شعار: إعمل نفسك ميِّت!

منذ 2014-09-30

لم تعد قاعدة "إعمل نفسك ميِّت" مجرد إفيه ضاحك في فيلم كوميدي أو سخرية عابرة من عدم قدرة البعض على مواجهة مخاوفهم ولكنها صارت أصلًا ومنهجًا متبعًا يعيش نمط من البشر على أساسه ويحيون في ظلاله..

من العادات الطريفة لحيوان الأبصوم أو الفأر الجرابي وهو حيوان ينتمي إلى عائلة الشقبانيات، التي تتميز بوجود كيسٍ أو جيبٍ مُلتصِق ببطنه يحمل فيه صغاره - أنه يتظاهر بالموت عندما يحدِّق به الخطر!

إنه يُلقي بنفسه على الأرض وينفخ بطنه متوقفا تمامًا عن التنفس ومتقمصًا هيئة الجيفة متى استشعر مخلوقًا مفترسًا يتربص به.. أو خطرًا باديًا في الأفق يتهدَّده مراهِنًا على طبيعة بعض تلك الحيوانات التي تأبى افتراس الجيف ولا ترضى إلا بصيد طعامها..

لذلك فالأبصوم ببساطة...!

بيعمل نفسه ميِّت!

يشبه هذا السلوك ما أورده بعض الرحالة عن أهل بعض القبائل البدائية ممن يسكنون الأحراش والمناطق التي تمتلىء بالكواسر والضواري؛ حيث يتصنَّعون الموت إذا بدت لهم بعض تلك السباع عزيزة النفس التي يعلم عنها أهل تلك الغابات أنها لا تأكل الجيف وتعاف الموتى وتأنف نفوسها من إتيان الجثث الهامدة..

من هنا يرقدون في أماكنهم ويحبسون أنفاسهم ولا يحركون ساكنًا حتى يمرّ السبع بكبرياءٍ مرفوع الرأس لا يُعيرهم انتباها..

لعل تلك العادات والحِيَل هي أصل ذلك الإفيه الشهير للممثل الراحل علاء ولي الدين رحمه الله - أثناء تلقيه الضربات الثقيلة من بعض شريري الفيلم مفتولي العضلات فيقول لرفيقه بصوتٍ مرتعش: "إعمل نفسك ميِّت.. إعمل نفسك ميِّت"...!

لكن في الحقيقة لم تعد قاعدة "إعمل نفسك ميِّت" مجرد إفيه ضاحك في فيلم كوميدي أو سخرية عابرة من عدم قدرة البعض على مواجهة مخاوفهم ولكنها صارت أصلًا ومنهجًا متبعًا يعيش نمط من البشر على أساسه ويحيون في ظلاله..

نمط المتماوتين..

أولئك الذين يحلو لهم صمت القبور حين يلزم الكلام ويروق لهم رقود الموتى، وسكون المتوفين حين يستلزم الأمر بيانًا أو يتعيَّن عليهم صدعًا وبلاغًا، ويظنون أنهم بذلك التماوت قد نجوا من كواسر البشر وضواري الإنس، ولا يدري هؤلاء أن تلك الضواري البشرية لا يمتلك كثير منها عِزَّة السباع الحيوانية وأنها لن تتورع كثيرًا أو تأنف من إتيان جثثهم المتماوتة..

إعمل نفسك ميِّت هو أيضًا شعار كل متعصِّب أعمى الهوى عينيه عن رؤية عيب متبوعه، وهو خيار كل منحازٍ بعيدٍ عن الإنصاف والتجرّد حين يصدر ممن يتعصّب له أو لهم نفس الخلل أو الخطأ الذي طالما ملأ الأرض صياحًا واعتراضًا من قبل لما رآه في غيره..!

إعمل نفسك ميِّت هو كذلك سلوك كل عنيد مستكبر مستعل قال الله عن مثله {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف:146]..

إعمل نفسك ميِّت هو منهج من جحدوا بالحق واستيقنته أنفسهم حتى إذا قيل لهم اتقوا الله وأنصفوا أخذتهم العِزَّة بالإثم ولم تسمع منهم إلا صمتًا إن لم تسمع مكابرة وغيًا..

إعمل نفسك ميِّت هو سبيل أصحاب نفسية الضباع التي لا تقرب إلا الكسير لتنقض عليه وتفترسه، ولا تأتي إلا الميتة فتنهشها بينما تراها أجبن المخلوقات في مواجهة صاحب البأس.. الذي ما إن يحمِّر لها العينين ويزمجر لها بالوعيد حتى تخنس وتنزوي مرمقة إِيَّاه من بعيد والذل والهوان يقطر من نظراتها..

إعمل نفسك ميِّت هو خيار كل متناقض كان يتسلّى بالصدع بالحق في وجه من يراه ضعيفًا قد أمِن عقوبته فاستأسد وأرغى وأزبد؛ فلما بدت الضراء وتكشّفت البأساء خنس وكتم صوته وقصف قلمه وابتلع لسانه ولم يستطع استعماله في الجهر بنفس الحق حين صار للحق ثمن وحين أصبح الصدع به مكلفًا..

إن نكير المرء السابق يضع عليه مسؤولية أخلاقية خصوصًا حين يجبن عن مثله مع وجود نفس المُبرِّرات فقط لأنه خائف..

والخوف شعور إنساني منه ما هو جبلي فطري فليس كل خوف جبن وليس كل خائف جبانًا رعديدًا..

{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45]..

من القائلان؟!

من اللذان خافا؟

إنهما نبيان مكلمان أحدهما رسول من أولي العزم ومن أقوى الخلق في الحق..

نعم ... لقد خاف موسى وخاف هارون وخاف غيرهما من الصالحين لكن خوفهم لم يثنهم عن قولة حق وإقدام صدق..

فقط حين يكسر الخوف الهِمة ويُخرِس اللسان ويكتم الصوت - يكون ذلك هو الجبن والخور..

الخوف شعور مُعتبر خصوصًا ما كان منه جبليًا لكنه إن عطل مروءة الإنسان وأكسبه جبن الضباع جنبًا إلى جنبٍ مع خستها ودناءة صنيعها مع الضعيف فحينئذٍ لا يكون الخوف معتبِرًا ولا مقدرًا..

هنا يبرز شعار حيوان الأبصوم من جديد ليكون الخيار الأوحد لهذا النمط.. شعار: إعمل نفسك ميِّت!
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 2
  • 0
  • 2,319

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً