تدبر - [27] سورة النساء (2)
أنزل قرآنًا يبرئ به ساحة اليهودي ويدين "الأوسي" الذي خان وذلك في آياتٍ كريمات من سورة النساء خُتِمت بتلك القاعدة القرآنية الخالدة: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}..
وما دام أمر السرقة سيفتضح لا محالة فلنجعل الدرع المسروق في بيت ذلك اليهودي وليدفع هو ثمن جريمة ملفَّقة لم يرتكبها..!
ولم لا؟
وماذا في هذا؟!
وفيها إيه يعني؟!
وهل لليهودي دية في المجتمع المسلم وقد ثبتت خيانات بني مِلَّته مِرارًا وتكرارًا؟
فليُقيَّد الحادث إذًا ضد يهودي وليخرج الأنصاري سليمًا معافى..!
ويا دار ما دخلك شرّ!
هكذا ظن بشير بن أبيرق..
ذلك الرجل شريف النسب عريق الحسب..
هكذا ظن..
وهكذا يظن البعض ويحسبون أنه لا دية ولا كرامة ولا حقوق تستحقها الطائفة التي تُعادىَ أو تُبغَض، لكن الله لم يرضَ بهذا..
ولم يترك بريئًا يُحاسَب بذنبٍ لم يرتكبه حتى لو كان هذا البريء يهوديًا..
رغم كل خيانات اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ورغم تآمرهم على الدولة الوليدة في المدينة النبوية؛ إلا الله أن جل وعلا لم يرضَ بأن ينزع عنهم ذلك الحق فلا يعاملون بتلك القيمة..
قيمة العدل والإنصاف.
إن المرء ليقف مشدوهًا ذاهلًا أمام ذلك الموقف القرآني العجيب الذي كان أحد أطرافه رجلًا من يهود وآخر من كبرى عائلات الأنصار..
لقد وقع ذلك الأنصاري النسب "بشير بن أبيرق" في خطيئة السرقة واستولى على درع أحد الصحابة ولمَّا كاد أمره أن يُفتضَح ألقى بالدرع في دار يهودي يقال له "زيد بن السمين"..
وليُقيَّد الحادث ضد يهودي!
فأنزل قرآنًا يبرئ به ساحة اليهودي ويدين "الأوسي" الذي خان وذلك في آياتٍ كريمات من سورة النساء خُتِمت بتلك القاعدة القرآنية الخالدة {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [النساء:11].
قاعدة تقطع بأن دين الله لا يُقبل فيه تعميم عقاب أو نزع حقوق المرء بسبب كراهية أو اختلاف أو حتى عداوة..
بل إن أشد الناس عداوة لا يُحاسب إلا على ما اقترفته يداه، وأنه مهما كان البغض والشنآن فإن ذلك ليس أبدًا مبرِّرًا للظلم والبهتان وسهولة رمي الخلق لمجرَّد العداوة بكل عيب ونقصان..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [النساء من الآية:8].
العجيب أن الله اختار أن يكون بيان البراءة بنصٍ قرآني وقد كان من الممكن أن يتم الأمر بتوجيه للنبي صلى الله عليه وسلم وينتهي الأمر؛ لكن الله أبى إلا أن تكون قاعدة عامة وأصلًا ثابتًا ما أحوجنا إليه خاصةً في هذه الأيام..
ورغم أن الجُرم يتضاعف والإساءة تعظُم حين يكون البهتان والظلم الذي افتراه الإنسان في حق غيره بشيء هو من فَعله وجُرم قد اقترفه وذنب هو من جناه؛ فيرميه بما فيه و يتهِمه بما اقترفته يداه فلا هو اكتفى بمعصيته ولا هو قصر أذاه عن غيره ولكنه أضاف إلى اعتدائه بهتانًا وظلمًا أصاب به بريئًا..!
إلا أن الأمر لم يكن مجرّد تبرأة بريء ولكنه كان إقامة لميزان حق وعدل لا يميل مع الحب والبغض ولا يتأرجح مع الهوى أو العصبية.
ميزان مستقيم لا تميله آفات وعوامل الضعف الإنساني..
ميزان مقسط لا تُطفِّفه مصالح شخصية أو انتماءات حزبية أو أهواء قبلية..
ميزان متجرِّد لا تفسده أحقاد أو ضغائن أو عداوات حتى لو كانت بمثل هذه الطبيعة العقدية بين المسلمين واليهود.
وحتى لو كان الذى عليه الحق من أقرب الناس فلا بُدَّ من العدل معه..
نعم حتى لو كان أقرب الناس نسبًا أو مودة..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:8].
ولقد وعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى القرآني جيدًا وعلَّمه للأمة جليًا بيِّـنًا في قوله: « » (رواه البخاري ومسلم).
نعم.. والله وتالله وبالله.
بمثل هذا تستقيم الدنيا وبمن يصدعون بذلك وينهون عن ضده تعلو الأمم وترتقي..
بميزان الحق والعدل والإنصاف مع الجميع، وليس بالشنآن والبهتان والرمي المُطلَق بكل عيب ونقصان واستسهال أن يُقيَّد الحادث دائمًا ضد فلان الذي أكره أو عِلَّان الذي أعادي، وأنسى أن فلانًا وعِلَّانًا هذا في النهاية هو إنسان..
ولو كان يهوديًا.
- التصنيف: