الزواج وعنق الزجاجة

منذ 2014-08-13

الزواج في سنواته الأولى هو أشبه ما يكون بالكائن الحي المحصور في عنق الزجاجة، فإذا استطاع الصمود وتحمل الحياة مع هذا الوضع القاسي ولم يستسلم لليأس، فإنه سيخرج حتما - لوشاء الله بالطبع -الفضاء الرحب الفسيح.

الزواج في سنواته الأولى هو أشبه ما يكون بالكائن الحي المحصور في عنق الزجاجة، فإذا استطاع الصمود وتحمل الحياة مع هذا الوضع القاسي ولم يستسلم لليأس، فإنه سيخرج حتماً - لوشاء الله بالطبع - إلى الفضاء الرحب الفسيح.  

ويؤكد ذلك نسب الطلاق التي ارتفعت بشكل مخيف في الآونة الأخيرة في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، فنسبة كبيرة منها تقع في السنوات الأولى للزواج، بل أحيانا في الشهور الأولى ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فمن واقع التجارب الزوجية على اختلاف أنواعها؛ لمسنا بالفعل أن السنوات الأولى للزواج هى أصعبها وأكثرها تعثرًا، وهذا شيء طبيعي ومتوقع، والسبب ليس بعيدًا عن الأذهان، فمهما كانت درجة القبول والانسجام بين الطرفين فإن الله تعالى لم يخلق اثنين من البشر متماثلين، حتى أنه لا توجد علاقة مثالية أي خالية تمامًا من المشكلات حتى بين الأم وابنتها التي هي قطعة منها، بل الأكثر من ذلك أنه حتى الشخص الواحد قد يفقد أحيانًا الوئام من نفسه اذا شعر بعدم الرضا عنها في وقت من الأوقات.

وهذه الفكرة الأخيرة تجعلنا ننظر إلى العلاقة الزوجية وبالتالي إلى المشكلات التي تحدث من خلالها؛ نظرة أكثر إنصافًا، بمعنى أن هذه المشكلات لا تنجم بالضرورة عن وجود مشاعر عدائية أو حتى حيادية بل يمكن العكس تمامًا، فمن الممكن أن يضع الله سبحانه وتعالى كل مشاعر الحب والمودة في قلب الزوجين حتى أن كل طرف يرفض أن يرى فى الآخر أي عيب أو نقيصة من ناحية، كما يرفض أم يراه أقل إقبالًا عليه وحبًا له من ناحية أخرى، وهذه النظرة المثالية للعلاقة قد تتسبب في حدوث المشكلات، بل أنها يمكن أن تكون سببًا أساسيًا في انهيار العلاقة الزوجية، لأن هذه الرؤية المثالية تجعل كلا الطرفين أو أحدهما شديد التشبث في شيء محال ألا وهو تحقيق الكمال على الأرض.

فإذا كان التمسك بتحقيق المثالية للعلاقة الزوجية يمكن أن يمثل عاملًا من عوامل إضعافها، فماذا لو انتقلنا إلى مستويات أخرى لهذه العلاقة كأن يتسم أحد الطرفين أو كلاهما بالأنانية بما قد تحمله من صفات غير مقبولة كالعناد أو التسلط أو التكبر أو غيرها التي تجعل طرفًا يرى نفسه أهلاً بكل الحقوق على حساب الطرف الآخر، ليس هذا فحسب بل يمكن أن تنحدر العلاقة إلى مستوى أقل من ذلك حين يعاني أحد الطرفين أو كلاهما من مشاعر النقص أو الدونية فيعتقد أنه بالنيل من الطرف الآخر وتدمير معنوياته يستطيع أن يحقق ذاته ويتغلب على تلك المشاعر الانهزامية المتسلطة عليه.

وأيا كان شكل العلاقة الزوجية وأيا كانت جوانب الضعف فيها أو في أي من شخصية الزوجين فإن المشكلة الأساسية أن طرفيها لا يدركان منذ البداية أن العيوب الفردية صغرت أم كبرت تكون ذات تأثير مختلف بعد الزواج لأسباب عديدة منها أن العلاقة الزوجية بخلاف غيرها من العلاقات بأنها أكثر تداخلاً بل أنها علاقة اندماج كامل ولذا فهي أكثر حساسية، كذلك النظرة الوردية التى يرى بها الشخص الزواج إذ لا يرى فيه إلا الجانب المشرق أما جانب المسؤولية وتبعاتها فلا يوضع في الحسبان مما يجعله يمثل صدمة للغالبية العظمى بعد الزواج.

وهناك أيضا شيء آخر هو طبيعة العلاقة التي تربط الفرد بأهله قبل الزواج من حيث كونها غير اختيارية فالأهل يتقبلوننا بكل ما فينا ويتحملون تصرفاتنا، ويغفرون الكثير منها رضوا أم كرهوا سواء من منطلق عاطفي أو بسبب رابطة الدم.

وإن كان عنصر الاختيارية في الزوجية يعد ميزة لأنه يخاطب غريزة الحرية لدى المرء؛ فالعيب الكبير ليس في أنه يتيح للمرء التخلص من هذه العلاقة؛ ولكن في إساءة استخدام هذه الحق عندما يجد فيه دائمًا حلاً سهلاً لأية مشكلة تعترضه، ويتغافل أنه يجب ألا يلجأ إلا ذلك إلا إذا أعيته كل الوسائل لاستمرار هذه العلاقة.

بل يجب عليه أن يستخدم الموضوعية الكاملة في تقييم العلاقة بأن ينظر إلى عيوب نفسه نظرة الناقد بل الرافض، وأن يرى عيوب الطرف الآخر بعين التسامح والقبول والتسليم بأنه لا يوجد إنسان بلا عيوب.

كما يجب أن يكون شديد الحرص على إنجاح هذه العلاقة بمخاطبة كل الجوانب الإيجابية في شخصية الطرف الآخر ومساعدته على تنمية مزاياه حتى تكون العنصر الغالب على شخصيته ففي إثراء شخصية أي من الزوجين هو بالطبع إثراء للعلاقة الزوجية.

كما أن من أهم مقومات هذه العلاقة هو تجنب مواضع الحساسية لدى الطرف الآخر بالبعد تماماً عن كل ما يستفزه أو يجرح مشاعره بل التركيز دائمًا وأبدًا على كل ما يسعده ويزيد من ثقته بنفسه.

والخلاصة هي أنه على كل طرف في العلاقة الزوجية التحلي بروح الصبر والقدرة على تحمل المسؤولية والتزام الأناة الشديدة لأننا لا نستطيع أن نأمل لكائنين مختلفين ومستقلين أن يلتحما ويتوائما بين يوم وليلة، ويجب أن نتجنب العجلة عند التفكير في حل هذا الميثاق الغليظ كما وصفه الله تعالى حتى دون أن يكون قد أسفر عن وجود كائنات طاهرة بريئة لا ذنب لها لما قد تتعرض له من تشرد وتمزق وغيرها من نتائج لا تكفي الصفحات لاستعراضها وحينئذ لن يكون هذا الميثاق قائما بين طرفين فحسب بل تكون قد دخلته أطراف جديدة سيكون الحساب لأجلها من الله أكثر غلظة فالله سبحانه وتعالى قد وضع لهذه العلاقة دستورا ملخصًا في كلمات يصفها بها ألا وهي السكن والمودة والرحمة وذلك في قوله تعالى:   {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الروم: الآية٢١].

فمن التزم به وفقه الله إلى علاقة زوجية حميمة ورائعة قد تفوق ما نقرأه في القصص والأساطير ولنا في  سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه خاصة مع السيدة خديجة  رضي الله عنهن جميعا خير مثال على ذلك، فمازلنا وسنظل نذكر الدور العظيم الذي لعبته في حياة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم – وبالتالي في الدعوة الإسلامية- كما سنظل نذكر مدى وفائه لها حية وميتة وذكره لها بكل خير والبشرى التي حملها إليها من ربه ببيت في الجنة قال أبو هريرة: « أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسولَ اللهِ ، هذه خديجةُ قد أَتَتْ ، معها إناءٌ فيه إِدامٌ أو طعامٌ أو شرابٌ ، فإذا هي أَتَتْكَ فاقَرِأْ عليها السلامَ مِن ربِّها ومنِّي ، وبِشِّرْهَا ببيتٍ في الجنةِ مِن قَصَبٍ لا صَخَبٌ فيه ولا نصبٌ ».(صحيح البخاري؛ رقم :[3820]).

ولنا بالطبع في رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم وفي آل بيته الكرام خير أسوة.

سهام علي

كاتبة مصرية، تخرجت في كلية الإعلام، وعضوة في هيئة تحرير موقع طريق الإسلام.

  • 0
  • 0
  • 2,821

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً