شرح وأسرار الأسماء الحسنى - (16) الودود
لودود الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم، ويحبونه، فهو أحب إليهم من كل شيء، قد امتلأت قلوبهم من محبته، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم إليه ودًا وإخلاصًا وإنابةً من جميع الوجوه..
الودود سبحانه وتعالى:
لوْ لمْ يَكُنْ مِنْ تَحَبُّبِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إلى عبادِهِ وإحسانِهِ إليهم وَبِرِّهِ بهم إلاَّ أنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ لهم ما في السَّمَاواتِ والأرضِ وما في الدنيا والآخرةِ، ثُمَّ أَهَّلَهُم وَكَرَّمَهم، وَأَرْسَلَ إليهمْ رُسُلَهُ وأَنْزَلَ عليهمْ كُتُبَهُ، وَشَرَعَ لهم شَرَائِعَهُ، وَأَذِنَ لهم في مُنَاجَاتِهِ كلَّ وقتٍ أَرَادُوا، وَكَتَبَ لهم بكُلِّ حسنةٍ يَعْمَلُونَهَا عَشْرَ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وكَتَبَ لهم بالسيِّئَةِ واحدةً، فإنْ تَابُوا منها مَحَاهَا وأَثْبَتَ مكانَهَا حسنةً.
وإذا بَلَغَتْ ذُنُوبُ أحدِهِم عَنانَ السماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَهُ غَفَرَ لهُ، ولوْ لَقِيَهُ بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيَهُ بالتوحيدِ لا يُشْرِكُ بهِ شيئاً لأَتَاهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، وَشَرَعَ لهم التوبةَ الهادمةَ للذنوبِ؛ فَوَفَّقَهُم لِفِعْلِهَا ثُمَّ قَبِلَهَا مِنْهُم، فَإنَّما الفضلُ كُلُّهُ والنعمةُ كُلُّهَا والإحسانُ كلُّهُ منهُ أَوَّلاً وآخِراً، أَعْطَى عَبْدَهُ مالَهُ، وقالَ: تَقَرَّبْ بهذا إِلَيَّ أَقْبَلْهُ منكَ.
فالعبدُ لهُ، والمالُ لهُ، والثوابُ منهُ، فهوَ المُعْطِي أوَّلاً وآخِراً، فكيفَ لا يُحَبُّ مَنْ هذا شأنُهُ؟!
وكيفَ لا يَسْتَحِي العبدُ أنْ يَصْرِفَ شَيْئاً منْ مَحَبَّتِهِ إلى غَيْرِهِ؟! ومَنْ أَوْلَى بالحمدِ والثناءِ والمَحَبَّةِ منهُ سبحانَهُ؟! ومَنْ أَوْلَى بالكَرَمِ والجُودِ والإحسانِ منهُ؟! (طريق الهجرتين:23:261،262).
وروده في القرآن الكريم:
ورد اسم الله تعالى الودود مرتين في القرآن الكريم:
في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، وقوله جلَّ وعلا: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ . وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:13-14]
المعنى اللغوي:
الوُدُّ مصدر المودَّة، والودُّ هو الحبُّ يكون في جميع مداخل الخير.
وَوَدِدْتُ الشيء أوَدُّ، وهو من الأمنية وشدة التعلُّق بحدوث الشيء، كما في قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة من الآية:96]، أي: يتمنى أن يعيش ألف سنة، وكقوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [البروج من الآية:11]
قال ابن العربي: "اتفق أهل اللغة على أن المودَّة هي المحبة"، قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم من الآية:21]، ويأتي أيضًا بمعنى الملازمة مع التعلُّق، فالودد معناه الوتد؛ لثبوته ولشدة ملازمته وتعلقه بالشيء.
ويأتي على معنى المعية والمرافقة والمصاحبة كلازم من لوازم المحبة.
كما ورد عَنْ ابنِ عُمَرَ أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» (صحيح مسلم).
أما الحبُّ: فهو نوعٌ من الصفاء والنقاء والطهُّر والخضوع، والحُبُّ من القِرط، الذي من شأنه أنه دائم التقلقل، كما قال الجنيد: "الصادق يتقلَّبُ في اليوم أربعين مرة، والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة" (مدارج السالكين:2:274). فالمُحبُّ يتقلَّب قلبه بين الخوف والرجاء، والسكينة والقلق، والسرور والحزن، أما من مات قلبه، تسكن أحواله، وهذا من علامات النفاق والعياذ بالله تعالى..
والفرق بين الحُبُّ والودُّ: أن الحب ما استقر في القلب، والودُّ ما ظهر على السلوك.
فكل ودود مُحب، وليس كل مُحب ودود، وكل ودود أساسه مشاعر الحب في قلبه.
معنى الاسم في حق الله تعالى:
قال ابن عباس: "الودود هو الرحيم"، وقال البخاري: "الودود هو الحبيب".
وقال الزجاج: "(الودود) فعول بمعنى فاعل، كقولك:غفورٌ بمعنى غافر، وشكور بمعنى شاكر. فيكون الودود في صفات الله بمعنى: الذي يودُّ عباده الصالحين ويحبهم".
والمعنى الثاني:أنه مودود بمعنى مفعول، أي:الذي يوده عباده ويحبونه.
قال الخطابي: "وقد يكون معناه أن يُوَدِّدَهم إلى خلقه، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]"، يقول السعدي: "الودود الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم، ويحبونه، فهو أحب إليهم من كل شيء، قد امتلأت قلوبهم من محبته، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم إليه ودًا وإخلاصًا وإنابةً من جميع الوجوه" (تيسير الكريم الرحمن:1:947).
ويقول ابن القيم في النونية (القصيدة النونية:245):
وهوَ الودودُ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّهُ *** أحبابُهُ والفضلُ لِلْمَنَّانِ
وهوَ الذي جَعَلَ المَحَبَّةَ في قُلُو *** بِهِمُ وَجَازَاهُم بِحُبٍّ ثَانِ
هذا هوَ الإحسانُ حَقًّا لا مُعَا *** وَضَةً ولا لِتَوَقُّعِ الشُّكْرَانِ
لكنْ يُحِبُّ شُكُورَهُم وَشَكُورَهُم *** لا لاحْتِيَاجٍ منهُ للشُّكْرَانِ
عجـــائب ودُّ الله:
يقول ابن القيم في [الفوائد:1:38): "ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبد له ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه، إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوك بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه..
كفى بك عزًّا أنك له عبد *** وكفى بك فخراً أنه لك رب"
من أنت أيها العبد الفقير حتى يتقرَّب إليك أغنى الأغنياء؟! وماذا تساوي أنت أيها الذليل حتى يتودد إليك العزيز جلَّ في علاه؟! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ:هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ» (صحيح مسلم).
ألا تشكو من قسوة القلب؟! ألا تعاني هجر القرآن؟! ألا يسوؤك حالك مع الله تعالى؟! ألا يواجههك ضيق العيش؟! ألا تبتلى؟! إذًا، هلم ارفع شكواك وقَدِم نجواك في الثلث الأخير من الليل، فاتحة الأحزان وفاتحة الرضوان، وجنات النعيم والكرم الإلهي، عجبًا لك أيها العبد! ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونها الحراس والحُجَّاب، وتنسى من بابهُ مفتوحٌ إلى يوم القيامة!
ومن عجائب ودَّهُ:أن تسبق محبته للعباد محبتهم له.
فالله هو الذي يبتديء عباده بالمحبة، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة من الآية:54].
يقول ابن الجوزي: "سبحان من سبقت محبته لأحبابه؛ فمدحهم على ما وهب لهم، واشترى منهم ما أعطاهم، وقدم المتأخر من أوصافهم لموضع إيثارهم، فباهى بهم في صومهم، وأحب خلوف أفواههم، يا لها من حالةٍ مصونةٍ! لا يقدر عليها كل طالب، ولا يبلغ كنه وصفها كل خاطب" (صيد الخاطر:1:28)
ومن عجائب ودَّهُ: أنه يتودد بنعمه لأهل المعاصي، ويقيم بها عليهم الحجة.
ومن لطائف ودَّهُ: أنه لا يرفعه عن المذنبين، وإن تكررت ذنوبهم، فإذا تابوا منها وعادوا إليه شملهم بمحبته أعظم مما كانوا عليه. أليس الله يحب التوابين؟
يقول ابن القيم: "وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربِّه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الودُّ الذي كان له منه قبل الجناية، واحتجوا فى ذلك بأثرٍ إسرائيليٍ مكذوب: "أن الله قال لداود :يا داود، أما الذنب فقد غفرناه، وأما الودُّ فلا يعود"! وهذا كذبٌ قطعاً، فإن الودُّ يعود بعد التوبة النصوح أعظمُ مما كان، فإنه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الودُّ لما حصلت له محبته، وأيضًا فإنه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم فرح وأكمله وهو لا يحبه.
وتأمل سر اقتران هذين الاسمين فى قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِيءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْودُود} [البروج:13-14]. تجد فيه من الرد والإنكار على من قال: "لا يعود الودُّ والمحبة منه لعبده أبدًا، ما هو من كنوز القرآن ولطائف فهمه، وفى ذلك ما يُهَيِّج القلب السليم ويأْخذ بمجامعه ويجعله عاكفًا على ربِّه الذي لا إله إلا هو ولا ربُّ له سواه. عكوف المحب الصادق على محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بد له منه ولا تندفع ضرورته بغيره أبدًا" (طريق الهجرتين:23:98).
فالله هو الذي يبدأ بالمغفرة ويُعيدها مرةً أخرى.
تذنب ثم تتوب إليه بصدق، فيغفر ويصفح، ليس هذا فحسب بل تزداد محبته لك، أفضل وأعظم مما كانت لك قبل ذلك.
إذا أردت أن يكون لك حظ عظيم من اسم الله تعالى (الودود)، فتودد إليه بالأعمال الصالحة.
وإن وصلت إلى تلك المنزلة، ستنال محبة الله عزَّ وجلَّ وملائكته وسيُبسَط لك القبول في الأرض.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ» (صحيح البخاري)، ولوْ لمْ يَكُنْ في مَحَبَّةِ اللَّهِ إلاَّ أنَّهَا تُنْجِي مُحِبَّهُ منْ عذابِهِ لكانَ يَنْبَغِي للعبدِ أنْ لا يَتَعَوَّضَ عنها بشيءٍ أبداً، فَأَبْشِرْ فَإِنَّ الْلَّهَ تَعَالَىْ لَا يُعَذِّبُ حَبِيْبَهُ.
كيف نُحبَّ الله جلَّ في علاه؟
أولاً: معرفة الله.
فالله يحب أن تتعرف عليه، كما يقول النبي: «تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة» (صحيح الجامع:2961). وقال: «إن الله ليعجب من العبد إذا قال: لا إله إلا أنت إني قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: عبدي عَرِفَ أن له ربًّا يغفر ويعاقب» (صحيح الجامع:1821).
عن الحسن بن أبي جعفر، قال: "سمعت عتبة الغلام يقول: من عرف الله أحبه، ومن أحب الله أطاعه ومن أطاع الله أكرمه، ومن أكرمه أسكنه في جواره، ومن أسكنه في جواره فطوباه، وطوباه، وطوباه، وطوباه فلم يزل يقول وطوباه حتى خرَّ ساقطًا مغشيًا عليه (حلية الأولياء:3:69).
ومن أعظم الأسباب التي تُعين على معرفة الله تعالى:
• التفكُّر في خلق السماوات والأرض، كان ذو النون المصري يقول: "تنال المعرفة بثلاث: بالنظر في الأمور كيف دبرها، وفي المقادير كيف قدرها، وفي الخلائق كيف خلقها" (حلية الأولياء:4:214)
• ومطالعة أسماء الله تعالى وصفاته، لا سيما بتدبُّر آيات القرآن والنظر في هذه الأسماء ومواضعها، وكذلك تلمُّس آثار هذه الأسماء في الكون من حولك. يقول ابن القيم "واللَّهُ سبحانَهُ تَعَرَّفَ إلى عبادِهِ منْ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ بما يُوجِبُ مَحَبَّتَهُم لهُ؛ فإنَّ القلوبَ مَفْطُورَةٌ على مَحَبَّةِ الكمالِ وَمَنْ قامَ بهِ، واللَّهُ سبحانَهُ وتَعَالَى لهُ الكمالُ المُطْلَقُ منْ كلِّ وَجْهٍ، الذي لا نَقْصَ فيهِ بِوَجْهٍ ما" (روضة المحبين:420).
• استشعار نعم الله على العبد.
"فإن القلوب جُبِلَت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحسانًا من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نفس ولحظة، وهو يتقلَّبُ في إحسانه في جميع أحواله" (طريق الهجرتين:23:258)، وكان عمر بن عبد العزيز يقول "الفكرة في نعم الله أفضل العبادة" (حلية الأولياء:2:411).
ثانيًا: حب النبي واتبـــاع سُنَّته.
فمن اتبع رسوله فيما جاء به، وصدق في اتباعه، فذلك الذي أحب الله وأحبه الله. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
ثالثًا: كثرة ذكر الله تعالى.
قال ذو النون: "وَمَنْ شُغِلَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ بِالذِّكْرِ، قَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ نُورَ الِاشْتِيَاقِ إِلَيْهِ" (شعب الإيمان:2:267).
رابعًا:حب القرآن وتلاوته بتدبُّر وتفكُّر.
عن عائشة: "أن النبي بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]. فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ، فقال: «سلوه لأي شيءٍ يصنع ذلك»، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي: «أخبروه أن الله يحبه» (متفق عليه)، أحبَّ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فأحبَّهُ الرحمن.
قال ابن القيم "فتبارك الذي جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء لما في الصدور وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبُّر والتفكُّر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكُّل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله" (مفتاح دار السعادة:1:187).
خامسًا: الانكسار والذلَّ بين يدي العزيز الجبــار.
فإن منن الرحمن تفيض على أهل الانكسار. قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران من الآية:123]، ويقول جلَّ وعلا: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
وأقرب ما يكون العبد من الربِّ حال انكساره بين يديه، كما ورد في بعض الإسرائيليات أن موسى قال: "يا رب أين أبغيك، قال: ابغني عند المنكسرة قلوبهم" (حلية الأولياء:1:376)، فالله تعالى يبتليك ليسمع تضرعك وأنينك؛ لأن فيه انكسار وافتقار بين يديه.
سادسًا: التقرُّب إليه بالفرض وكثرة النوافل، لا سيما الصلاة.
كما ورد في الحديث القدسي: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» (صحيح البخاري).
سابعًا: الخلوة لمناجاة الله.
لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار ورفعوا قصص الاعتذار مضمونها: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف:88]، لبرز لهم التوقيع عليها: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، (لطائف المعارف:1:228)، ومناجاتك سبب نجاتك، وبها يغرس الله تعالى حبَّهُ في قلبك.
ثامنًا: معاملة الله بالصدق والإخلاص ومخالفة الهوى.
فإن كنت تريد أن يحبك الله ، ينبغي أن تترك شيئًا تحبه ابتغاء مرضاته. ومن ترك شيئًا لله، عوضه الله خيرًا منه.
فلتجربي أيتها الفتاة أن تتركي التبرُّج والملابس الضيقة؛ ابتغاء مرضاة الله وحده، وانظري كم فيوضات الرحمة التي سيفيض بها الكريم عليكِ، ويكفيكي أن يُحبك ويرزقكِ حبه، إن وجدكِ صادقة مخلصة.
ولتجرب أيها الشاب أن تترك مصاحبة الفتيات والتدخين، وسائر المُنكرات التي يقع فيها شباب هذا الزمان؛ ولسان حالك يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]. وحينها ستُبلَّغ حُب ربِّك.
تاسعًا: تذكُّر نعيم أهل الجنة، ورؤيتهم لربِّهم.
فاستحضار هذه اللحظة يُسكِب في القلب معاني المحبة.
عاشرًا: محبة أولياء الله ومجالسة الصالحين المحبين.
فإذا أحببت أولياءه أحبك وإذا عاديت أولياءه أذلَّك، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» (صحيح البخاري).
وعن النبي: «أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكًا قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه» (رواه مسلم).
وقال بعض السلف: "أحِب أهل الجنة تكن معهم يوم القيامة، وابغض أهل المعاصي يحبك الله" (حلية الأولياء:3:188)، ومجالسة الصالحين المحبين ترقق القلب، وتلتقط من أفواههم أطايب الكلام كما تنتقى أطايب الثمار، هؤلاء قوم أحبوا الله فتتفطر القلوب القاسية لكلامهم، وتدمع العيون الجافية عند سماع أصواتهم، قوم عرفوا الله، فذاقوا طعم السعادة ونالوا لذة الإيمان، فلو عرف الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السرور والنعيم لجالدونا عليه بالسيوف.
حادي عشر:حب الصحابة، لا سيما الأنصار.
عن البراء قال: سمعت رسول الله يقول: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله» (متفق عليه).
ثاني عشر: الزهد في الدنيـــا.
قال رسول الله: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك» (رواه ابن ماجه).
ثالث عشر: أداء الأمانة وصدق الحديث وحسن الجوار.
قال رسول الله: «إن أحببتم أن يحبكم الله تعالى ورسوله، فأدوا إذا ائتمنتم واصدقوا إذا حدثتم وأحسنوا جوار من جاوركم» (رواه الطبراني وحسنه الألباني، صحيح الجامع:1409).
رابع عشر: أن تبتعد عن كل سبب يحول بينك وبين الله تعالى.
فابتعد عن كل ذنبٍ تعلم أنه يقطع بينك وبين ربِّك؛ حتى يخلص قلبك له وحده.
خامس عشر: المبادرة إلى طلب القرب بالطاعات.
قال النبي: «قال الله يا ابن آدم، قم إليَّ أمش إليك، وامش إليَّ أهرول إليك» (رواه أحمد وصححه الألباني).
سادس عشر: محبة لقاء الله..
والاستعداد له بالزيادة في الأعمال الصالحة، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» (متفق عليه).
الدعاء باسم الله الودود:
لم يرد الدعاء بالاسم أو الوصف في القرآن أو السُّنَّة، ويمكن الدعاء بمعنى الاسم؛ فالودود هو المحبوب الذي يستحق أن يحب، وأن يكون أحب إلى العبد من سمعه وبصره وجميع محبوباته، ومما ورد في ذلك حديث معاذ أن رسول الله قال: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ»، قَالَ رَسُولُ اللهِ «إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلمُوهَا» (رواه الترمذي وصححه الألباني).
يقول ابن القيم: "ومنْ أفضلِ ما سُئِلَ اللَّهُ حُبُّهُ، وَحُبُّ مَنْ يُحِبُّهُ، وَحُبُّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إلى حُبِّهِ"، ومِنْ أَجْمَعِ ذلكَ أنْ يَقُولَ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فرَاغاً لي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ، اللَّهُمَّ حَبِّبْنِي إِلَيْكَ وَإِلَى مَلائِكَتِكَ وَأَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِبُّكَ وَيُحِبُّ مَلائِكَتَكَ وَأَنْبِيَاءَكَ وَرُسُلَكَ وَعِبَادَكَ الصَّالحِينَ، اللَّهُمَّ أَحْيِ قَلْبِي بِحُبِّكَ وَاجْعَلْنِي لَكَ كَمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أُحِبُّكَ بِقَلْبِي كُلِّهِ، وَأُرْضِيكَ بِجُهْدِي كُلِّهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبِّي كُلَّهُ لَكَ، وَسَعْيِي كُلَّهُ في مَرْضَاتِكَ" (روضة المحبين:417-418).
- التصنيف: