هل الإسلام دين حزنٍ بالفعل؟
ليس الحزن أمرًا مطلوبًا شرعًا، ولا ينبغي أن يقترن في حِسِّنا بالدين، وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان [متواصل الأحزان] ليس صحيحًا، وقد قال عنه ابن القيم في مدارج السالكين: "إنه حديث لا يثبت وفي إسناده من لا يعرف، وكيف يكون صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان؟ وقد صانه الله عن الحزن على الدنيا وأسبابها، ونهاه عن الحزن على الكفار، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فمن أين يأتيه الحزن؟ بل كان دائم البِشر ضحوك السن" انتهى كلامه رحمه الله.
إخوتي الكرام من الناس من يظن أن الدين يرتبط بالحزن، وأنه إن أراد أن يفرح فلا بد له أن يتناسى دينه قليلًا!
وهذا أحد المفاهيم الخاطئة التي ساهم بعض الوعاظ في نشرها. ويستدلون بكلامٍ لا يثبت عن قدواتنا، كما نُسِب إلى الحسن البصري أنه قال: "المؤمن يصبح حزينًا ويمسي حزينًا ولا يسعه غير ذلك"...!
وما نُسِب إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "كيف نفرح والموت من ورائنا والقبر أمامنا والقيامة موعدنا وعلى جهنم طريقنا وبين يدي الله موقفنا"...!
وما نُسِب إلى صلاح الدين أنه قال: "كيف أبتسم والمسجد الأقصى أسير؟".
روايات لا تثبت، ولو ثبتت فالحجة ليست فيها وإنما في قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
لذا.. فكلمتنا هذه هي لبيان أن الحزن بحدِّ ذاته ليس أمرًا محمودًا ولا مطلوبًا شرعًا.
كما أن الفرح بحد ذاته ليس مذمومًا ولا دليلًا على غفلتنا عن الآخرة وعدم اهتمامنا بهموم المسلمين.
سيقول قائل: كيف لا تريدنا أن نحزن؟ ألا ترى أوضاع المسلمين؟!
الجواب:
إخواننا المسلمون في أنحاء الأرض ليسوا بحاجةٍ إلى حزننا السلبي، بل قد أصبحنا نُخدِّر أنفسنا ونقنعها بأن اجترار الألم والهم يعفينا من شيءٍ من واجبنا تجاه إخوتنا، مع أننا لا نترجم حزننا هذا إلى عمل! ننظر إلى الصور والمقاطع المؤلمة ثم نطلق التنهيدات ونكتئب، ثم تتعكّر حياتنا ونحس بالمهانة والفشل لأوضاع أمتنا، وتنكسِر هِمّتنا لممارسة مهماتنا في مِهننا ودراستنا وعلاقاتنا الأسرية والاجتماعية ونحس فيها باللا جدوى، ثم تتبلّد أحاسيسنا.
فإذا ما تاقت أنفسنا للفرح أحسسنا أنه لا بد من التغافل عن هموم أمتنا بل وعن ضوابط شريعتنا ونقول: "كفى كآبةً، كفى نكدًا" - عباراتٌ أصبحت تعني عند البعض: "كفى دِينًا وكفى إحساسًا بالانتساب لأمة الإسلام"! فلا يفرحون بعدها إلا بمعصية الله، لأن الطاعة مقترنة في حسهم بالكآبة والحزن... وهكذا، في انتظار نكبةٍ جديدةٍ لنجتر عندها حزنًا سلبيًا مرةً أخرى، نقنع به أنفسنا أننا لا زِلنا منتسبين إلى ديننا وأمتنا.
وحقيقة الأمر أننا لا بحزننا السلبي هذا أطعنا الله ولا بفرحنا المتفلِّت من ضوابط الشريعة أطعناه، وعلى الحالين لم ننفع أمتنا.
إخوتي.. علينا أن ننظر إلى الحزن والهم بإيجابية على أنها مشاعر مؤقتة، تعدل المسار وتتحول إلى قوةٍ دافعة لننطلق في الحياة بنشاط وشعور بالمسؤولية وترفُّع عن السفاسف. كلما مِلنا إلى حياة الغفلة نتذكر آلام أمتنا فنترفع عن الدون ونتلمّس طريق المعالي. حتى إذا قطعنا شوطًًا أحسسنا بالابتهاج وفرحنا فرحًا حقيقيًا في محلِّه، فرحًا بالطاعة، وليس الضحكات الهستيرية التي يُطلِقها الغافلون ليقنعوا أنفسهم ومن حولهم أنهم فرحون بينما قلوبهم خاوية.
الحزن محمودٌ إذا تحوّل إلى وقودٍ يسير في مساربه المناسبة فيدفعك إلى الأمام، فإذا لم تُسَيِّره في هذه المسارب والأعمال المنتجة فإنه يحرقك!
الحزن محمود بمقدار ما يوجد لديك اليقظة ويؤلمك عند التقصير ويعكر عليك لذة المعصية. إذا عصيتَ أحسستَ بالذنب والتقصير في حق أمتك وجراحاتها، فتحزن، فيدفعك هذا إلى الطاعة فتفرح بطاعتك. وبهذا تقترن الطاعة بالفرح والمعصية بالحزن، وليس العكس كما هو حالنا الذي ذكرناه!
علينا أن نتذكّر أن الذي يحصل للمسلمين هو كله بقدر الله {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام من الآية:112]... قدَّره الله على الأمة إذ قصّرت في القيام بأمره تعالى.. وقد قدَّره لحكمة: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد من الآية:4]... فعلينا أن نتلمّس الطريق لننجح في الابتلاء، لا أن نجتر الأحزان.
ليس الحزن أمرًا مطلوبًا شرعًا، ولا ينبغي أن يقترن في حِسِّنا بالدين، وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان [متواصل الأحزان] ليس صحيحًا، وقد قال عنه ابن القيم في مدارج السالكين: "إنه حديث لا يثبت وفي إسناده من لا يعرف، وكيف يكون صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان؟ وقد صانه الله عن الحزن على الدنيا وأسبابها، ونهاه عن الحزن على الكفار، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فمن أين يأتيه الحزن؟ بل كان دائم البِشر ضحوك السن" انتهى كلامه رحمه الله.
ولابن تيمية رحمه الله كلام جميل في الجزء العاشر من الفتاوى قال فيه: "وأما الحزن فلم يأمر الله به ولا رسوله، بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين".
يعني لا تُبرِّر لنفسك بأن حزنك ليس من أجل نفسك بل لأوضاع المسلمين. حتى هذا لا يُبرِّر لك غلبة الكآبة عليك باستمرار - لاحظ قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
هذا بعد معركة أحد وما تعرّض له المسلمون فيها من مصائب، ومع ذلك يقول الله لهم: {وَلَا تَحْزَنُوا}، وقوله تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل من الآية:127]، وقوله: {فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} [يس من الآية:76].
يعزّ على النبي أن يكفُر الناس ويرفضوا دعوته فيأتيه الأمر من الله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}.
وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة من الآية:40]... وغيرها من الآيات.
قال ابن تيمية: "وذلك لأنه -أي: الحزن- لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة، فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به".
ثم بيَّن رحمه الله أن الحزن المحدود على مصائب الدنيا لا إثم فيه ما لم يقترن بإثم أو تسخط، كمن يحزن على فقد ولده، وأن الذي يحزن على مصائب المسلمين فإنه لا يُثاب على الحزن نفسه، وإنما على خيرية قلبه وحبه لإخوانه المسلمين. فهناك أعمال قلوب يُثاب المسلم عليها، كحب الله وخشيته وحب المسلمين. أما الحزن فليس من أعمال القلوب التي يُثاب المرء عليها. فلا ينبغي لمسم أن يستزيد من الحزن ويلازمه ويظن أنه بذلك مأجور عليه.
ثم ختم ابن تيمية كلامه بقوله: "ولكن الحزن على ذلك -يعني مصائب المسلمين- إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرّة نهي عنه".
نعم، هذا هو الحزن السلبي الذي نتكلم عنه. الحزن الذي يُحطِّم المعنويات ويُقعِد عن العمل المنتج، هذا هو الحزن الذي يريده أعداؤنا لنا!
لذا.. فإن من مقاصد الشيطان إدخالَ الحزن على المؤمنين، ومن مقاصد الشريعة إدخالُ الفرح والسرور على المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10].
من مقاصد أولياء الشيطان أن يوقعوك في الحزن والمشقة؛ قال تعالى فيهم: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران من الآية:118]، أي يتمنون لكم العنت والمشقة.
في الإعلام العالمي، أعداؤنا يحجبون خسائرهم لأنهم لا يريدون للمسلمين أن يفرحوا وترتفع معنوياتهم.
بينما لا حد ولا قيد على تناقل ما يُكرِّس الهم والغم والحزن من صورٍ ومقاطع. ينشرون صورًا لتعذيب المسلمين وإهانتهم في السجون. هذه ليست تسريبات، بل عمل ممنهج لتحطيم معنوياتك أيها المسلم وجعلك تعيش حزنًا سلبيًا مستمرًا.
بينما لا يسمح إعلامهم بعرض صورٍ فظيعة لقتلاهم، ويقتصِرون على صور الجنائز وكفكفة الدموع بالمقدار الذي يشحن الناس ويشعرهم بالرغبة في الانتقام دون تحطيم معنوياتهم.
في المقابل، إدخال السرور على المسلم من مقاصد الشريعة. في الحديث الذي حسّنه الألباني جعل النبي أول عمل في أحب الأعمال إلى الله: « ».
هل تجد آيةً واحدةً أو حديثًا واحدًا يأمر بالحزن أو يمدحه؟ بل على العكس تجد آياتٍ كثيرةٍ تنهى عنه.
ونبي الله صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الهم والحزن: « »، ويُعلِّمنا أدعية تذهب بالحزن.
لن تقوم قائمة الإسلام على أكتاف أناس حزينين مكتئبين بؤساء! وعندما نستعرض ما فعله أسلافنا الذين يُنسب إليهم الحزن الدائم على لسان بعض الوعاظ... عندما نستعرض إنجازاتهم العظيمة في فترات وجيزة، فتحوا البلاد وجذبوا الناس إلى دين الله وتفوقوا في مجالات الحياة كلها... نخلُص إلى نتيجة أنه من المستحيل قطعًا أن من قام بهذا كله أصحاب نفوس تسيطر عليها الكآبة!
« » (مُتفقٌ عليه)... عامة الناس لا يجذبهم شيء إلى دين الله مثل أن يروا بسمات الطمأنينة والرضا على وجوهنا، ولا ينفرهم عن دين الله شيء مثل أن يروا وجوهنا كئيبة كأنها تروي للناس قصة صفقة "خاسرة" دخلناها مع الدين حاش لله!
الفرح هو الذي يجب أن يقترن بالطاعة والتدين، لا الحزن المستمر، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل من الآية:97].
الاستبشار هو الذي يجب أن يقترن بالطاعة. قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64].
نعيم الروح هو الذي يجب أن يقترن بالطاعة؛ قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13-14].
قال ابن القيم: "قال: هذا في دورهم الثلاث ليس مختصًا بالدار الآخرة وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما هو في الدار الآخرة وفي البرزخ دون ذلك... فالأبرار في نعيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة. والفجار والكفار في جحيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة".
نعم.. الفرح هو الذي يجب أن يقترن بالطاعة والتدين؛ فالله تعالى أمر بالفرح ونهى عن الحزن، أمر بالفرح فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس من الآية:58].
أما قول قوم قارون له: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص من الآية:76].
فلا يعني ذم الفرح عمومًا، بل فرح الكِبر والغطرسة والاستعلاء، قال تعالى: {ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75]؛ أي: بفرحكم الذي كنتم تفرحونه في الدنيا، بغير ما أذن لكم به من الباطل والمعاصي.
خلاصة القول إخواني.. الإسلام دين الفرح، ليس الفرح الأهوج الفارغ المصطنع، بل الفرح بالطاعة والمباح. وليس الحزن مطلوبًا منَّا، ولا نؤجر عليه، ولا يسقط عنَّا شيئًا من واجباتنا تجاه ديننا وأمتنا. فلا يُحسَن بنا أن نشحن أنفسنا بمزيدٍ من الحزن، بل أن ننطلِق لخدمة ديننا بهِممٍ عالية، وأرواحٌ مُشرِقة، ونفوسٍ مستبشرة..
والسلام عليكم ورحمة الله.