إبليس بين الماضي والحاضر

منذ 2014-06-04

تعهّد إبليس أن يستأصل ذرية آدم بالضلال، وطلب من الله أن يمهله ويؤخّره، فاستجاب الله لطلب إبليس، ابتلاءً واختباراً للعباد ولحكمٍ يريدها عزَّ وجلَّ، فكان إبليس أطول من في الأرض عمراً، فمكث فيها من أول البشر مع آدم وسيبقى إلى قيام الساعة لا يموت، حتى يأمر الله بالنفخ فيُصعق ويموت مع من بقي على الأرض..

عناصر الخطبة:
1- تكبر إبليس عن السجود لآدم عليه السلام، وقصته معه.
2- كيف وقع أول شِرك في الأرض، وكيف انتشر.
3- حال إبليس في مواسم الطاعات.
4- إبليس أصل الشرك والفساد في الأرض، وهو حريص على إضلال بني آدم.
5- مكائد الشيطان بالتشكيك والتخذيل عن الطاعات.
6- فتن الشيطان في القديم والحديث.
7- تلبيس إبليس على كافة الطوائف المنحرفة.
8- الواجب على أهل الحق والسنة.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الشيطان ابتلاءً للعباد، وأخبرنا بعداوته لنا وأمرنا بعداوته فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6]، وأوصى الأنبياء أولادهم بذلك فقال يعقوب لولده يوسف: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]، هذه العداوة التي بدأت منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وإبليس هو الشيطان، والشيطان كل عاتٍ متمردٍ من الإنس والجن، فأما الشيطان الأكبر وهو إبليس فإنه مشتقٌ من أبلس إذا أيأس لأن الله أيأسه من رحمته، وهذا الشيطان الأكبر، ورأس الأبالسة من الجن كما قال الله: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف من الآية:50].

تكبر إبليس عن السجود لآدم عليه السلام، وقصته معه..
وهؤلاء الجن قيل أنهم كانوا في الأرض قبل الإنس، وكانوا يفسدون فيها ويسفكون الدماء، ولذلك لما خلق الله آدم وأخبر الملائكة أنه سيجعله خليفةً في الأرض {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة من الآية:30]، وذلك لما رأوا من إفساد سكّان الأرض من قبل آدم، أو أنّ الله تعالى قد أطلعهم على ذلك، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: "أن بني الجان لما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنوداً من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور" (رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي)، ورجاله ثقات إلا أنه يحتمل أن يكون مأخوذاً عن أهل الكتاب (1).

فصار إبليس مع الجن فقيل: "إن الملائكة أسرته".
فلما صدر الأمر للملائكة وكان إبليس يسمع هذا الأمر بالسجود لآدم سجد الملائكة إلا إبليس فإنه تعالى وتأبّى، واستكبر وعصى، ولذلك أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن هذا الإباء والعناد بأنه كفرٌ، فقال إبليس متكبّراً: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء من الآية:61]، واستعمل القياس الباطل عند ما قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [لأعراف من الآية:12]، فأراد أن يتعالى بأصله، ومتى كان الأصل سبباً للاستعلاء؟ لا يرفع أحداً عند الله إلا عمله، وهكذا عصى وتكبر بينما الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وكان إبليس -لعنه الله-: «لما صوّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به فينظر، يطيف به ينظر ما هو ، فلما رآه أجوف -أي له جوف- عرف أنه خُلِقَ خلقاً لا يتمالك» (2) (رواه مسلمٌ رحمه الله)، قال أهل العلم: إن إبليس شغله التلبيس فأعرض عن الأمر بالسجود، وقال مفاضلاً بين الأصول: خلقتني من نارٍ وخلقته من طين، ثم اعترف ثم اعترض على الملك الحكيم فقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء من الآية:62]، {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف من الآية:12]، فامتنع وأهان نفسه وعرّضها للعنة والغضب والعقاب، واستكبر إبليس وناصب آدم العداوة، وكان سبباً في نزول آدم وزوجه من الجنة كما أخبر الله..

وكانت المؤامرة تدور على شجرة الخلد وملكٍ لا يبلى، لكي ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما، فغرّ إبليس آدم بالخلد وهو ليس بخالد، وفتنه بهذه الشجرة التي نهاه الله عنها، وجاءه من باب أن الممنوع وراءه سر، وأن السر هو الخلد، فلما وقع آدم عليه السلام فيما وقع فيه وتاب إلى الله بقي إبليس على تمرّده وعتوّه، وقال لربه: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً . قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً . وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً . إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [الإسراء:62-65].

وهكذا تعهّد أن يستأصل ذرية آدم بالضلال، وطلب من الله أن يمهله ويؤخّره، فاستجاب الله لطلب إبليس، ابتلاءً واختباراً للعباد ولحكمٍ يريدها عزَّ وجلَّ، فكان إبليس أطول من في الأرض عمراً، فمكث فيها من أول البشر مع آدم وسيبقى إلى قيام الساعة لا يموت، حتى يأمر الله بالنفخ فيُصعق ويموت مع من بقي على الأرض، والدليل على أن إبليس سيبقى تأخير الله له عند ما طلب من ربه فقال: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

كيف وقع أول شِرك في الأرض، وكيف انتشر؟
وهكذا يبقى طويلاً في العمر سيّئاً في العمل، مكث يتربّص ببني آدم حتى أغوى أحدهم بقتل أخيه، ولم يستطع أن يصل في البداية إلى إيقاع ذرية آدم في الشرك، فلبث يزيّن لهم المعاصي عشرة قرون حتى ظفر منهم بشركٍ عظيمٍ في قوم نوح، واستطاع أن يخدع أولئك القوم برجالٍ صالحين لما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يدعون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت" (3).

وحصل الشرك لأول مرة في الأرض بعد نزول آدم إليها، وقال ابن عباسٍ رضي الله عنه: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" (4)، واستمرّ إبليس في الإغواء بعد إهلاك قوم نوحٍ فاجتهد في عادٍ وثمود، وقال تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38]، وجعل يغري الكفار جيلاً بعد جيل، حتى صار الجيل الذي فيه محمدٌ صلى الله عليه وسلم وقامت الحرب بينه وبين الكفّار، كان الشيطان يؤز الكفار أزاً، {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [لأنفال:48].

وكانت قبيلة قريشٍ بمن معها تخشى من بني كنانة، فجاءهم إبليس على صورة سيد بني كِنانة، لكي يقول لهم: "إنا لن نغير عليكم"، وهكذا شجّعهم على قتال المشركين، فخرج المشركون إلى بدرٍ، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه، ولما رأى الملائكة عرف أنه لا تقوم للكفار قائمة، وقال حينئذٍ متبرئاً: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]، وهو كذّابٌ أشر لا يخاف الله، وقد غرّ قريشاً، فكان القتل فيهم فقتل من صناديدهم من قتل فقال حسان رضي الله عنه:
 

سرنا وساروا إلى بدرٍ لحينهمُ *** لو يعلمون يقينَ الأمر ما ساروا
دلاهمُ بغرورٍ ثم أسلمهمْ *** إن الخبيثَ لمن ولاّه غرّارُ


 

وجاء إبليس يوم بدرٍ في جندٍ من الشيطان معه رايته في جندٍ من بني مدلج، كما قال ابن عباس رضي الله عنه، فقال للمشركين: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ}، فلما اصطفّ الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجلٍ من المشركين ولى مدبراً، فقال الرجل: "يا سراقة، أي الذي تمثل به إبليس، أتزعم أنك لنا جار، فقال: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}".

حال إبليس في مواسم الطاعات:
وفي اجتماع المسلمين على العبادة والطاعة موسمٌ عظيمٌ لإذلال إبليس، ولذلك ما رؤي الشيطان في يومٍ هو أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وأيضاً فإن الشياطين تصفّد إذا دخل رمضان، ففي مواسم الطاعة والعبادة تكون الشياطين أغيظ ما تكون وأحقر ما تكون وأهون ما تكون وأضعف ما تكون، هذا الشيطان الذي يوسوس للإنسان بالكفر والشرك، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].

وقد قيل: "إنها نزلت في راهبٍ تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأةٍ فأجنّها: أي تلبسها وأصابها بالجنون، ولها إخوةٌ، فقال لإخوتها موسوساً لهم: عليكم بهذا القس يداويها، فجاؤوا بها إليه فداواها، وكانت عنده فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت فعمد إليها فقتلها بتسويل الشيطان، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك، فأطعني أنجك، فاسجد لي سجدةً، فلما سجد له قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قول الله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]، فتخلّى عنه إبليس فصلبه إخوة المرأة" (5).

إبليس أصل الشرك والفساد في الأرض، وهو حريص على إضلال بني آدم..
ولا زال يغوي العابدين ويوسوس إليهم ويثبّط الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ومن ذلك تلك القصة المروية أن شجرةً كانت تُعبد من دون الله، فأراد رجلٌ أن يقطعها تغييراً للمنكر، فقام غضباً لله تعالى فلقيه إبليس في صورة إنسان فقال: "ما تريد؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تُعبد من دون الله، قال: إذا أنت لم تعبدها فما ضرك من عبدها، قال: لأقطعنها، فقال له الشيطان: هل لك فيما هو خيرٌ من ذلك؟ لا تقطعها ولك ديناران كل يوم إذا أصبحت عند وسادتك، قال: فمن أين لي ذلك؟ قال: أنا لك، فرجع فلم يقطعها فأصبح فوجد دينارين عند وسادته وهكذا، قطع الشيطان الدينارين يوماً فغدا هذا الرجل ليقطع الشجرة فقال الشيطان: كذبت ما لك إلى ذلك سبيل، فلما أراد أن يقطعها ضرب به الأرض فخنقه، فقال: إنك جئت أول مرة غضباً لله فلم يكن لي عليك سبيل، فخدعتك بالدينارين فتركتها فلما جئت غضباً للدينارين سُلِّطْتُ عليك".

وقد كان إبليس لعنه الله يحاول إغواء الصالحين من هذه الأمة بكل سبيل، يأتيهم من بين أيديهم، يشكّكهم في آخرتهم ويأتيهم من خلفهم فيزيّن لهم دنياهم، ويأتيهم عن أيمانهم فيشبه عليهم أمر دينهم ويثبطهم عن الحسنات، ويأتيهم عن شمائلهم فيأمرهم بالسيئات ويحثهم عليها ويزينها في أعينهم، فهذا قول الله عن إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16-17].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال، فعصاه فجاهد» (6) (رواه الإمام أحمد)، وهو حديثٌ صحيح.

ومع ذلك فإن كيد الشيطان ضعيف لمن استعان عليه بالله، والشيطان لا يقدر على من استعاذ بالرب منه عزَّ وجلَّ، لأنه يكون قد أوى إلى ركنٍ شديد، وهذا الشيطان يعمل على أمر بني آدم بتغيير خلق الله {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} أي عن الحق {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} أي: بطول العمر كي لا يتوبوا {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} قطع آذان البحيرة الذي كان يفعله المشركون {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] أي عن الفطرة السوية، فيهوّدان الولد أو ينصّرانه أو يمجّسانه، وكذلك يأمرهم بالتلاعب بخلق الله كما في النمص وغيره من الأفعال المنكرة التي يفعلها الناس بأبدانهم وشعورهم كالوشم ونحو ذلك..

ويخوفهم، فقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، يعني يخوفكم بأوليائهم فيثبّطهم عن الحق وعن سبيله، اللهم إنا نسألك أن تعيذنا من كيد الشيطان الرجيم، اللهم إنا نسألك أن تقينا من وسوسته، ونسألك أن تعيذنا من نفخه ونفثه، إنك سميع الدعاء، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

لخطبة الثانية:
الحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم، رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرًا، فأدّى الرسالة وبلغ الأمانة فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

مكائد الشيطان بالتشكيك والتخذيل عن الطاعات..
عباد الله: لا زالت مكائد الشيطان في تخذيل الناس عن الطاعات وإلقاء الشبهات في نفوسهم حتى يشكّكهم بربهم عزَّ وجلَّ، فيأتي أحدهم فيقول: "من خلق كذا، من خلق كذا"، حتى يصل في الوسوسة إلى أن يقول: "من خلق الله"، فإذا بلغ ذلك أحد فليستعذ بالله ولينته {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]، {يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة:91]، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]،

قال عليه الصلاة والسلام: «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنة، فهو يدير أعوانه ويكون له مقر قيادة، وينصب عرشه على الماء ويبعث سراياه ثم يكافئ أصحاب الإنجازات، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويقول: نِعم أنت» (7).

فتن الشيطان في القديم والحديث..
عباد الله: يوقع إبليس الناس في الشرك، وفي البدعة، وفي الكبيرة، وفي الصغيرة، وفي الإشغال بالمفضول عن الفاضل، والإلهاء بالمباحات حتى إنه يُنسي الإنسان العبادات، وقد اجتهد إبليس في هذا الزمان اجتهاداً عظيماً، وخبرته في البشر في السابق يتضح منها تفننه في فتنة أهل هذا الزمان، وأساس هذه الفتن قديمٌ لكنه يتجدد ففتنة كشف العورات التي أرادها من الأبوين {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف من الآية:27]،، تحدث الآن عياناً بياناً، فتنشمر ثياب النساء وتصغر مساحات الأقمشة المستعملة فيها، ويزداد المكشوف من اللحم العاري، وهكذا في أنواع من الموضات المقرفة التي منها ظهور السرة وما تحتها واللباس الداخلي، فبأي عقلٍ وبأي ذوقٍ يحسن هذا؟ وهكذا لا يزال في إلباسهم أنواع الشذوذات من الملابس، ولباس الشهرة ولفت النظر، ويوقعهم في الحرام وأنواع الفواحش والمسكرات والمخدرات وأنواع السرقات والرشاوى وأكل المال بالباطل، ويتفنن في هذا.

ثم يؤلّب أعداءه لتخويف المسلمين بالإرهاب تارةً وبغيره أخرى، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران من الآية:175]، يعني يخوّفكم بأوليائهم فلا تخافوهم، ثم يوقد الفتن بين المسلمين في محاربة بعضهم بعضاً، وعداوة بعضهم لبعض كما قال عليه الصلاة والسلام في الشيطان الذي أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب أيام النبوة في آخر العهد النبوي قال: «ولكن في التحريش بينهم» (8)، فلا يزال يقوم بأنواع التحريش والتباغض الذي يلقيه في قلوب العباد..

ثم لما علم إبليس في هذا الزمان أن دين النبي صلى الله عليه وسلم قد حمله سلف هذه الأمة ونقله العدول عن بعضهم، حتى بلغ من بلغ من هذه الطائفة المنصورة والفرقة الناجية إلى قيام الساعة، عمد إبليس إلى تأليب أعوانه على أتباع السلف، فشنّوا الحملات على منهج السلف الصالح طعناً في الدين، وتفريقاً للناس عنه، وتشويهاً لمتّبعي السلف الصالح، ومعلومٌ أن ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو الذي ينجّي لا غير، وسنة الله في الصراع بين الحق والباطل تقتضي أن يتواجه اليوم أتباع السلف الصالح مع إبليس وجنده الذين حشدهم من تيارات الباطل المختلفة، سواءً كانت عصبيات جاهلية قبلية جنسية، وكذلك مذاهب إلحادية وطرق فكرية منحرفة، ومنها تقديم العقل على النص الشرعي، ففتنهم بزبالات الأذهان عن متابعة ما أنزل الرحمن.

تلبيس إبليس على كافة الطوائف المنحرفة..
وأوقع إبليس عدداً من الناس في الغلو فقاموا بتكفير المسلمين والاعتداء على الموحدين، وأوقع طائفةً أخرى في المقابل من أصحاب التقصير المفرّطين وظهرت الشهوات والانحرافات والمعاصي بأنواعها، وظهر أصحاب العلمنة والفكر الخبيث والذين يدّعون الحداثة أو تطوير الدين -بزعمهم- لتطيير الدين وإزالة حكمه عن الواقع، وسعى إبليس في إقامة سوق الاختلاط بين الجنسين وتزيينه حتى رأيت صوره منتشرةً واجتماعات القوم الخبيثة علناً، وهكذا يسعى في خلط هؤلاء بهؤلاء بأنه يعلم بأن اختلاط بين الجنسين هو سبيل الحرام والوقوع في الفاحشة والزنا، وأقام إبليس راياته في الجو، ففُتحت هذه القنوات التي تنشر الفحشاء وألب إبليس جنوده لكي يؤزّوا شياطين البشر على إغراق الشبكات بأنواع المحرمات، ففتن الأزواج والزوجات والإخوة والأخوات، والأبناء والبنات، فانتشرت الموبقات وعمت المحرمات.

ثم سعى إبليس في نشر الطرق البدعية من الصوفية وغيرها، وأنواع الشرك وأنواع البدعة التي صار لها اليوم قنواتٌ فضائية تعتني بها وتنشرها ليلاً ونهارًا، ثم قامت اجتماعات القوم التي فيها سهرٌ بالليل والنهار على حرب الدين في نوباتٍ متعاقبةٍ لا تخلو منها الأربع والعشرين ساعة في اليوم والليلة، كما قال الله: {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سـبأ من الآية:33] نوبات، أربعاً وعشرين ساعة، في عملٍ متواصلٍ دؤوب لهدم الدين، يخطّطون بالليل وينّفذون بالنهار، يجاهرون بأفكارهم، ويشنون الحملات على الشريعة، وعلى الحدود الشرعية، وعلى القضاء الشرعي، وعلى الإفتاء الشرعي، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر إبليس أنواعاً من المهرجانات التي فيها الإلحاد والانحلال وكل ما يخالف الشرع في قفزاتٍ إفسادية..

وتولّى كبرى المؤامرة حول حرِّيَّة المرأة والحرية عموماً، لأن الحرِّيَّة عند القوم هي الانعتاق والخروج والتخلص من ربقة الدين وأحكامه، لأنهم يرونها قيوداً وأنه لا يمكن أن يهنؤوا بعيش حتى يتخلصوا من هذه القيود، وسعى إبليس وأعوانه إلى رمي أصحاب التدين بالجمود والتشدّد والتحجر، وسخّر الأقلام للسخرية منهم فهو يوحي إلى أوليائه بأن يكتبوا المقالات وأن يدبجوا أنواعاً من هذه الكلمات، كي يطعنوا في عباد الله ويسخروا منهم، وهكذا تعاضدت وثنيات الشرق مع إلحاديات الغرب مع التيّار العصراني المنحرف الذي يقدم العقل مع تيارات البدعة، لكي تحارب أتباع السلف الصالح، وتتّهمهم بأنواع التهم الباطلة إقصاءً لهذا المنهج الذي يتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

الواجب على أهل الحق والسنة..
ومن هنا كان لا بد لأهل الإسلام وأهل الحق والتوحيد وأتباع طريق السلف الصالح وورّاث طريقة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من القيام لله بالحجة، وإيضاح الحق، ورفض الغربة التي يريد إبليس وأعوانه أن يطوّقوهم بها، لأن الحق إذا خفي انتشر الباطل، فإذا لم يعرف الناس الحق فإلى أين يتوجهون، وإذا خفتت رايات الحق فماذا سيرى الناس وإلى أين سيتجهون؟ فكان لا بد لأعوان الحق من الجهر به والدعوة إليه والصدّ والردّ والذبّ عن حياضه، صدّ الأعداء وذبّ هؤلاء الذين يريدون الاعتداء.

وكذلك فينبغي أن تنطلق ألسنتنا بذكر الله، لأنه لا أضر على إبليس من ذكر الله، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الصحابي أنه لن يقرأ أبلغ من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، كما جاء في الحديث الصحيح، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ . وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ . وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ . وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1-5]، والعبد يحرز نفسه من الشيطان بذكر الله، والأحراز من الشيطان في الصباح وفي المساء التهليلات وأذكار الصلوات، وكذلك إذا آوى إلى فراشه يقرأ آية الكرسي، وعند دخول البيت والخروج منه يذكر ربه، فيقول الشيطان لأعوانه: "لا مبيت لكم ولا عشاء" وهكذا..

إذا ذكره عند الخروج قال الشيطان متنحياً للشيطان الآخر الذي يسأله عن السبب يقول: «كيف لك برجلٍ قد هُدي وكُفي ووُقي» (9)؟ وذكر الله في جميع الأحوال حتى عند الجماع وعند الشهوة، وكذلك في رأس الذكر وقراءة القرآن، فتأمل كيف يدور العبد على ذكر الربّ في جميع الأحوال، والبقرة إذا قُرئت نفر الشيطان من البيت، والآذان إذا رُفع ولّى الشيطان وله ضراطٌ (10) حتى لا يسمع صوت التأذين كما ورد في الحديث الصحيح، وآخر آيتين من البقرة تقيان من شرّه ومن السوء عموماً (11).

والاستعاذة بالله منه عند التلاوة، وعند الغضب، وعند الوسوسة، وعند دخول المسجد، وعند الأحلام المفزعة، وعند الأصوات التي يحبّها إبليس مثل نباح الكلب، ونهيق الحمار، وعند دخول الخلاء، وهو الذي تجتمع فيه الشياطين وعند نزول المنزل، كل ذلك من أنواع الوقاية، والإخلاص والفلق والناس تكفي من كل شيء، وإخراج التصاوير من ذوات الأرواح والتصاليب والكلاب من البيوت هو نوعٌ من محاربة الشيطان، ورقية الأولاد وتعويذ الأطفال وتحصينهم بذكر اسم الله تعالى وهذه المعوذات مما يقيهم من شر إبليس.

اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بحفظك يا رب العالمين، فإنك أنت خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم إنا نسألك البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، آمنّا في أوطاننا، اللهم أصلح أئمتّنا وولاة أمورنا، اللهم واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه الحاكم في المستدرك (2/287)، برقم (3035)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2) رواه الإمام مسلم في صحيحه برقم (2611) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري برقم (4636).
(4) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى عن عكرمة (1/42).

(5) رواه الحاكم في المستدرك برقم (3801) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان راهب يتعبد في صومعة وامرأة زينت له نفسها فوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال: "اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها فدفنها فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له فأنزل الله عز و جل: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} [الحشر:16] وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الشعب (4/373)، برقم (5450).

(6) رواه الإمام النسائي برقم (3134)، وأحمد في المسند برقم (15958)، من حديث سبرة بن أبي فاكه، وقال محققوه: إسناده قوي، وصححه ابن حبان في صحيحه(4593)، وقال الألباني: وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر كما في السلسلة الصحيحة برقم (2979)، وصححه في صحيح الجامع برقم (1652).
(7) رواه مسلم برقم (2813)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(8) رواه مسلم برقم (2812)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(9) رواه أبو داود برقم (5095)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (499).

(10) رواه البخاري برقم (583)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم برقم (389).
(11) رواه البخاري برقم (4722)، من حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر البقرة في ليلة كفتاه»، ومسلم برقم (807).

المصدر: موقع إمام المسجد

محمد صالح المنجد

أحد طلبة العلم والدعاة المتميزين بالسعودية. وهو من تلاميذ العالم الإمام عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه.

  • 13
  • 2
  • 58,406

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً