لبنان .. وقفات مع آخـر الأزمـات

منذ 2008-06-25

لكن الجديد في الأمر أنّ هناك من أصبح ينافس الغربيين في الرهان على ما تبقى لأهل الإسلام الصحيح في الشام، وأولئك هم أنداد الروم القدامى: الفرس المعاصرون!

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:

فإنّ الأزمات كانت ولا زالت تتوالى على لبنان على مدى عقود طويلة ماضية، وقد كانت أكثر أزمات ذلك البلد من جراء المكر الصليبي الغربي الذي يجني ثماره الـمُرةَ اليوم أهلُ الإسلام في ذلك الجزء العزيز من أرض الشام، فأرض الشام التي وصفها الله في القرآن بأنّها مباركة في العديد من الآيات؛ أراد لها الصليبيون الجدد منذ أيّام الاستعمار، أن تكون مرتعًا لعَبَدَة إبليس من كل نوع، فقام تقسيمهم لها منذ أيام اتفاقــية (سايكس - بيكــو) وما قبلها، على أن يكون جزء منها وهو فلسطين دولة لليهود، وجزء آخر وهو لبنان دولة للنصارى، ثم غضّ هؤلاء الطرف عن قيام دولةٍ في أرض الشام لفرقةٍ من أخبث الفرق التي تدّعي الإسلام، وهي الفرقة النصيرية المدعاة بـ (العلوية)، ولم يبقَ من الأرض المباركة، ما هو خالص للإسلام إلاّ أقل القليل.

لكن الجديد في الأمر أنّ هناك من أصبح ينافس الغربيين في الرهان على ما تبقى لأهل الإسلام الصحيح في الشام، وأولئك هم أنداد الروم القدامى: الفرس المعاصرون!

وما حدث مؤخرًا في لبنان؛ ليس من الأمور المقطوعة عما قبلها من ترتيبات، وليس معزولًا عمَّا بعدها من مخططات؛ فالإيرانيون قد حسموا أمرهم منذ عقود بأن تكون لهم قطعة من القصعة الشامية، وقد كان بُغض الشيعة التاريخي المزمن لدولة الأمويين في الشام سببًا في جعلهم ـ حتى قبل أن تكون لهم دولة ـ عامل هدم واضطراب وفتنة في تلك الأراضي طوال التاريخ الإسلامي، وتشهد على ذلك مواقفهم الخسيسة والخبيثة إبّان الحروب الصليبية وما تلاها من حروب التتار.

لسنا معنيين هنا بتتبع مسلسل التغلغل الشيعي في لبنان؛ فذلك أمر له مظانُّه الأخرى؛ غير أنّنا سنبدأ من حيث انتهى المشهد الأخير بعد الانقلاب المثير الذي نفذه حزب الشيعة اللبناني المسمــى بـ (حزب اللــه)، لا لِنَدُقّ ناقوس الخطر المحدق، أو نطلق النفير بالخطر المبير؛ فكِلا الأمرين قد وقع؛ ولكن لنشير إلى أنّ الانقلاب الأخير قد فصل التاريخ اللبناني إلى قسمين: ما قبل الانقلاب وما بعده، وهذا الأمر يحتاج إلى إيضاح معانٍ وإبراز معالم، وذلك من خلال الوقفات التالية:

أولًا: القول إنّ شيعة لبنان هم (دولة داخل الدولة) تحوّل بانتظام من فرضية تحليلية نظرية إلى حقيقة واقعية فعلية؛ فالحاصل المعلوم أنّ لهذه الطائفة اليوم استقلالَها السياسي والعسكري والاقتصادي والإعلامي والتعليمي عن الدولة، كل ذلك من خلال حزب سياسي له قيادته وعناصره، وله قواته وسلاحه، وله ميزانياته ومُدخلاته الخارجية والداخلية، كما أنّ لتلك الطائفة مساجدها وحسينياتها ومحاكمها ومستشفياتها وفضائياتها وأخيرًا اتصالاتها، إلى غير ذلك من مقومات الدول، إلاّ أنّهم لم يعلنوا بعدُ عن دولة. والانقلاب الأخير ـ في رأينا ـ هو الخطوة الأولى على طريق إعلان هذه الدولة؛ إلاّ إذا حدث ما يخلط الأوراق ويعرقل الخطط، ويؤجلها إلى حين.

ثانيًا: الظن بأنّ الاستقرار سيعود إلى لبنان عن طريق الجيش، هو وهْمٌ عظيم؛ فطريق حزب الشيعة للاستيلاء "الرسمي" على لبنان سيكون من خلال هذا الجيش؛ حيث إنّ ذلك الكيان العسكري، على الرغم من هشاشته الحاضرة (الظاهرة)، مسكون بالتشيع ومخترق بالرفض، وسيرى النّاس أنّ ذلك الجيش الهش سوف يتحول إلى وحش لا يكف عن النهش في الكيان السني، بعد أن كان أضحوكة العالم في كل مواقفه (المحايدة) مع اليهود، حتى عندما احتلوا العاصمة بيروت! ولقد رأينا إشارة إلى الدور (المنتظر) لجيش "المهدي" القادم في لبنان من خلال أحداث نهر البارد، التي قاتل فيها ذلك الجيش بجدارة لأول مرة في تاريخه؛ لأنّ العدو كان في تلك المرة مجموعة سنية توصم بأنّها "وهابية إرهابية"!

ثالثًا: حزب الشيعة ما ناكف اليهود إلاّ لأجل أن تخلُص له ولمن وراءه حصة الروافض من أرض الشام في لبنان، فإذا خلصت لهم تلك الحصة، فلن يُسمع لهم مع اليهود حِسٌّ ولا خبر، وعندها ستكون معاهدات السلام والوئام، بل التعاون والتضامن بين الشيعة وأشياعهم هي السياسة المعتمدة لدى النظام القادم. ومن لا يستطع أن يتصور إمكانية أن يحدث ذلك غدًا، فعليه أن يطالع ما يحدث في العراق اليوم بين إيران والأمريكان، وحيث بيّن شيعة العراق لشيعة لبنان، كيف يمكن أن يحوِّلوا العدو إلى صديق يستفيدون منه ويفيدونه، بجامع "مصلحة" وحيدة وفريدة، وهي اجتماع الضدين المتناقضين على العدو المشترك وهم (أهل السنة). وقد أعطى شيعة لبنان اليهودَ إشارة إلى إمكانية ذلك، شهد لهم بها شارون، عندما ذكر في مذكراته أنّ (إسرائيل) عاشت خمس سنوات من السلام في ظل حماية حزب الله للحدود الجنوبية اللبنانية، حيث مَنَعَ أي وجود سني مقاوم من النفاذ إلى حدود الجليل الأعلى شمال الدولة الصهيونية.

رابعًا: أمر تعامل ما يسمى بـ (حزب الله) مع نصارى لبنان، ظهر فيه من الآن أنّه يتجه نحو تأمين كل طرف للآخر، فعصابات (نصر الله) التي اجتاحت المناطق السنية، وقتلت في ثلاثة أيّام ما يقارب ثُلُث ما قُتل من اليهود في حرب الثلاثين يومًا (حرب تموز)؛ هذه العصابات لم تمس مناطق النصارى بسوء، وهي إشارة سوء إلى ما قد تكون عليه تحالفات المستقبل بين النصارى وهذا الحزب الذي يسمي نفسه (حزب الله)! وقد طمأنوا النصارى في محادثات قطر، بأنّهم لن يمسوا وضع السيادة "المسيحية" على منصبيّ رئاسة الجمهورية ورئاسة الجيش.

خامسًا: شيعة لبنان في سيرهم على طريق الدولة يخلطون الدهاء ـ بل الخبث ـ السياسي، مع التمترس والتحرش العسكري، وقد بدؤوا أولى خطوات الخبث السياسي في الشهور الأخيرة بانسحاب كل الوزراء الشيعة من الحكومة التي يترأسها السُّنَّة، وهو ما أوجد أزمة سياسية لم يخرج منها لبنان إلى اليوم، حيث تعيش منذ شهور عديدة بلا رئيس! ومن الخبث السياسي المتوقع أيضًا أن يلعب الروافض على ورقة (الأكثرية العددية) مثلما حدث في العراق، حيث يَدَّعون ويُدَّعى لهم، أنّهم يمثلون ما يزيد على 35٪ من مجموع عدد الشعب اللبناني بكل طوائفه، وعينهم ـ وهم يضخمون عددهم ـ على أهل السنة، الذين سينظُر لهم الشيعة من اليوم فصاعدًا على أنّهم ليسوا الأكثرية، حتى تُسنَد المهام التي لها الأولوية والأهمية للطائفة الشيعية.

سادسًا: استأنف شيعة لبنان على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي إصرارَهم على اختطاف البطولة والرجولة، فحزبهم هو (حزب الله)، وعملهم العسكري هو المقاومة "الإسلامية"، وسلاحهم هو "سلاح المقاومة"! وهذا الاختطاف اختطاف شبيه بسطو الثورة الرافضية في إيران على وصف (الجمهورية الإسلامية)، وكأنّ كل ما عداها ليس إسلاميًا! وهنا نعجب: كيف احتكر الروافض لأنفسهم الأوصاف الشريفة، وتركوا لغيرهم الأوصاف الأدنى والأدنأ؟! فالمقاومة (الإسلامية) شيعية، و(سلاح المقاومة) شيعي، والحزب (حزب الله)! إنّ هذا بلا شك هو استباق لفرض وصاية باسم التشيع على المشهد المستقبلي الذي ينتظر لبنان.

سابعًا: خطورة ما يحدث في لبنان أنّ الشيعة ليسوا أقلية بمقاييس الطوائف العددية، فعددهم يزيد عن المليون ومئتي ألف. وحتى لو كانوا أقل ممّا يقال؛ فهم طائفة منظمة وقوية، ولهذا فلن نستغرب أو نستعجب إذا ما سمعنا يومًا أنّ لبنان سقطت كلها في أيديهم كما سقطت العراق في أيدي إخوانهم، بل كما سقطت قبل ذلك سورية في أيدي الأقلية الشيعية العلوية، التي هي أخبث الطوائف الشيعية على الإطلاق، وهكذا ينبغي أن ننظر من اليوم فصاعدًا إلى القسم الأكبر من أرض الشام على أنّه أصبح من الناحية الواقعية، واقعًا تحت قبضة أعداء الصحابة وأعداء السنة الذين يقبلون التعامل مع كل عدو، إلاّ أهل الإسلام.

ثامنًا: العدو "الظاهر" لحزب الشيعة في لبنان، وهم الإسرائيليون والأمريكيون، سيحيروننا في تعاملهم مع شيعة لبنان في المرحلة القادمة، كما حيرونا في تعاملهم مع شيعة العراق وإيران، وسوف يشكل ذلك التعامل لغزًا لدى الأكثرين منّا عندما لا يستطيعون أن يفهموا كيف يتعاون ذلك العدو مع عدوه، للدرجة التي يتوهم بعضهم فيها بأنّ لا عداء حقيقيًا بينهم، لكن هذا اللغز لا يفكُّه إلاّ العلم بأنّ ما بين هذين الطرفين من عداء هو مجرد "عداء مصالح" فقط؛ فإذا سُوِّيت قضايا المصالح فلا عداء، في حين أنّ هناك عدوًا مشتركًا، كان بالأمس عدوًا وسيظل غدًا عدوًا، حتى لو كانت كل المصالح عنده وهم المسلمون الممثلون للإسلام الصحيح، وهم أهل السنة؛ فهؤلاء هم العدو الأكبر للطرفين، ولهذا يجتمع الشيعة مع الأمريكيين وحلفائهم لعداوة السنة، على الرغم من كل التناقض والتنافس بينهما، كما يحدث الآن في العراق. والمحذور هنا أن يتكرر في لبنان ما حدث في العراق، فيغض الأمريكيون والإسرائيليون الطرف عن حزب الشيعة لإنهاء الوجود السني في بلاد الشام أو إنهاكه. والمحذور الأكبر من ذلك أن يتكرر (سيناريو) ما أحــدثه ما يسمى (حزب الله) في لبنان على أيدي من يدَّعون أنّهم (حزب الله) في بقية البلدان!

تاسعًا: إذا كان بعضهم يضع ما يسمى (حزب الله) ضمن إطار "أنقى" و"أرقى" وربّما "أنصح" و"أنضج" للمسلمين من غيره من أحزاب الشيعة الأخرى، فعليه أن ينظر إلى الواقع من الحالات الشيعية خارج لبنان ليعرف المتوقع داخل لبنان؛ حيث سيــرى بعيــن البصيــرة ما ستصير إليه مآلات ذلك الحزب واتجاهاته في تعامله مع المسلمين السُّنة هناك؛ فالفتن هي سبيل الشيعة على طريق "التمكين"، وشجرة الفتنة تلك منذ أن وضع بذرتها اليهودي عبد الله بن سبأ؛ لا تزال تورِق وتُثمِر على امتداد الأزمنة والأمكنة. أمّا اليوم فما علينا، لكي ندرك خطر ثمراتها الخبيثة، إلاّ أن ننظر إلى مقدمات الفتن ونتائجها هنا وهناك: فتنة شيعية في العراق، وقبلها فتنة شيعة أفغانستان، وبعدها فتنة شيعة اليمن، غير ما يتوقع أن يظهر إلى العلن من فتن الروافض هنا وهناك، لكن من شدة فتنة (نصر الله) أنَّ أمرها عمي عن الأكثرين، من شدة استعمال الدجل في الترويج لها؛ حيث قد بلغ قدرًا عاليًا من الدقة والإحكام حتى أصبح الكثيرون من "أهل السنة" يستميتون بسبب ذلك في الدفاع عن "أعداء السنة"! حقًا إنّها سنوات خَدَّاعة!

عاشرًا: سقوط بيروت اليوم، وبالأمس بغداد، وقبلها دمشق، لا ينبغي أن يجعل من المبالغة أن نحذِّر من سقوط عواصم أخرى، قد تكون مناعتها أقل، ومقاومتها للسقوط أضعف، في ظل انتماء غير حقيقي من السنّة لمذهب السنّة، في مقابل تعصب غير معقول من الشيعة لكل ما هو شيعي وشعوبي.




 افتتاحية مجلة البيان







المصدر: مجلة البيان
  • 0
  • 1
  • 4,816

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً