الأحكام السلطانية للماوردي - (73) حمى الموات (1)
ضمَّ جناحك عن الناس، واتَّقِ دعوة المظلوم فإنَّ دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبالك، فالكلأ أهون عليَّ من الدينار والدرهم.
الباب السادس عشر: في الحمى والأرفاق
وحمى الموات (1)
وحمى الموات هو المنع من إحيائه إملاكًا؛ ليكون مستبقى الإباحة لنبت الكلأ ورعي المواشي.
قد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وصعد جبلًا بالبقيع.
قال أبو عبيد: هو النقيع[1]بالنون[2].
وقال: «
»[3].وهو قدر ميل في ستة أميال حماه لخيل المسلمين من الأنصار والمهاجرين، فأمَّا حمى الأئمة من بعده، فإن حموا به جميع الموات أو أكثره لم يجز؛ وإن حموا أقله لخاص من الناس أو لأغنيائهم لم يجز.
وإن حموه لكافَّة المسلمين أو للفقراء والمساكين ففي جوازه قولان:
أحدهما: لا يجوز ويكون الحمى خاصًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لرواية الصعب بن جثامة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حمى البقيع قال: «
»[4].والقول الثاني: أن حمى الأئمة بعده جائز كجوازه له؛ لأنه كان يفعل ذلك لصلاح المسلمين لا لنفسه، فكذلك مَنْ قام مقامه في مصالحهم، قد حمى أبو بكر رضي الله عنه بالربذة لأهل الصدقة، واستعمل عليه مولاه أبا سلامة.
وحمى عمر رضي الله عنه من الشرف مثل ما حماه أبو بكر من الربذة، وولى عليه مولًى له يقال له: هني، وقال: يا هني ضمَّ جناحك عن الناس، واتَّقِ دعوة المظلوم فإنَّ دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبالك، فالكلأ أهون عليَّ من الدينار والدرهم، والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا[5].
فأمَّا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
»، فمعناه: لا حمى إلَّا على مثل ما حماه الله ورسوله للفقراء والمساكين ولمصالح كافَّة المسلمين؛ لا على مثل ما كانوا عليه في الجاهلية من تفرُّد العزيز منهم بالحمى لنفسه، كالذي كان يفعله كليب بن وائل؛ فإنه كان يوافي بكلب على نشاز من الأرض، ثم يستعديه ويحمي ما انتهى إليه عواؤه من كل الجهات، ويشارك الناس فيما عداه، حتى كان ذلك سبب قتله، وفيه يقول العباس بن مرداس "من الطويل":كما كان يبغيها كليب بظلمه *** من العز حتى طاح وهو قتيلها
على وائل إذ يترك الكلب نابحًا *** وإذ يمنع الأقناء منها حلولها
وإذا جرى على الأرض حكم الحمى استبقاء لمواتها سابلًا ومنعًا من إحيائها ملكًا روعي حكم المحمي، فإن كان للكافَّة تساوى فيه جميعهم من غنيّ وفقير ومسلم وذمي في رعي كلئهم بخيلهم وماشيتهم، فإن خص به المسلمون اشترك فيه أغنياؤهم وفقراؤهم، ومنع منهم أهل الذمة؛ وإن خص به الفقراء والمساكين منع منه الأغنياء وأهل الذمة، ولا يجوز أن يخص به الأغنياء دون الفقراء، ولا أهل الذمة دون المسلمين، وإن خص به نعم الصدقة أو خيل المجاهدين لم يشركهم فيه غيرهم، ثم يكون الحمى جاريًا على ما استقرَّ عليه من عموم وخصوص، فلو اتَّسع الحمى المخصوص لعموم الناس جاز أن يشتركوا فيه؛ لارتفاع الضرر عمَّن خص به، ولو ضاق الحمى العام عن جميع الناس لم يجز أن يختص به أغنياؤهم، وفي جواز اختصاص فقرائهم به وجهان، وإذا استقرَّ حكمٌ لحمًى على أرض فأقدم عليها من أحياها ونقض حماها روعي الحمى، فإن كان مما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الحِمَى ثابتًا والإحياء باطلًا والمتعرّض لإحيائه مردودًا مزجورًا، لا سيما إذا كان سبب الحمى باقيًا؛ لأنه لا يجوز أن يعارض حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقض ولا إبطال.
وإن كان من حمى الأئمة بعده ففي إقرار إحيائه قولان:
أحدهما: لا يقر ويجري عليه الحمى كالذي حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حكم نفذ بحق.
والقول الثاني: يقر الإحياء ويكون حكمه أثبت من الحمى؛ لتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقوله: «
»[6]، ولا يجوز لأحدٍ من الولاة أن يأخذ من أرباب المواشي عوضًا عن مراعي موات أو حِمَى؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »[7].__________
(1) النقيع بالنون: موضع ينتقع فيه ماء فيكثر فيه الخصب.
(2) قال ابن مفلح الحنبلي: وللإمام أن يحمي بفتح أوله وضمه أي: يمنع أرضًا من الموات ترعى فيها دواب المسلمين التي يقوم بحفظها كخيل المجاهدين وإبل الصدقة وضوال الناس؛ لما روى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين. رواه أبو عبيد (المبدع: [5/ 264]).
(3) لم أقف عليه.
(4) صحيح: (رواه البخاري في (كتاب المساقاة [2370])، وأبو داود في (كتاب الخراج والإمارة [3083])، وأحمد [27809]).
قال الشافعي: يحتمل معنى الحديث شيئين؛ أحدهما: ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلَّا ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر: معناه: إلَّا على مثل ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الأوَّل ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي، وعلى الثاني يختص الحِمَى بمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخليفة خاصة، وأخذ أصحاب الشافعي من هذا أنَّ له في هذا قولين، والراجح عندهم الثاني، والأول أقرب إلى ظاهر اللفظ، لكن رجَّحوا الأول، والمراد بالحمى منع الرعي في أرض مخصوصة من المباحات، فيجعلها الإمام مخصوصة برعي بهائم الصدقة مثلًا، وأصل الحمى عند العرب أنَّ الرئيس منهم كان إذا نزل منزلًا مخصبًا استعوى كلبًا على مكان عالٍ، فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو من غيره فيما سواه، والحمى هو المكان المحمي وهو خلاف المباح، ومعناه: أن يمنع من الإحياء من ذلك الموات؛ ليتوفر فيه الكلأ، فترعاه مواش مخصوصة ويمنع غيرها، والأرجح عند الشافعية أن الحمى يختص بالخليفة، ومنهم من ألحق به ولاة الأقاليم، ومحل الجواز مطلقًا أن لا يضر بكافة المسلمين، واستدلَّ به الطحاوي لمذهبه في اشتراط إذن الإمام في إحياء الموات (انظر: فتح الباري: [5/ 44]).
(5) قال الشافعي في معني قول عمر: إني قد ظلمتهم، إنَّها لبلادهم قاتوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، إنهم يقولون: إن منعت لأحد من أحد فمن قاتل عليها وأسلم أولى أن تمنع له، وهذا كما قال: لو كانت تمنع لخاصة فلما كان لعامة لم يكن في هذا إن شاء الله مظلمة. وقول عمر: لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين بلادهم شبرًا، إني لم أحمها لنفسي ولا لخاصَّتي، وإني حميتها لمال الله أحمل عليه في سبيل الله، وكانت من أكثر ما عنده مما يحتاج إلى الحمى، فنسب الحمى إليها لكثرتها.
وقد أدخل الحمى خيل الغزاة في سبيل الله، فلم يكن ما حمي ليحمل عليه أولى بما عنده من الحمى مما تركه أهله، ويحملوه عليها في سبيل الله؛ لأنَّ كلًّا لتعزيز الإسلام، وأدخل فيها إبل الضوالّ؛ لأنها قليل لعوام من أهل البلدان، وأدخل فيها ما فضل من سهمان أهل الصدقة من إبل الصدقة، وهم عوام من المسلمين يحتاجون إلى ما جعل لهم مع إدخاله من ضعف عن النجعة ممن قلَّ ماله، وفي تماسك أموالهم عليهم غنًَى عن أن يدخلوا على أهل الفيء من المسلمين، وكل هذا وجه عام النفع للمسلمين (الأم: [4/ 48]).
(6) صحيح: (رواه مالك في (كتاب الأقضية من موطئه [1456])، وأبو داود في (كتاب الخراج والإمارة [3073])، والترمذي في (كتاب الأحكام [1378]).
قال الحافظ ابن حجر: حديث «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» البخاري من طريق عروة عن عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « »، قال عروة: وقضى بها عمر في خلافته. وأخرجه أبو يعلى والدارقطني والطيالسي وابن عدي من وجه آخر عن عروة، عن عائشة بلفظ: « »، وعن عبد الله بن عمرو أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ابن أبي مليكة، عن عروة، عن عبد الملك بن مروان عن أبيه به، ورجال إسناده ثقات، وفي الباب عن جابر أخرجه الترمذي والنسائي من رواية أيوب عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان عنه بلفظ: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» وخالفه وكيع عن هشام فقال عن ابن أبي رافع عن جابر، أخرجه ابن أبي شيبة وأخرجه ابن حبان من وجه آخر عن جابر، وعن فضالة بن عبيد رفعه: « » أخرجه الطبراني في الأوسط. وعن عمرو بن عوف كالأول أخرجه البزار وابن أبي شيبة والطبراني وابن عدي وعن ابن عباس نحوه، أخرجه الطبراني في الكبير (الدراية في تخريج أحاديث الهداية: [2/ 244])، والحديث صحَّحه الشيخ الألباني.
(7) صحيح: (رواه أبو داود في (كتاب البيوع [3477])، وأحمد [22573]).
قال الزيلعي: روي من حديث رجل، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث ابن عمر، فحديث الرجل أخرجه أبو داود في سننه في البيوع عن حريز بن عثمان عن أبي خداش بن حبان بن زيد عن رجل من الصحابة قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا أسمعه يقول: « » انتهى. ورواه أحمد في مسنده وابن أبي شيبة في مصنَّفه في الأقضية، وأسند بن عدي في الكامل عن أحمد وابن معين أنَّهما قالا في حريز: ثقة. وذكره عبد الحق في أحكامه من جهة أبي داود قال: لا أعلم رَوَى عن أبي خداش إلّا حريز بن عثمان، وقد قيل فيه: مجهول. انتهى. قال البيهقي في المعرفة:
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم ثقات، وترك ذكر أسمائهم في الإسناد لا يضرّ إن لم يعارضه ما هو أصحّ منه، انتهى.
وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه في سننه في الأحكام عن عبد الله بن خداش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» انتهى.قال عبد الحق في أحكامه: قال البخاري: عبد الله بن خداش عن العوام بن حوشب منكر الحديث، وضعَّفه أيضًا أبو زرعة وقال فيه أبو حاتم: ذاهب الحديث، انتهى كلامه، تركها ابن القطان عليه. انتهى.
وأمَّا حديث ابن عمر فرواه الطبراني في معجمه، حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا يحيى الحماني، ثنا قيس بن الربيع، عن زيد بن جبير، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار" انتهى (نصب الراية: [4/ 294])، والحديث صحَّحه الشيخ الألباني.
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
- التصنيف: