زاد المعاد - هدي النبي في المعاملة والمشي

منذ 2014-09-17

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في معاملته

قال الإمام ابن القيم


كان أحسنَ النَّاسِ مُعاملةً. وكان إذا استلف سلفاً قضى خيراً منه. وكان إذا اسْتَسْلَفَ من رجل سَلَفاً، قضاه إياه، ودعا له، فقال: "بَارَكَ اللهُ لَكَ في أَهلِكَ وَمَالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأداءُ".
(1/165)
________________________________________
واستسلف من رجل أربعين صاعاً، فاحتاج الأنصاريُّ، فأتاه، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا جَاءَنَا مِنْ شَيءٍ بَعد" فقال الرجل: وأَرَادَ أن يتكلم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تَقُلْ إلا خَيراً، فَأَنَا خَيرُ مَن تَسَلَّفَ " فأعطاه أربعين فضلاً، وأربعين سُلفة، فأعطاه ثمانين. ذكره البزار. واقترض بعيراً، فجاء صاحبه يتقاضاه، فأغلظ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهمَ به أصحابُه، فقال: "دَعُوهُ فَإنَّ لِصَاحِبِ الحَق مَقَالاً" واشترى مرة شيئاً وليس عنده ثمنُه فأُرْبِحَ فيه، فباعه، وتصدَّق بالربح على أرامل بني عبد المطلب، وقال: "لاَ أَشْتَرِى بَعْدَ هَذَا شيْئاً إلاَّ وَعِنْدِي ثمنُه" ذكره أبو داود، وهذا لا يُناقض الشراء في الذمة إلى أجل، فهذا شيء، وهذا شيء. وتقاضاه غريم له ديناً، فأغلظ عليه، فهمَّ به عمرُ بن الخطاب فقال: "مَهْ يَا عُمَرُ كُنْتُ أَحْوَجَ إَلى أَنْ تَأْمرني بِالْوَفَاءِ. وَكَانَ أَحْوَج إلَى أَنْ تَأْمُرَهُ بِالصَّبْرِ"، وباعه يهودي بيعاً إلى أجل، فجاءه قبل الأجل يتقاضاه ثمنَه، فقال: لم يَحِلَّ الأجلُ،
(1/166)
________________________________________
فقال اليهوديُّ: إنكم لَمطْل يَا بنَي عبدِ المطلب، فهمَّ به أصحابُه، فنهاهم، فلم يَزِدْه ذلك إلا حِلماً، فقال اليهودي: كُلُّ شيء منه قد عرفته من علامات النبوة، وبقيت واحدةٌ، وهي أنه لا تزيدُه شدةُ الجهل عليه إلا حلماً، فأردتُ أن أعْرِفَها، فأسلم اليهودي.
 

فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مشيه وحده ومع أصحابه
كان إذا مشى، تكفَّأ تكفُّؤاً، وكان أسرَعَ الناس مِشيةً، وأحسنَها وأسكنها قال أبو هريرة: ما رأيتُ شيئاً أحسنَ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأن الشمسَ تجري في وجهه، وما رأيتُ أحداً أسرع في مِشيته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأنما الأرضُ تُطوى له، وإنا لَنجْهَدُ أنفسَنا وإنه لغيرُ مُكْتَرِث. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مشى تكفَّأ تكفؤاً كأنما ينحطُّ مِنْ صَبَبٍ، وقال مرة: إذا مشى، تقلّع قلتُ: والتقلُع: الارتفاعُ من الأرض بجملته، كحال المنحط من الصبب، وهي مِشية أولي العزم والهِمة والشجاعة، وهي أعدلُ المِشيات وأرواحُها للأعضاء، وأبعدُها من مِشية الهَوَجِ والمهانة
(1/167)
________________________________________
والتماوت، فإن الماشيَ، إمَّا أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة واحدة، كأنه خشبة محمولة، وهي مِشية مذمومة قبيحة، وإمّا أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مِشيةٌ مذمومة أيضاً، وهي دالة على خِفَّة عقل صاحبها، ولا سيما إن كان يُكثرُ الالتفات حال مشيه يميناً وشمالاً، وإمّا أن يمشي هَوْناً، وهي مِشية عبادِ الرحمن، كما وصفهم بها في كتابه، فقال: {وَعِبَادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً} [ الفرقان: 63] قال غيرُ واحد من السلف: بسكينة ووقار من غير تكبُّر ولا تماوت، وهي مِشية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه مع هذه المِشية كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرضُ تُطوى له، حتى كان الماشي معه يُجْهِدُ نفسَه ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرُ مُكْتَرِثٍ، وهذا يدل على أمرين: أن مِشيته لم تكن مِشية بتماوت ولا بمهانة، بل مشية أعدل المشيات.والمشيات عشرة أنواع، هذه الثلاثة منها، والرابع: السعي. والخامس: الرَّمَلَ، وهو أسرعُ المشي مع تقارب الخُطَا، ويسمى: الخَبب، وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَّ في طَوافِهِ ثلاثاً، ومشى أربعاً.السادس: النَّسَلان، وهو العَدْو الخفيف الذي لا يُزعج الماشي، ولا يَكْرِثُهُ. وفي بعض المسانيد أن المشاة شَكَوْا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المشي في حجة الوداع، فقال: "اسْتَعِينُوا بالنَّسَلاَنِ".
(1/168)
________________________________________
والسابع: الخَوْزَلى، وهي مِشية التمايل، وهي مِشية، يقال: إن فيها تكسرا وتخنثاً.
والثامن: القهقرى، وهي المشية إلى وراء.
والتاسع: الجَمَزَى، وهي مِشية يَثِبُ فيها الماشي وثباً.
والعاشر: مِشية التبختر، وهي مِشية أُولي العجب والتكبُّر، وهي التي خَسَفَ اللهُ سبحانه بصاحبها لما نظر في عِطْفَيْهِ وأعجبته نفسُه، فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
وأعدلُ هذه المِشيات مِشية الهَوْنِ والتكفُّؤ.
وأما مشيه مع أصحابه، فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: "دعوا ظهري للملائكة" ولهذا جاء في الحديث: وكان يسوق أصحابه. وكان يمشي حافيا ومتنعلا، وكان يماشي أصحابه فرادى وجماعة، مشى في بعض غزواته مرة فدميت أصبعه، وسال منها الدم، فقال:
هل أنت أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
وكان في السفر ساقة أصحابه: يزجي الضعيف، ويردفه، ويدعو لهم، ذكره أبو داود 

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.

  • 2
  • 1
  • 10,409
المقال السابق
هدي النبي في النوم والانتباه
المقال التالي
هدي النبي في قضاء الحاجة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً