إحسان الظن بالله - (24) لماذا لا نستمتع بالنعم
كما يصدأ الحديد فإن أدوات تذوق النعم المركوزة في نفوسنا تصدأ! لذا فإن الله تعالى يذكرنا في مواضع كثيرة بهذه النعم التي فترت في حسنا ولم تعد تعني لنا شيئا: {أَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..}.
إخوتي الكرام لا زلنا نبني حبنا لله على أسس سليمة، منها تأمل نعمه سبحانه علينا.
بدأنا بذلك في الحلقة الماضية (حب بلا رجعة)، واليوم سنتعاون سوية لنحول البلاء إلى سبب لتذوق النعم التي فترت فينا حسنا.
إخواني وأخواتي تمر سنوات من حياتنا تجتمع لنا فيها أسباب كثيرة للسعادة، لكننا إن سألنا أنفسنا: هل نحن سعداء؟ فقد يأتي الجواب من أعماقنا: لستُ متأكداً!
هناك طموحات وتطلعات تشغل بالك لم تتحقق بعد، تصبح هي محط تركيزك.
أما ما اجتمع لديك من أسباب السعادة فقد فتر في حسك، وبهتت ألوانه وأصبح كالخلفية الجامدة غير المهمة في الصورة التي ينقصها محط تركيز العدسة, وهو هذه الطموحات التي لم تتحقق بعد.
كما يصدأ الحديد فإن أدوات تذوق النعم المركوزة في نفوسنا تصدأ! لذا فإن الله تعالى يذكرنا في مواضع كثيرة بهذه النعم التي فترت في حسنا ولم تعد تعني لنا شيئا: {أَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..} [لقمان:20]، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ . وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:32-34]، وآيات كثيرة عن السمع والبصر، والمسكن والملبس، والطعام والشراب، والنار والمعادن، والنوم والبعث بعده، والأزواج والأولاد وغيرها..
آيات كثيرة، حتى لا نزدري نعمة الله وننساها، لكننا مع هذا التذكير الإلهي قد لا نستمتع بهذه النعم، ليس الحديث هنا عن الاغتمام لمشاكل المسلمين والتألم لألمهم وتنغص العيش برؤية معاناتهم، فهذا مطلوب بالقدر الذي يدفع إلى العمل بإيجابية لمساعدتهم ونصرتهم، لكن الحديث هنا عن فقدان القدرة على تذوق النعم والشعور بمنة الله علينا فيها، وهذا داء يصيب النفس بغض النظر عن الاهتمام للمسلمين.
هذا الداء جزء من ظاهرة نفسية مرضية يعرفها المعالجون النفسيون بالــ(Cognitive Distortion)، والذي يترجم عادة إلى (التشويه المعرفي)، وقد يكون الأدق تسميته الخلل الإدراكي، وقد شرح الأخصائي (David Burns) هذه الظاهرة عام 1989 في كتابه (The Feeling Good Handbook)، حيث ذكر من أعراض الخلل الإدراكي ظاهرة الفلترة الذهنية، وهي عدم قدرة الفرد على ملاحظة النواحي الإيجابية في حياته بسبب انشغال ذهنه بمعكر بسيط نسبيًا، كمن لا يرى إلا خللاً بسيطًا في ثوب جميل نافع، هذه إخواني ظاهرة غير صحية تحتاج علاجًا، لكنها في الواقع قد تكون موجودة لدى أكثرنا.
إذا لم يفلح أحدنا في تذوق نعم الله عليه وقدرها حق قدرها فقد يبتليه الله تعالى بفقدان أحد هذه النعم.
والسعيد حينئذ من اتعظ ونبهه فقدان هذه النعمة إلى أن هناك أشياء كثيرة في حياته لا زال يمتلكها تستوجب شكر الله وتستحق أن نكون بها سعداء، يأتي البلاء ليزيل الصدأ عن أدوات استشعار النعم المركوزة في فطرتك، وينظفها ويعيد للحياة رونقها ويضفي عليها ألواناً بهيجة من جديد، بعد أن كانت خلفية باهتة رتيبة لا لون فيها! بعد أن كان الخلل الإدراكي يشغل الذهن عنها ويغض من قيمتها ويعكر رونقها بالتطلع إلى ما لم يتحقق بعد من طموحات، يأتي البلاء ليعلم الإنسان فن تذوق النعم!
كانت النعم لديك وفيرة، لكن قدرتك على تذوقها ضعيفة، فلم تحفل بها وتسعد كما يجب.
قد تقل النعم بالبلاء الذي أفقدك مالاً أو جاهًا أو صحة أو غيرها، لكن إن كنت من أهل الرضا وحسن الظن بالله وتأمل حكمته فإنك ستتنبه بالبلاء إلى الكثير الذي بقي لديك، وتستحي من الله أن لم تقدر نعمته عليك من قبل، فتكتسب فن تذوق النعم وتسعد وتطمئن.
نسأل الله أن يجعلنا من عباده الذين يُرزقون العافية ويشكرون.
والسلام عليكم ورحمة الله
- التصنيف:
- المصدر: