الرفقة الصالحة

منذ 2014-06-21

إنَّ الإنسان جُبِل على حبِّ مُخالطة الآخرين، وأن يتخذَ له جليسًا يعينه على مصالحه في دنياه وأخراه، والناس متفاوتون في دينهم وأخلاقهم، فمنهم الخيِّر الفاضل الذي يُنتفع بصُحبته وصداقته، ومنهم السيئ الذي يُتضرَّر بصداقته ومعاشرته.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

وبعدُ:

فإنَّ الإنسان جُبِل على حبِّ مُخالطة الآخرين، وأن يتخذَ له جليسًا يعينه على مصالحه في دنياه وأخراه، والناس متفاوتون في دينهم وأخلاقهم، فمنهم الخيِّر الفاضل الذي يُنتفع بصُحبته وصداقته، ومنهم السيئ الذي يُتضرَّر بصداقته ومعاشرته.

ومصاحبة الصالحين خيرٌ وبركة في الدُّنيا والآخرة؛ قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].

ومصاحبة جُلَساء السوء حسْرةٌ وندامة يوم القيامة؛ قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا . يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27-29].

روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثَلُ الجليس الصالح والسوء، كحامِل المسك ونافخ الكير؛ فحامِلُ المسك إمَّا أن يُحذِيك، وإمَّا أن تبتاعَ منه، وإما أن تجدَ منه ريحًا طيبة، ونافخُ الكير إمَّا أن يحرق ثيابك، وإمَّا أنْ تجد ريحًا خبيثة» (ص 1091، برقم 5534)، وصحيح مسلم ص (1055، برقم 2628)).

وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل على دِين خليله، فلينظرْ أحدُكم مَن يُخالِل» (ص 390، برقم 2378، وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1/633)، برقم 927)).

قوله: «على دين خليله»: أي: على عادة صاحبه وطريقته وسِيرته.

«فلينظر»: أي يتأمل ويتدبَّر مَن يُخالل، فمَن رضي دينه وخُلقه، خالَلَـه، ومن لا، تجنَّبه، فإن الطباع سراقة (عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/123)).

قال الشاعر:

 

عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ *** فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ يَقْتَدِي


والإنسان مجبول على التأثُّر بصاحبه وجليسه، والأرواح جنودٌ مجندة؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مُجَنَّدَة، فما تعارَف منها ائتلف، وما تناكَرَ منها اختلف» ((ص 636، برقم 3336) تعليقًا، وصحيح مسلم ص (1057، برقم 2638) عن أبي هريرة).

وتآلُفُها هو ما خلقها الله عليه من السعادة أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمَيْن متقابلين، فإذا تلاقت الأجسادُ في الدنيا ائتلفتْ واختلفتْ بحسب ما خُلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار (عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/124)).

- ومن ثمرات مجالسة الصالحين:

أولاً: الإعانة على الطاعات، والبُعد عن المعاصي والذُّنوب؛ قال تعالى: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3].

ثانيًا: المسارعة إلى الخَيْرات، والتنافُس في الطاعات؛ قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].

وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]، وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

ثالثًا: بركة المجالَسة، فإن من جالَسَهم تشمله بركةُ مُجالستهم، ويعمُّه الخيرُ الحاصل لهم، وإن لم يكن عمله بالغًا مبلغَهم؛ كما دلَّ على ذلك ما أخرجه الشيخان مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لله ملائكةً يطوفون في الطرُق، يلتمسون أهل الذِّكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله، تنادوا: هلمّوا إلى حاجتكم»، وفي آخر الحديث: «فيقول الله: فأشهدكم أني قد غفرتُ لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجُلساء لا يشقى بهم جليسُهم» ((ص 1230، برقم 6408)، وصحيح مسلم ص (1230، برقم 2689)).

يقول عمر: "لولا ثلاثٌ ما أحببتُ العيش في هذه الحياة الدنيا: ظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات من الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايبَ الكلام، كما يُنتقَى أطايب الثمر".

وكم من شخص اهتدى، وأصبح منَ المحافظين على الصلاة، وترك مُجالسة أهل السُّوء، وتوجَّه إلى الدعوة، كلُّ ذلك بفضْل الله، ثُمَّ الرفقة الصالحة!

روى الترمذي في سننه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصاحبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلا تقيٌّ» ((ص 392-393، برقم 2395)).

قال الخطابي: "إنما جاء هذا في طعام الدعوة، دون طعام الحاجة؛ وذلك أنَّ الله سبحانه قال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، ومعلوم أن أسراهم كانوا كفارًا غير مؤمنين ولا أتقياء، وإنما حذَّر صلى الله عليه وسلم من صُحبة من ليس بتقي، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته؛ فإن المطاعمة توقع الألفةَ والمودة في القلوب" (عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/123)).

- ومنَ الآثار المتَرَتِّبة على مُجالسة أهل السُّوء -وهي كثيرة-:

أولاً: أنه يصرف صاحبَه وجليسه من الطاعة إلى المعصية، ويزيِّن له عمل السوء؛ روى البخاري ومسلم من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: لما حضرتْ أبا طالب الوفاةُ، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله»، فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبدالمطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويُعيد له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلَّمهم: هو على ملة عبدالمطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمَا والله لأستغفرنَّ لك، ما لم أُنْهَ عنك»، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]، وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] (صحيح البخاري (3/62، 63)، برقم (3884)، وصحيح مسلم (1/54)، برقم (24)، واللفظ له).

ثانيًا: أنَّ غالب مجالس أهل الفسق لا يُذكَر اللهُ تعالى فيها؛ بل يُعصى جل وعلا فتكون حسرةً وندامة على أصحابها يوم القيامة؛ روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلُّوا على نبيِّهم، إلا كان عليهم ترة -أي: حسرة وندامة- فإن شاء عذَّبهم، وإن شاء غفر لهم» ((ص 535، برقم 3380)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح).

قال الشافعي:

 

إِذَا لَمْ أَجِدْ خِلاًّ تَقِيًّا فَوَحْدَتِي *** أَلَذُّ وَأَشْهَى مِنْ غَوِيٍّ أُعَاشِرُهْ
وَأَجْلِسُ وَحْدِي لِلْعِبَادَةِ آمِنًا *** أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنْ جَلِيسٍ أُحَاذِرُهْ


ثالثًا: أن الجليس السوء يدْعو جليسَه إلى مُماثلته في الوُقوع في المحرَّمات، ويخفِّف وقْع المعصية في قلبه، ويهوِّن عليه التقصير في الطاعة، قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: "ودَّت الزانية لو زنى النساء كلُّهن".

وجليس السوء ينصرف عن صاحبه عند أدنى خلاف أو فوات مصلحة؛ بل وتحصل البغْضاء بعد ذلك، قال عبدالله بن المعتز: "إخوان السُّوء ينصرفون عند النَّكْبة، ويُقبِلون مع النِّعمة".

لذا أنصح إخواني بإلحاق أبنائهم بحلقات تحفيظ القرآن الكريم؛ فهي رفْقة صالحة، وعندهم برامج مفيدة، يقْضي فيها الشابُّ وقته، وتُبعده عن جُلساء السوء.

والحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمين بن عبدالله الشقاوي

  • 2
  • 0
  • 11,351

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً