، فقد كان متسامحًا؛ فتبعه أصحابه وتبعه المسلمون، وكانت وما زالت صفة التسامح هي إحدى المميزات والسِّمات الراقية، أن تسامح المسلم ليس من ضعفٍ ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه، وتمسكه بعقيدته" (أخلاق المسلمين وعاداتهم، غوته).
مواقف من تسامح الرسول صلى الله عليه وسلم:
- جئتكم من عند خير الناس:
ومن مواقف السماحة والعفو في حياته صلى الله عليه وسلم حينما همَّ أعرابي بقتله حين رآه نائمًا تحت ظل شجرة، وقد علَّق سيفه عليها، فعن جابر رضي الله عنه قال: "كُنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاتِ الرقاع -إحدى غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم-، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلَّق بها سيفه، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلَّق بالشجرة فأخذه فقال: تخافني؟ قال: «لا»، فقال: فمَن يمنعك مني؟ قال: «الله»، فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فقال: «مَن يمنعك مني؟» فقال: كن خير آخذ. فقال: «تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قال: لا، ولكني أُعاهدك ألا أُقاتِلك ولا أكون مع قومٍ يقاتلونك. فخلى سبيله، فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس" (صحّحه ابن حبان).
غلظ الأعرابي وتسامح الرسول:
عن أنس بن مالك قال: "كنتُ أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُرِدٍ نجراني -عباءة- غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه جبذة -أي جذبه جذبة قوية- حتى رأيتُ صفح عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته -تركتْ الجذبة علامة على عنق الرسول-، فقال: يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
تَسامحه مع جاره اليهودي:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاوره جار يهودي، وكان اليهودي يحاول أن يُؤذِي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يستطيع خوفًا من بطش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان أمامه إلا الليل والناس جميعاً نيام؛ حيث كان يأخذ الشوك والقاذورات ويرمي بها عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولما يستيقظ رسولنا الكريم فيجد هذه القاذورات كان يضحك صلى الله عليه وسلم، ويعرف أن الفاعل جاره اليهودي، فكان نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم يُزيح القاذورات عن منزله ويُعامله برحمةٍ ورفقٍ ولا يُقابِل إساءته بالإساءة، ولم يتوقَّف اليهودي عن عادته حتى جاءته حُمّى خبيثة، فظلَّ ملازمًا الفراش يعتصر ألمًا من الحمى حتى كادت توشك بخلاصه.
وبينما كان اليهودي بداره سمع صوت الرسول صلى الله عليه وسلم يضرب الباب يستأذن في الدخول، فأذِن له اليهودي فدخل صلوات الله عليه وسلم على جاره اليهودي وتمنّى له الشفاء، فسأل اليهودي الرسول صلى الله عليه وسلم وما أدراك يا محمد أني مريض؟؟ فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: «عادتك التي انقطعت» -يقصد نبينا الكريم القاذورات التي يرميها اليهودي أمام بابه-، فبكى اليهودي بكاءً حارًا من طيب أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتسامحه، فنطق الشهادتين ودخل في دين الإسلام.
الكتابة على الرمل:
كان هناك صديقان يمشيان في الصحراء وفي أثناء سيرهما اختصما، فصفع أحدهما الآخر فتألّم الصديق لصفعة صديقه ولك لم يتكلم!! بل كتب على الرمل، "اليوم أعز أصدقائي صفعني على وجهي" وَواصلا المسير وَوجدا واحةً فقرّرا أن يستحمَّا في الماء ولكن الذي صفع وتألّم من صديقه غرق أثناء السباحة فأنقذه صديقه الذي صفعه ولما أفاق من الغرق نحت على الحجر "اليوم أعز أصدقائي أنقذ حياتي" فسأله صديقه: "عندما صفعتك كتبتَ على الرمل لكن عندما أنقذتك من الغرق كتبتَ على الحجر فلماذا؟" ابتسم وأجابه: "عندما يجرحنا الأحباب علينا أن نكتب ما حدث على الرمل لتمسحها رياح التسامح والغفران ولكن عندما يعمل الحبيب شيء رائع، علينا أن ننحته على الصخر حتى يبقى في ذاكرة القلب حيث لا تمحوه الرياح".
إن التسامح شيء يتعلمه الإنسان بسهولة لكن تنفيذه صعب يجب على الإنسان أن يمرَّ بمرحلة التسامح، وهي تشمل التسامح المنطقي والتسامح العاطفي بمعنى أن الإنسان كلما فكر في شخص كان قد غضب منه يتمنى له الخير، فالأسهل والأفضل أن تُسامح وسيعطيك الله سبحانه وتعالى الأجر والثواب، فنحن ليس لدينا الوقت في هذه الدنيا للحزن والضيق والغضب من شخصٍ معين أو موقفٍ محدد، فإذا غضبت من شخص فلا تُهدِر طاقتك في الغضب والضيق والحزن، وإنما الأفضل أن تُسامح، فأرسل لمن يضايقك باقةً جميلة من الطاقة، فطاقة الإنسان لو وصلت ببلد لأضاءته لمدة أسبوع كامل.
"تخيل كل هذه الطاقة عندنا ونحن لا ندري"
"إنها طاقة هائلة أعطاها الله لك تساوي أكثر من 80 مليار دولار، فالحياة قصيرة، ولن يكون لها إعادة، واعلم أنها حياة واحدة ليس لها بروفة وإنما هي حياة حقيقية ليس لها إعادة فإذا ما انتهت لن تعود، فيجب أن تستخدم كل لحظة في حياتك، كأنها أخر لحظة في حياتك فأنت لن تخرج أبداً من هذه الحياة وأنت حي" (قوة الحب والتسامح، د. ابراهيم الفقي).
فلماذا نحمل الأشياء التي تضايقنا بداخلنا وعلى عاتقنا؟ لماذا تكلمنا على شيءٍ مرَّ منذُ سنواتٍ نتكلم عنه وكأنه حدث الأن، فنغضب ونتضايق مرةً أخرى؟
ماذا بعد؟
تخلق بأخلاق حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم وسامح شريك حياتك، ولا تحمل على ظهرك أحمال ثقيلة تُنغِص عليك حياتك.
المصادر:
- قوة الحب والتسامح، د. ابراهيم الفقي.
- أخلاق المسلمين وعاداتهم، غوته.
- حتى يبقى الحب، د. محمد محمد بدري.
أم عبد الرحمن محمد يوسف
- التصنيف: