الأحكام السلطانية للماوردي - (21) تقليد الإمارة على الجهاد 4
وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِي حَرْبٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا مَا لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِمْ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الْعُسَفَاءِ وَالْوُصَفَاءِ.
الباب الرابع: في تقليد الإمارة على الجهاد 4
وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْ مُقَاتِلَةِ الْمُشْرِكِينَ مُحَارِبًا وَغَيْرَ مُحَارِبٍ، وَاخْتُلِفَ فِي قَتْلِ شُيُوخِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ مِنْ سُكَّانِ الصَّوَامِعِ وَالْأَدْيِرَةِ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمْ: إنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ حَتَّى يُقَاتِلُوا؛ لِأَنَّهُمْ مُوَادِعُونَ كَالذَّرَارِيِّ.
وَالثَّانِي: يُقْتَلُونَ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا أَشَارُوا بِرَأْيٍ هُوَ أَنْكَى لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقِتَالِ، وَقَدْ قُتِلَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ[1] فِي حَرْبِ هَوَازِنَ وَهُوَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، وَقَدْ جَاوَزَ مِائَةَ سَنَةٍ مِنْ عُمْرِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُ فَلَمْ يُنْكِرْ قَتْلَهُ، وَكَانَ يَقُولُ حَيْثُ قُتِلَ "مِنَ الطَّوِيلِ":
أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى *** يَسْتَبْيِنُوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحَى الْغَدِ
فَلَمَّا عَصَوْنِي كُنْتُ مِنْهُمْ وَقَدْ أَرَى *** غَوَايَتَهُمْ وَأَنَّنِي غَيْرُ مُهْتَدِ
وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِي حَرْبٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا مَا لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِمْ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الْعُسَفَاءِ وَالْوُصَفَاءِ[2].
وَالْعُسَفَاءُ: الْمُسْتَخْدَمُونَ.
وَالْوُصَفَاءُ: الْمَمَالِيكُ، فَإِنْ قَاتَلَ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ قُوتِلُوا وَقُتِلُوا مُقْبِلِينَ وَلَا يُقْتَلُوا مُدْبِرِينَ.
وَإِذَا تَتَرَّسُوا فِي الْحَرْبِ بِنِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَتَوَقَّى قَتْلُ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فَإِنْ لَمْ يُوصَلْ إلَى قَتْلِهِمْ إلَّا بِقَتْلِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ جَازَ.
وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُوصَلْ إلَى قَتْلِهِمْ إلَّا بِقَتْلِ الْأُسَارَى لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ، فَإِنْ أَفْضَى الْكَفُّ عَنْهُمْ إلَى الْإِحَاطَةِ بِالْمُسْلِمِينَ تَوَصَّلُوا إلَى الْخَلَاصِ مِنْهُمْ كَيْفَ أَمْكَنَهُمْ، وَتَحَرَّزُوا أَنْ يَعْمِدُوا إلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ قُتِلَ ضَمِنَهُ قَاتِلُهُ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ إنْ عَرَفَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَضَمِنَ الْكَفَّارَةَ وَحْدَهَا إنْ لَمْ يَعْرِفْهُ.
وَيَجُوزُ عَقْرُ خَيْلِهِمْ مِنْ تَحْتِهِمْ إذَا قَاتَلُوا عَلَيْهَا، وَمَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ عَقْرِهَا، وَقَدْ عَقَرَ حَنْظَلَةُ بْنُ الرَّاهِبِ[3] فَرَسَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ، وَاسْتَعْلَى عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ فَرَآهُ ابْنُ شَعُوبٍ فَبَرَزَ إلَى حَنْظَلَةَ وَهُوَ يَقُولُ مِنَ السَّرِيعِ:
لَأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي *** بِطَعْنَةٍ مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ
ثُمَّ طَعَنَ حَنْظَلَةَ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَنْقَذَ أَبَا سُفْيَانَ مِنْهُ، فَخَلَصَ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ يَقُولُ مِنَ الطَّوِيلِ:
وَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمْ *** لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ
أُقَاتِلُهُمْ طُرًّا وَأَدْعُو لِغَالِبٍ *** وَأَدْفَعُهُمْ عَنِّي بِرُكْنٍ صَلِيبِ
وَلَوْ شِئْتُ نَجَّانِي حِصَانٌ طِمِرَّةٌ *** وَلَمْ أَحْمِلِ النَّعْمَاءَ لِابْنِ شَعُوبِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ شَعُوبٍ، فَقَالَ مُجِيبًا لَهُ حِينَ لَمْ يَشْكُرْهُ مِنَ الطَّوِيلِ:
لَوْلَا دِفَاعِي يَا ابْنَ حَرْبٍ وَمَشْهَدِي *** لَأُلْفِيتَ يَوْمَ النَّعْفِ غَيْرَ مُجِيبِ
وَلَوْلَا مَكَرُّ الْمُهْرِ بِالنَّعْفِ قَرْقَرَتْ *** ضِبَاعٌ عَلَى أَوْصَالِهِ وَكَلِيبِ
فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْمُسْلِمُ أَنْ يَعْقِرَ فَرَسَ نَفْسِهِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اقْتَحَمَ يَوْمَ مُؤْتَةَ بِفَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ حَتَّى الْتَحَمَ الْقِتَالُ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهَا وَعَقَرَهَا، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَقَرَ فَرَسَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْقِرَ فَرَسَهُ؛ لِأَنَّهُ قُوَّةٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِعْدَادِهَا فِي جِهَادِ عَدُوِّهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال من الآية:60].
وَجَعْفَرٌ إنَّمَا عَقَرَ فَرَسَهُ بَعْدَ أَنْ أُحِيطَ بِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَقْرُهُ لَهَا لِئَلَّا يَتَقَوَّى بِهَا الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَصَارَ عَقْرُهَا مُبَاحًا كَعُقْرِ خَيْلِهِمْ وَإِلَّا فَجَعْفَرٌ أَحْفَظُ لِدِينِهِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ، وَلَمَّا عَادَ جَيْشُهُ تَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَى الْجَيْشِ التُّرَابَ وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ، لِمَ فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « ».
__________
[1] هو دريد بن الصمَّة، أبو قرة الهوازني الجشمي، واسم الصمَّة معاوية، وفد على الحارث بن أبي شمر، ويُعَدُّ من شعراء العرب وشجعانها وذوي أسنانها، عاش نحوًا من مائة سنة حتى سقط حاجباه على عينيه. وخرجت به هوازن يوم حنين تتيمَّن برأيه فقتل كافرًا.
[2] منقطع: (رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه [33114]، وأحمد [14994]، وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد [5/ 315]، وقال: رواه أحمد وفيه رجل لم يسم).
[3] هو غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر الراهب الأنصاري الأوسي، واسم أبي عامر: عمرو بن صيفي، وكان عامر يعرف بالراهب في الجاهلية، قتل حنظلة شهيدًا يوم أحد، قتله أبو سفيان بن حرب، وقال: حنظلة بحنظلة، يعني: به حنظلة ابنه الذي قتل ببدر، وقيل: بل قتله شداد بن الأوس الليثي. وقال مصعب الزبيري: بارز أبو سفيان حنظلة فصرعه حنظلة، فأتاه ابن شعوب وقد علاه، فأعانه حتى قتل حنظلة.
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: