تدبر - [85] سورة التوبة (8)

منذ 2014-07-09

أيامٌ خمسون مرَّت..

تجرع فيهم مرارات الندم وقسوة الألم وحده..

لكنه كان يوقن أن ما اقترفه واكتسبه، هو سبب ما آل إليه حاله، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}..

إنه يتألَّم، ولكنه أيضًا يتصبَّر..

وبينما تختلج في صدره الأفكار والهموم، وتتوارد عليه الذكريات، قد ضاقت عليه الأرض بما رحُبت، بل حتى نفسه التي بين جنبيه تسعُه، وبينما الدنيا سوداء كالِحة، والأفق كئيب مظلم في عينيه..

إذا بصوتٍ يشق سكون الكون؛ وإذا بمن ينادي من بعيد، بنداءٍ يخترق مجال السمع الرتيب..

نداءٌ أعاد إليه حياة كادت تفارقه، يحمل البشارة، يا لها من بشارة! قد شرحت له صدرًا، وأقرَّت لها عينًا، وأضاءت له قلبًا، وطمأنت له نفسًا..

أحقُ ما أسمع؟!

بصدقٍ يقول المنادي أبشر؟!

أَوَ يُعقل؟!

أواقعٌ أم خيال، أهو حلمٌ جميل، أم وهم نفس..

أعد عليه أيها البشير، وأطرب قلبه المسكين النادم المتحسِّر المتشقِّق الكسير..

تقول: أبشر؟!

نعم نعم يسمعها جيدًا تُردِّدها جبال طيبة الطيبة رغم أن الفرس التي تطير على متنها لم تصل بعد..!

لكن؛ كيف يستبشر وقد تخلف؟

كيف يستبشر وقد خرج الضعفاء والذين لا يجد النبي صلى الله عليه وسلم ظهرًا يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع، بينما قعد وتجتمع عنده دابتان معًا في آن؟!

كيف يستبشر ولم يتبع حبيبه صلى الله عليه وسلم في ساعة العُسرة؟

كيف يستبشر وقد أطمع فيه الكفار، فظنوه منافِقًا يمكن استمالته، وكاتبوه يبغون لحاقه بهم؟!

لا بشرى تعزيه إلا بشارة بتوبة من الله، فهل هي ما عندك أيها البشير؟!

إذن؛ فالله أكبر، الله أكبر..

لك ثوباي أكسوكهما جزاء مثل هذه البشارة، والله ليس لدي اليوم غيرهما..

هلم به إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم، يسمعها منه، ويمتع برؤيته نظره، وبكلامه سمعه..

«أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أُمّك»!

يا إلهي.. ما أعذب هذه الكلمة!

لكَمْ اشتاق كعب بن مالك رضي الله عنه إليها أيامًا وليالي كان رفيقه فيها الدمع، وصاحبه فيها الألم، وقرينه الندم..

ما أجملها من كلمةٍ، حين تخرج من بين شفتي الحبيب صلى الله عليه وسلم ووجهه يبرق بالفرح..

ولقد استحقها كعبٌ رضي الله عنه..

استحقها لصِدقه..

واستحقها لصَبره..

واستحقها لندمه، وتوبته التي كانت فرعًا عن صِدق قلبه..

ما أحوجنا إلى هذا اليوم..

إلى خير يوم..

يوم أن يتوب الله علينا ويغفر ذنوبنا..

يوم أن يُنقَّى القلب من الدنس، وتُغسل الصحيفة من ذنوب أثقلت الكاهل، ودنَّست النفس..

إنه حقًا هو خير يوم..

يوم المغفرة..

إنه يوم لا يكون إلا للصادقين..

الصادقين المخلصين، الذين تتحرِق قلوبهم شوقًا لإرضاء مولاهم بكل ما يملكون، والذين لا يحزنهم إلا عدم تمكنهم من طاعة، أو تقصيرهم في قربى، وأولئك لهم الخيرات..

ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة:119].
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 2,244
المقال السابق
[84] سورة التوبة (7)
المقال التالي
[86] سورة التوبة (9)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً