قضايا الحاكمية تأصيل وتوثيق - (28) حالات التَّغلُّب وطرائقُه
حالاتُ التَّغلُّب جميعُها باستقصاءٍ واستيعاب.. لِتكون أبلغَ في تصوُّرِها، وأوضحَ في تأمُّلِها، وأوقعَ في تَنزُّلِها.
بالاستقراء والتَّتبُّع لكلام أهل العلم فإن التغلُّب والاستيلاء في لسانهم له ثلاثةُ أحوال:
- الحالة الأولى: التغلُّب على الحاكم المُتمكِّن وقهرُه، والاستيلاءُ على مُلكِه. وهذه على ثلاثة أقسام:
* الأول: أن يكونا -المُتغلِّب والمُتمكن- عَدْلَين، وينقسم الناس عليهما، جماعةٌ تنصرُ هذا، وأخرى تَنصر ذاك. فالذي نصَّ عليه الإمامُ أحمد رحمه الله وكثيرٌ من العلماء أنَّ الحُكم والبَيعة يكونان لمَن غَلب. "واستدلَّ أحمدُ رحمه الله، بأن ابنَ عمر رضي الله عنهما صلَّى بأهل المدينة في زمن الحرَّة، وقال: نحن مع مَن غَلب" (أبو يعلى رحمه الله، في الأحكام السلطانية).
* الثاني: -وهو محور سلسلتنا- أن يكون المُتغلِّبُ فاسقًا، والمُتمكّنُ عدْلًا، فلا يجوزُ القيامُ مع المُتغلِّب على العدْل، ولاتنعقد له إمامة. بل يجب دفعُه، ونُصرة العدْلِ عليه. قال الخرشي في شرحه على مختصر خليل: "رَوى ابنُ القاسم عن مالك: إن كان الإمامُ مثلَ عمر بن عبد العزيز، وجبَ على الناس الذَّبُّ عنه والقتال معه، وأما غيره فلا، دعْه وما يُراد منه". وقال الشرواني الشافعي، في حاشيته على تحفة المحتاج: "أمَّا الِاستِيلَاءُ عَلَى مَن كَانَ إمامًا بِبَيْعَةٍ أو عَهْدٍ، لَمْ تَنْعَقِد إمَامَةُ الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهِ". وفي نوازل البُرزُلي رحمه الله: "قال سحنون: وإن طلَبوا الوالي الظالم، فلا يجوز لك الدفعُ عنه، ولا القيامُ عليه، ولا يَسعك الوقوف عن العدْل، كان هو القائم أو المَقوم عليه".
* الثالث: أن يكونا مُتغلِّبين، بأن يقوم أحدُهما على الآخر، هذا الآخرُ تغلَّب على غيره، واستتبَّ له المُلك. فقد قال فقيه الشافعية، ابنُ أبي الخير العمراني، في كتابه الانتصار: "فقام رجلٌ له شوكة، وفيه شروط الإمامة فقهر الناس بالغلبة، فأقام فيهم الحقَّ، فإن إمامتَه تَثبت، وتجب طاعتُه، والدخولُ تحت حكمه؛ لأن المقصود قد حصل بقيامه، إلا إن قَهرَه مَن هو بمثل صفته، وصارت له الشوكةُ والغلبة، فإن الأول يُخلع، ويصير الثاني أولى بالطاعة، لما ذكرنا في الأول".
- الحالة الثانية: التغلُّب على حُكم الناس، وتملُّكهم عنوةً، في عدم وجود حاكم أو خليفة. قال ابنُ أبي الخير الشافعي، في كتابه الانتصار: "وقال أصحابنا -الشافعية-: وقد ثبتت الإمامةُ من وجهٍ غير ما تقدَّم ذكره، فإن لم يكن هناك إمامٌ، فقام رجلٌ له شَوكة، وفيه شروطُ الإمامة، فقهر الناس بالغلبة، فأقام فيهم الحق، فإن إمامته تثبت وتجب طاعته، والدخولُ تحت حكمه، لأن المقصود قد حصل بقيامه".
وهذا النوع، مَعنيٌّ كثيرًا على لسان أهل العلم، وهو الذي ترخَّصوا في شروطه -أحيانًا- لعدم وجود إمامٍ أصلًا، فلا شكَّ أن الترخُّص في شروطه في نفسه ها هنا أقلُّ ضررًا من شيوع الفوضى، وحلول الفِتن والوَيلات.. حتى تَستقرَّ الأمور، ويَسعى الناسُ لبَيعة صالحٍ عدْل. وفي مثل هذه الحالة، يقول شيخ الإسلام في فتاويه: "قال بعضُ العقلاء: ستُّون سَنة، من سلطانٍ ظالمٍ؛ خيرٌ من ليلةٍ واحدةٍ بلا سلطان".
- الحالة الثالثة -وقليلًا ما يَذكرها الفقهاء-: التغلبٌ على إحدى الإمارات التابعة لدولة الحاكم المُتمكّن. لكن يرتضيه الإمامُ والخليفة، لمصلحةٍ يراها في هذا الأمير المُتغلِّب، وسُمِّيت هذه الإمارة تغلبًا؛ لأنها ليست باختيار أهل البلدة. يقول الماوردي رحمه الله، في الأحكام السلطانية: "وأما إمارةُ الاستيلاء التي تُعقد عن اضطرارٍ، فهي: أن يستولي الأميرُ بالقوة، على بلادٍ يُقلِّده الخليفةُ إمارتها، ويُفوِّضُ إليه تدبيرَها وسياستَها، فيكون الأميرُ باستيلائه؛ مُستبدًا بالسياسةِ والتدبير والخليفةُ بإذنه مُنفذًا لأحكام الدين.. ليخرج مِن الفساد إلى الصحة، ومن الحظر إلى الإباحة. وهذا وإن خرج عن عُرف التقليد المطلق، في شروطه وأحكامه، ففيه من حفظ القوانين الشرعية، وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يُترك مُختلًّا مَخذولًا، ولا فاسدًا مَعلولًا. فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار، ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار، لوقوع الفَرق بين شروط المُكنة والعجز".
هكذا هي حالاتُ التَّغلُّب جميعُها، باستقصاءٍ واستيعاب.. لِتكون أبلغَ في تصوُّرِها، وأوضحَ في تأمُّلِها، وأوقعَ في تَنزُّلِها.
أرشدنا اللهُ للهُدى والصواب، وجعلنا من أولي الألباب.
- التصنيف: