مسائل في الدعاء القرآني - (11) مسائل الرسل عليهم السلام

منذ 2014-06-12

من نظر في دعاء الرسل عليهم السلام ربهم سبحانه وتعالى يجد أن مسائلهم متنوعة، ومنها ما هو طلب خاص بالداعي، ومنها ما هو لقومه أو أمته أو لعموم الناس، ومنها ما يتعلق بأمور الدنيا، ومنها ما يتعلق بأمور الدين أو الآخرة، وهي أكثر دعواتهم عليهم السلام.

من نظر في دعاء الرسل عليهم السلام ربهم سبحانه وتعالى يجد أن مسائلهم متنوعة، ومنها ما هو طلب خاص بالداعي، ومنها ما هو لقومه أو أمته أو لعموم الناس، ومنها ما يتعلق بأمور الدنيا، ومنها ما يتعلق بأمور الدين أو الآخرة، وهي أكثر دعواتهم عليهم السلام.

وهذا تفصيل دعواتهم عليهم السلام:
1- الدعاء بأمن المسجد الحرام ورزقه، وهي دعوات الخليل عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:126]. وقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم:35]، وقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، فإن دعوته عليه السلام بأمن الحرم ورزق أهله سبب لورود الناس عليه، وتعبدهم فيه.

ويستفاد من هذه الدعوة المباركة أن الرزق والأمن من ضرورات العيش، ولا عيش هنيئًا بدونهما، وأن للإنسان أن يسأل الله تعالى دوام الأمن والرزق وزيادتهما؛ لأنه بهما يتمكن من إقامة دين الله تعالى والدعوة إليه.

2- طلب المعجزات، كطلب إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة من الآية:260]، وموسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، وعيسى: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة:114]، وهي دعوات لتثبيت القلب وطمأنينته، وتقوية الإيمان وزيادته، كما في دعوتي الخليل والكليم عليهما السلام، أو لهداية الناس ودعوتهم كما في دعوة عيسى عليه السلام، وهي خاصة بهم.

3- طلب الذرية كما في دعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، ودعوة زكريا عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]، ويلاحظ في هاتين الدعوتين تقييد طلب الولد بأن يكون صالحًا، وهو ما عبر عنه الخليل بقوله {هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} وفي طلب زكريا أن تكون الذرية طيبة، فينبغي أن يقيد سؤال الولد بكونه صالحا؛ لأن فساده يشقي أبويه، وقد يضرهما في دينهما فيجرهما إلى فساده، والخضر رحمه الله تعالى قتل الغلام وعلل ذلك بقوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80].

4- طلب آية على تحقق الدعوة كدعوة زكريا عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10]، أراد نصب علامة على وقوع الحمل بالغلام؛ لأن البشارة لم تعين زمنا، وقد يتأخر الموعود به لحكمة، فأراد زكريا أن يعلم وقت الموعود به، وفي هذا الاستعجال تعريض بطلب المبادرة به.. ومعنى {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} أن لا تقدر على الكلام؛ لأن ذلك هو المناسب لكونه آية من قبل الله تعالى. وليس المراد نهيه عن كلام الناس، إذ لا مناسبة في ذلك للكون آية (التحرير والتنوير:16/73).

5- طلب المغفرة والرحمة، كدعوة آدم وحواء عليهما السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] وقول نوح عليه السلام: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]، ودعوة موسى عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151]، ودعوة موسى أيضًا، {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16].

6- طلب النجاة من العذاب، كدعوة موسى عليه السلام: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155].

ومنه أيضًا دعوة لوط عليه السلام: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169]، أي: من عذاب ما يعملونه، فلا بد من تقدير مضاف كما دل عليه قوله: فنجيناه، ولا يحسن جعل المعنى: نجني من أن أعمل عملهم؛ لأنه يفوت معه التعريض بعذاب سيحل بهم (التحرير والتنوير:19/181).

7- الدعاء للذرية كدعوة نوح عليه السلام لابنه الكافر الغريق {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:45-46]، فلم يُقرَّ نوح على هذه الدعوة؛ لكفر ولده فتاب نوح عليه السلام منها.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: "في هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم وإن كانوا صالحين"، وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه، قال: "فعلم مالك أنه قد فهمه الناس، فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات" (تفسير القرطبي 9/ 47).
لكن يستفاد منها الدعاء للذرية المؤمنة بالمغفرة والنجاة، والدعاء للذرية الكافرة بالهداية.
ويستفاد منها الإعراض عن الأدعية التي فيها اعتداء وسوء أدب مع الله تعالى.
ومن هذا أيضًا دعاء الخليل عليه السلام لذريته باجتناب الأصنام، وإقامة الصلاة، ونيل الإمامة في الدين.

8- التعوذ من الجهل في المسألة كدعوة نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47].

9- سؤال الابتلاء في الدنيا على الفتنة في الدين، كدعوة يوسف عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]، والأصل أن المؤمن يسأل الله تعالى العافية، ولا يتعرض للبلاء أو الفتنة، ولكن إذا كان الأمر بين أن يفتن في دينه وينتقص منه فلا مناص حينئذ من تحمل البلاء في النفس أو المال لحفظ الدين، كما فعل يوسف عليه السلام، قال القرطبي رحمه الله تعالى: "أي: دخول السجن أسهل علي وأهون من الوقوع في المعصية، لا أن دخول السجن مما يحب على التحقيق (تفسير القرطبي:9/184).

10- سؤال العصمة سواء كانت من الشرك كدعوة الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:35-36]، أو من المعصية كدعوة يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، أي: إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وذلك أن يوسف، عليه السلام، عصمه الله عصمة عظيمة، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال: أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته، وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال، والرياسة ويمتنع من ذلك، ويختار السجن على ذلك، خوفا من الله ورجاء ثوابه، (4/386-387).

11- سؤال الموافاة على الإسلام والدخول في الصالحين كدعوة يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].

12- سؤال إقام الصلاة كدعوة الخليل عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]، وهذا يدل على أهمية الصلاة عند الله تعالى وفي شرائع رسله عليهم السلام.

13- سؤال قبول العمل الصالح، ومنه دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].

14- سؤال قبول الدعاء كدعوة الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم من الآية:40]، وهذا الدعاء ينبغي أن يتخلل الدعاء كما فعل الخليل عليه السلام، وأن لا يغفل عنه الداعي، وقبول الدعاء يشمل أمرين:
أولهما: وهو الأهم ويغفل عنه كثير من الناس، كون الدعاء عبادة يؤجر عليها العبد، فهو محتاج إلى قبولها كسائر عمله الصالح.

وثانيهما: استجابة الدعاء، وتحقق المطلوب.
والأول أكثر حظًا للمؤمن وأدوم من الثاني في الغالب.

15- سؤال تحصيل آلات القيام بالبلاغ والدعوة، كدعوة الكليم عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي . وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:25-32].

فهذه الدعوات من موسى عليه السلام متعلقة بقيامه بالدعوة، فسأل شرح صدره ليتحمل عنت فرعون وصدوده واستكباره، وسأل تيسير أمره في هذه المهمة العظيمة، وأن يحل الله تعالى عقدة لسانه ليبين لفرعون وقومه حقيقة دعوته، وشفع لأخيه هارون أن يكون معينًا له على أداء هذه المهمة العظيمة، وأن يشدَّ الله تعالى به أزره، ولا مانع من الدعاء بما يصلح منها لكل أحد كطلب شرح الصدر وتيسير الأمر.

16- طلب النجاة من الظالمين والنصر عليهم، ومنه دعوة نوح عليه السلام: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ . وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:76-77]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:75-76]، وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون:26]، وقال لوط عليه السلام: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30].

وقال شعيب عليه السلام: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89]، وقال موسى عليه السلام: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21]، وفي مقام آخر: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25]، أي: فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا وتحكم عليهم بما هم أهله وهو في معنى الدعاء عليهم، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله: ونجنى من القوم الظالمين (تفسير النسفي:1/440).

17- طلب الخير، ومنه الرزق والمأوى، كدعوة موسى في هجرته لما آوى إلى الظل، وليس له أحد إلا الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]. أي: إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي، وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال، فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا (تفسير السعدي:614).

18- طلب الشفاء من المرض، ومنه دعوة أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83-84]، وفيه دليل على مشروعية الدعاء بالشفاء من الأمراض، وطلب العلاج؛ لأن الدعاء علاج، بل هو أنفع العلاج، وأن ذلك لا يقدح في التوكل.

19- طلب النجاة من الكرب، كدعاء يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، والكروب التي تنزل بالناس متنوعة، وقد يكون كربا على أفراد، وقد يصيب جماعة، فشرع إظهار عبودية الدعاء لكشفه، وقد جاء في الحديث أن هذا دعاء الكرب.

20- سؤال العلم والفهم، وبقاء الأثر والذكر، ودخول الجنة، والدعاء للأب بالمغفرة، وسؤال النجاة من خزي القيامة كدعوة الخليل عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ . وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ . وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ . وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ . وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:83-87]، فسأل الخليل عليه السلام ربه العلم بالشريعة ليعلم الناس ويحكم بينهم بها، وسأل لسان الثناء عليه بعد موته، وسأل الجنة، والمغفرة لوالده قبل أن يتبين أنه لا يهتدي، والنجاة من خزي يوم القيامة.

21- سؤال القدرة على الشكر والعمل الصالح، والانتظام في سلك الصالحين، ومنه دعوة سليمان عليه السلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، أي: ألهمني ووفقني لشكر نعمتك، وملازمة ذلك على الدوام.

وهذا يدل على أن شكر الله تعالى على نعمه، وملازمة العمل الصالح لا يقدر عليها العبد إلا بعون الله تعالى وتوفيقه، وهذا موافق لقول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5-6]، كما يدل على أن الصالحين ينبغي أن يكثروا من هذا الدعاء، ولا يغتر عبد بصلاحه فيترك الدعاء بالإعانة على ما هو فيه والزيادة منه، كيف؛ وقد دعا بذلك النبي الصالح سليمان عليه السلام؟!

22- سؤال ملك ليس لأحد، وهي دعوة خاصة بسليمان عليه السلام فقال في دعوته: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص من الآية:35]. فاستجيب له.

23- الدعوة بهلاك الكفار كلهم: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، وكذلك قوله عليه السلام: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح من الآية:28] -أي: هلاكًا- وهذه الدعوة استدل بها من أجاز الدعاء على الكفار بالهلاك العام باعتبار الأمر بالاقتداء بالرسل، وأن الله تعالى أقر نوحًا على دعوته واستجاب له فأغرق الأرض ومن عليها، وأنه لا يقضى على الأمر الشرعي -الذي هو الدعاء على الكفار بالهلاك العام- بالأمر الكوني الذي هو بقاء الكفار إلى آخر الزمان.

ومن العلماء من جعلها خاصة بنوح عليه السلام؛ لأن الله تعالى قد أعلمه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وجعل الدعاء بها تعديا في الدعاء؛ لأن الله تعالى قد قضى ببقاء الكفار إلى آخر الزمان، وأن الدعاء بشيء قد علم عدم وقوعه يعد تعديا في الدعاء.

ومن العلماء من يرى أن نوحًا اجتهد في دعوته تلك، ولم تكن عن أمر الله تعالى، ولو استجاب له؛ ولذلك يعتذر عن الشفاعة يوم القيامة بقوله عليه السلام: "قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي" (رواه البخاري:2712)، وفي رواية لأحمد: "إِنِّي دَعَوْتُ بِدَعْوَةٍ أَغْرَقَتْ أَهْلَ الْأَرْضِ" (2546)، وفي رواية للترمذي: "إِنِّي دَعَوْتُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ دَعْوَةً فَأُهْلِكُوا" (3148).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ودعاء نوح على أهل الأرض بالهلاك كان بعد أن أعلمه الله أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ومع هذا فقد ثبت في حديث الشفاعة في الصحيح أنه يقول: «إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها» فإنه وإن لم ينه عنها فلم يؤمر بها، فكان الأولى أن لا يدعو إلا بدعاء مأمور به واجب أو مستحب فإن الدعاء من العبادات فلا يعبد الله إلا بمأمور به واجب أو مستحب وهذا لو كان مأمورًا به لكان شرعا لنوح ثم ننظر في شرعنا هل نسخه أم لا؟" [مجموع الفتاوى:8/336].

وهذه المسألة من عويصات المسائل، والكلام فيها يطول، وحجج كل فريق فيها قوية، والأحوط للداعي أن لا يدعو على الكفار بالهلاك العام.

24- الدعاء على الكفار بزيادة الضلال، والشد على قلوبهم، كدعوة نوح عليه السلام: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} [نوح من الآية:24]، ودعوة موسى عليه السلام: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس من الآية:88]، وقد بينا في مقالة سابقة أنه لا يدعى بهاتين الدعوتين؛ لأن من لوازمهما الدعاء ببقاء الكفر أو المعصية، والمؤمن مأمور بإزالتهما بالدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، وأن دعاء نوح وموسى عليهما السلام كان بعد علمهما أن المدعي عليهم لن يؤمنوا.

25- الدعاء للنفس والوالدين وجماعة المؤمنين، ومنه دعوة نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح من الآية:28]، ودعوة الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]، والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات فيه حديث يدل على فضله العظيم ذكرناه سابقًا.

لكن هنا مسألة تشبه مسألة الدعاء على الكفار بالهلاك العام، وهي أن يقول الداعي: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات جميع ذنوبهم، وهذا لن يقع قدرًا؛ لأن من المؤمنين من يعذبون ببعض ذنوبهم كما دلت على ذلك الأحاديث؛ ولذا منع من هذه الصيغة قوم بهذا الاعتبار، وهي تختلف عن: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ إذ قد يغفر لهم بعض ذنوبهم ويؤخذون ببعضها.

وضرب القرافي رحمه الله تعالى أمثلة على المحرم من الأدعية فقال: "الأول: أن يقول اللهم اغفر للمسلمين جميع ذنوبهم، وقد دلت الأحاديث الصحيحة أنه لا بد من دخول طائفة من المسلمين النار وخروجهم منها بشفاعة وبغير شفاعة، ودخولهم النار إنما هو بذنوبهم فلو غفر للمسلمين كلهم ذنوبهم كلها لم يدخل أحد النار، فيكون هذا الدعاء مستلزمًا لتكذيب تلك الأحاديث الصحيحة فيكون معصية" (الفروق:4/281-282).

فتعقبه ابن الشاط قائلاً: "لقد كلف هذا الإنسان نفسه شططًا، وادعى دواعي لا دليل عليها، ولا حاجة إليها وهما منه وغلطًا، وما المانع من أن يكلف الله تعالى خلقه أن يطلبوا منه المغفرة لذنوب كل واحد من المؤمنين مع أنه قد قضى بأن منهم من لا يغفر له، ومن أين تلزم المنافاة بين طلب المغفرة ووجوب نقيضها؟ هذا أمر لا أعرف له وجها إلا مجرد التحكم بمحض التوهم" (إدرار الشروق. بحاشية الفروق:4/283).

26- سؤال الديمومة على الإسلام للنفس والذرية، وسؤال التوبة ومعرفة المناسك كدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128].

27- سؤال بعثة نبي في مكة يهدي الله تعالى به أهلها: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129].

وهذه الدعوة قد مضت فلا يدعى بها، وقد استجاب الله تعالى للخليل ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام الذي قال: «إِنِّي عَبْدُ اللهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بي...» (رواه أحمد:17150).

28- إعلان التوكل والإنابة، وسؤال المغفرة والعصمة من الفتنة: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:4-5]، أي: لا تسلطهم علينا بذنوبنا، فيفتنونا، ويمنعونا مما يقدرون عليه من أمور الإيمان، ويفتنون أيضًا بأنفسهم، فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة، ظنوا أنهم على الحق وأنا على الباطل، فازدادوا كفرًا وطغيانًا [تفسير السعدي:856].

فسؤال العصمة من الفتنة في الدين من أهم المسائل التي ينبغي للمؤمن أن يعتني بها، ولا سيما حين تكثر الفتن، فقد يفتن في دينه فيفتتن ولا يصبر، والسلامة في العافية.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.

وبهذا العرض التفصيلي لدعوات الأنبياء في القرآن تبين أن أكثر دعواتهم متعلق بالآخرة وما يوصل إليها، وما يتعلق بالدنيا منها فهو للاستعانة به على عمل الآخرة، وتبين أيضًا حرصهم الشديد على هداية الخلق للحق، وذلك بسؤال الله تعالى الهداية لهم، فجزاهم عن عباده المؤمنين خير الجزاء، وجمعنا بهم في دار كرامته.

  • 3
  • 0
  • 18,569
المقال السابق
(10) دعوات الرسل عليهم السلام
المقال التالي
(12) تفصيل الدعاء أو تعليله

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً