غزة تحت النار - (45) مفاوضاتٌ بالنيران

منذ 2014-07-31

العدو يُصغي إلى بعض حلفائه من الأنظمة العربية، التي تحضُّه على الاستمرار، وتناشِده الصبر، وتتمنَّى عليه عدم التراجع عما بدأ، فهذه فرصةً لن تتكرَّر، أما التراجع فهو هزيمة وانتحار، لذا فهي تطالبه بأن يستمر في الحوار لكن تحت النار، وأن يستمر في إعلان القبول بالمفاوضات، لكن دون أن يتوقف عن أعمال القصف والهجوم. ولكن العدو ومن معه، عربًا وغربًا، ينسون أن الشعب سابق المقاومة، وأنه حاضنٌ لها، ويعمل أكثر منها، وهو على استعداد لتحمُّل المزيد من أجلها، وأنه الذي يدعوها إلى الصبر والثبات، وهو الذي يُحذِّرها من مغبة التفريط والتسليم، ولن يقبل بأقل من هزيمة العدو، وتسليمه بشروطنا، والتزامه بحقوقنا.

مما لا شك فيه أن العدو الصهيوني قد بات يريد إنهاء العملية العسكرية التي شنَّها على قطاع غزة، لكنه لا يعرف كيف ومتى ومع من يُنهيها، فهل يُوقِف إطلاق النار من طرفٍ واحد، دون اتفاقٍ مع المقاومة، فيعفي نفسه من أي التزامٍ تجاهها، ويعطي لنفسه حق التدخل والقصف في أي وقتٍ، وفي أي مكانٍ، وأيًا كانت الأهداف، بذريعة الرد على مصادر النيران، وعدم المبادرة بها، ليكسب بذلك الرأي العام الدولي، وليحوز على مشروعية استخدام القوة ضد الأهداف التي يشن عليها غاراته، بحجة أنهم لا يبادرون بإطلاق النار، بل يردُّون عليها، ويحاولون إخمادها، وتجنيب مواطنيهم أخطارها.

أم يُعلِن استجابته لنداءات الأمم المتحدة وأمينها العام، وقبوله دعوات قادة ورؤساء الدول الكبرى، الذين يناشدونه وقفًا فوريًا لإطلاق النار، والكف عن قصف الأهداف المدنية في قطاع غزة، وبذا يظهر أمام العالم أنه استجاب للنداءات الدولية، والدعوات الإنسانية، فيُحسِّن صورته أمام الرأي العام الدولي، وهي الصورة التي ساءت كثيرًا من خلال الصور التي نقلتها وسائل الإعلام، والتي كشفتٍ عن دمارٍ كبير، وخرابٍ واسع، تسبَّب به القصف الإسرائيلي العشوائي للمناطق، فضلًا عن التزايد الكبير في عدد الضحايا المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، فتكون استجابته للنداءات الدولية في الوقت الذي تظهر فيه المقاومة على أنها هي التي ترفض وقف إطلاق النار، وأنها بموقفها المتعنت تتسبَّب في قتل المدنيين، وتُلحِق الضرر بهم وبممتلكاتهم.

وهناك فريقٌ إسرائيلي آخر، ممن يرى ضرورة وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وإنهاء كافة العمليات العسكرية فيه، لكن على أن يتم ذلك بالاتفاق مع السلطة الفلسطينية في رام الله، وبالوساطة المصرية مع رئيسها محمود عباس، على ألا يكون فيها أي دور لحركة حماس، وغيرها من القوى والفصائل الفلسطينية المقاومة، ويستطيع العدو من خلال هذا الطرح، أن يفرض الشروط التي يريدها، ويُوظِّف معه المجتمع الدولي في ضمان تطبيقها، والتزام الفلسطينيين بها، فضلًا عن أنه قد يُحسِّن من وضع السلطة الفلسطينية إزاء الفصائل في غزة، ويُظهِرها بأنها حريصة على أرواح المدنيين وممتلكات المواطنين.

وخلال ذلك تُصِر حكومة العدو على أن تحتفِظ بالمواقع التي سيطر عليها جيشهم، وهي في أغلبها مناطق حدودية، على ألا يعود إليها أهلها الذين هُجِّروا منها، والذين دُمِّرت بيوتهم ومنازلهم، ليتسنى للفِرق الفنية والهندسية لجيش العدو مواصلة البحث عن الأنفاق، ومتابعة المُكتشَف منها، والتثبت من تدميرها، ولمنع المقاومة الفلسطينية من استخدام المناطق الحدودية في إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية.

لكن خيارات العدو الإسرائيلي الثلاثة السابقة تصطدم مع إرادة المقاومة الفلسطينية وقوتها، التي ترفض كليًا أن تسمح للعدو بتنفيذ مخططاته، أو إنهاء المعركة حسبما يريد، ووقتما وكيفما شاء، الأمر الذي يجعله عاجزًا أمامها، وغير قادر على تمرير أحدها، فهو يفشل في تنفيذ أيًا منها نتيجة رفض قِوى المقاومة وممانعتها، وإصرارها على مواصلة المقاومة، واستئناف إطلاق الصواريخ، فضلًا عن قيامها بعملياتٍ مختلفة، كالقنص والمباغتة والمداهمة، والقصف والتسلل والاشتباك مع جنود العدو خلف خطوط النار، في محاولةٍ منها للرد على الغارات والاعتداءات الإسرائيلية، التي أدَّت إلى استشهاد المئات وجرح الآلاف من الفلسطينيين.

لكن العدو الصهيوني بات مُرغَمًا على أن يجد حلًا سريعًا، يرضي شعبه، ويحافظ على معنويات جنوده، ويُبقي على جيشه متماسكًا قويًا، ويقضي على إحساس المقاومة بالنصر، ويقتل الشعور لدى الفلسطينيين بنشوة الصمود والثبات، خاصةً بعد أن تمكنت المقاومة من تحقيق الكثير من نقاط الكسب، إذ قتلت عشرات من جنود وضباط الجيش، كما قامت بعملياتٍ تسللٍ خلف الحدود وعلى الجبهات، وتمكَّنت من مهاجمة دوريات ودبابات واشتبكت معها عند نقطة الصفر، ونالت منها، ونجحت في أسر جندي.

يدرك العدو أن ما لحق به على أيدي رجال المقاومة الفلسطينية في حربه البرية ليس إلا بداية، وأن القادم سيكون أصعب بكثير، فهو ما زال على الحدود، ويقاتل على الأطراف، ويستخدم كل قوته الجوية والبرية في التغطية على تحركات جنوده، ولمنع أي محاولة لمهاجمتها والاشتباك معها، ولهذا فإن استمرار المعركة ليس من صالحه أبدًا، ولا يخدِم خططه، ولا يُقرِّبه أو يُساعده في تحقيق أهدافه، لهذا فإن الخيار الأمثل له، هو في إنهاء العمليات العسكرية، والانسحاب من القطاع، ولكن ضمن شروطٍ ضابطة، وضماناتٍ تساعده في تحقيق بعض أهدافه التي عجز عن تحقيقها بالقوة، ولعله قد وجد ضالته في الورقة المصرية، التي تضمن له تحقيق الكثير من الأهداف، بأقل قدرٍ من الكلفة والتنازل.

ليس أمام العدو الإسرائيلي سوى هذا الخيار، فهو يريد أن يُخضِع المقاومة لإرادته، وأن يُجبِرها على القبول بمبادرته، والنزول عند شروطه، ولما لم يكن قادرًا على الوصول إلى غاياته عبر كسر المقاومة عسكريًا وفي الميدان، إذ يعترف أنه لا يعرف من يُقاتل، ولا يعرف أين يوجد عدوه، وكيف ومن أين يخرج إليه، كما أنه لم يتمكَّن من رصد أهدافه وقصفها، لهذا فهو يلجأ إلى خيار استهداف المدنيين، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير المساكن والبيوت، وتكثيف إطلاق النار، ومضاعفة عمليات القصف، وزيادة الطلعات الجوية، لتجبر المقاومة على القبول بالشروط الإسرائيلية حمايةً للمدنيين، وخوفًا على الباقين منهم، وللحيلولة دون هدم المزيد من بيوتهم.

العدو الإسرائيلي يدرك أن هذا الخيار فاشل، وأنه لن يؤدي الغرض، ولن يصل إلى الهدف المنشود منه، فالفلسطينيون جميعًا في قطاع غزة يقفون إلى جانب المقاومة ويؤيدونها، ويخافون عليها ويحرصون على استمرار وجودها وعملها، وهم يتحمَّلون كل شيء في سبيل مواصلتها لعملياتها، ولن يكونوا يومًا سببًا في ضعفها، أيًا كانت خسائرهم، ومهما بلغ عدد شهدائهم.

لكن العدو يُصغي إلى بعض حلفائه من الأنظمة العربية، التي تحضُّه على الاستمرار، وتناشِده الصبر، وتتمنَّى عليه عدم التراجع عما بدأ، فهذه فرصةً لن تتكرَّر، أما التراجع فهو هزيمة وانتحار، لذا فهي تطالبه بأن يستمر في الحوار لكن تحت النار، وأن يستمر في إعلان القبول بالمفاوضات، لكن دون أن يتوقف عن أعمال القصف والهجوم.

إنهم وحلفاؤهم يعتقدون أن المقاومة عنيدة جدًا، وصلبة للغاية، وباتت تملك قوة كبيرة، الأمر الذي يُعقِّد من مسألة كسرها وهزيمتها، ولكن الضغط على الشعب، والمبالغة في استهداف المدنيين، وعدم التوقف عن القصف، سيُجبِر المقاومة على أن تختار وتُقرِّر، فإما الصمود وخسارة الشعب، وإما القبول والحفاظ عمَّن بقي، ولكن العدو ومن معه، عربًا وغربًا، ينسون أن الشعب سابق المقاومة، وأنه حاضنٌ لها، ويعمل أكثر منها، وهو على استعداد لتحمُّل المزيد من أجلها، وأنه الذي يدعوها إلى الصبر والثبات، وهو الذي يُحذِّرها من مغبة التفريط والتسليم، ولن يقبل بأقل من هزيمة العدو، وتسليمه بشروطنا، والتزامه بحقوقنا.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مصطفى يوسف اللداوي

كاتب و باحث فلسطيني

  • 0
  • 0
  • 2,511
المقال السابق
(44) الغزيون في الشتات وأحزان العيد
المقال التالي
(46) صيحةٌ في وادي العرب!

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً