الحقيقة - (7) تقديم حُبّ الله

منذ 2014-06-11

لمَّا بلغت الدعوة في مكة نهايتها واستنفذت مقاصدها، أذِن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة وللمسلمين معه فما تلكئوا ولا تردَّدوا بل خرجوا يبتغون فضلًا من الله ورضوان..

حقيقة الكلمة إيثار رضا الله:

على رضا أي أحد وإن عظمت المِحن وثقلت المؤن وضعف الطول والبدن.

تقديم حُبّ الله على حُبِّ كل أحد إن كان أبًا أو أخًا أو زوجًا أو ابنًا، أو غيره مالًا سكنًا. نعم: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].

لما بلغت الدعوة في مكة نهايتها واستنفذت مقاصدها، أذِن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة وللمسلمين معه فما تلكئوا ولا تردَّدوا بل خرجوا يبتغون فضلًا من الله ورضوان.

تركوا الأهل والوطن تركوا المال والولد ولم يبقَ منهم إلا مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف.

وقد كانت الهجرة عظيمة شاقة صعبة على المسلمين الذين وُلِدوا في مكة ونشئوا بها.

ومع هذا هاجروا منها استجابة لأمر الله تعالى ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ولسان حالهم:

مرحبًا بالخطب يبلوني إذا *** كانت العلياء فيه السبب

ثم مرِضوا في المدينة، أصابتهم الحُمَّى فأباحوا بأشعارٍ وأقوالٍ خلال المرض تدل على صعوبة ما لاقوه وعانوه على نفوسهم.

فها هي عائشة تأتي إلى أبيها رضي الله عنهما وقد أُصيب بالحمى يرعد كما ترعد السّعفة في مهبِّ الريح، فتقول له: "كيف تجدك يا أبي؟

فيقول:
كل امرئٍ مُصبِحٌ في أهله *** والموت أدنى من شِراك نعله

فتقول عائشة: والله ما يدري أبي ما يقول".

وبلال رضي الله عنه محموم فيسائل نفسه، هل سيرى سوق مجنة ومجاز وجبال مكة كشامة وطفيل ونباتها كالإذخر والجليل ثم يرفع عقيرته فيقول:

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة *** بواد وحول إذخر وجليل
وهل أَرِدنَ يومًا مياه مجنة *** وهل يبدوا لي شامة وطفيل

ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه أمضه ذلك وآلمه إذ كان يَعِزُّ عليه معاناتهم فدعا ربه «اللهم حبِّب إلينا المدينة كحُبنا مكة أو أشد، وبارك لنا في مُدِّها وصاعها وأنقل حُمَّاها إلى مهيعة أو إلى الجحفة». فكانت بعدها من أحب البلدان إلى أصحابه حالهم:

اختر لنفسك منزلًا تعلو به *** أو مُتْ كريمًا تحت ظل القسطل
واترك محل السوء لا تنزِل به** وإذا نبا بك منزل فتحوَّل

أخيرًا هذه مشاعر مسلم حول الهجرة هو: أبو أحمد ابن جحش رضي الله عنه وأرضاه يُصوِّرها مع زوجته في أسلوبٍ عظيم يُبيِّن فيه أنه يطلب ويرغب ما عند الله في هجرته ولو كان ذلك في شدة مشقة وتعب ونصب وكد، راجيًا أن لا يُخيبه الله كما يُروى، فيقول:

ولما رأتني أم أحمد غاديًا *** بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول فإمِّا كنت لا بُدّ فاعل *** فيمِّم بِنا البلدان ولتنأ يثرب

فقلت بل يثرب اليوم وجهنا *** وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهي يا عذولي ومن يقم *** إلى الله يومًا وجهه لا يخيب

فكم قد تركنا من حميم وناصح *** ونائحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن موتًا نأينا عن بلادنا *** ونحن نرى أن الرغائب نطلب

في هذا ما يُصوِّر قساوة الخروج من أرضهم لكنه خروج في سبيل ربهم فماذا يضرهم والله مولاهم.

حنُّوا إلى أوطانهم واشتاقوا إلى خيام اللؤلؤ في جنة مولاهم فغلبوا الأعلى على الأدنى والأنفس على الأرخص والأسمى على الأخس:

شتان بين امرئٍ في نفسه حرمٌ قُدسٌ *** وبين امرئٍ في قلبه صنم
خذني إلى بيتي، أرح خدي على *** عتباته وأُقبِّل مقبض بابه
خذني إلى وطن أموت مشرَّدًا *** إن لم اكحل ناظري بترابه

إنها الجنة والذي نفسي بيده لو كنت أقطعَ اليدين والرجلين مُذْ خلق الله الخلق تسحب على وجهك إلى يوم القيامة، ثم كان مأواك الجنة ما رأيت بؤسًا قط.

فاسمع وعي، لا تؤثِر الأدنى على الأعلى فتُحرَم ذا وذا، يا ذِلَّة الحرمان.

ألا رُبّ مُبيض ثيابه اليوم مُدنِّس لدينه، ألا رُبّ مُكرِم لنفسه اليوم مُهين لها غدًا، ادفع سيئات الأمس بحسنات اليوم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود من الآية:114].

علي بن عبد الخالق القرني

داعية معروف بفصاحته .. وهو من أرض الحجاز

  • 5
  • 0
  • 3,839
المقال السابق
(6) نُصرة المظلومين
المقال التالي
(8) لا تنظر إلى صِغر الخطيئة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً