ثقافة التلبيس - (1) مصطلح (أهل القبلة)!!

منذ 2014-10-23

يستعمل دعاة التقريب بين أهل السنة والمبتدعة هذا المصطلح كثيرًا في كتاباتهم محاولة منهم خلط الحق بالباطل وتمييع قضايا (السنة) و(البدعة) وما يترتب عليها من أحكام.

يستعمل دعاة التقريب بين أهل السنة والمبتدعة هذا المصطلح كثيرًا في كتاباتهم محاولة منهم خلط الحق بالباطل وتمييع قضايا (السنة) و(البدعة) وما يترتب عليها من أحكام. ويزعمون أنه يجب أن تلتقي طوائف الأمة الإسلامية وتتآلف مع بقاء كلٍ منها على عقيدته وآرائه يعلنها على الملأ، وينشرها مهما كانت! ما دام يصدق عليه أنه من (أهل القبلة)؛ ويعنون بهم من يستقبل القبلة في صلاته مهما كانت عقائده (كفرية) أو مخالفة للكتاب والسنة دون تفريق. ولا يرضون بعد هذا لأحدٍ أن يرد على أهل البدع أو يكشف انحرافاتهم؛ لأن هذا عندهم مما يفرق (أهل القبلة)!

ويجهل هؤلاء الواهمون أو يغفلون عدة حقائق تبين هذا المصطلح وما يراد به عند أهل العلم. هذه الحقائق باختصار هي:

1- أن هذا المصطلح مقتبس من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» (أخرجه البخاري).

2- أن المقصود من هذا الحديث كما بين العلماء أن المسلم المصلي لا يجوز تكفيره وإخراجه من الإسلام؛ بل يبقى على هذا الأصل؛ إلا أن يأتي بأمر مكفِّر. قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: "فيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك" (فتح الباري:1/592).

ولهذا فقد أخرج البخاري عقب هذا الحديث ما يوضحه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله». فهذا الحديث متعلق بمسائل التكفير، وأنه لا يجوز تكفير المسلم وإن كان مبتدعًا بكل ذنب، ما لم تكن بدعته مكفرة.

3- قال الطحاوي في عقيدته: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين". قال ابن أبي العز في شرحه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا». ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحلَّه.

والمراد بقوله: أهل قبلتنا من يدَّعي الإسلام، ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: ولا نكفرِّ أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه" (شرح العقيد الطحاوية، ص 426-427، ط: التركي والأرنؤط).

وقال في الموضع المشار إليه (ص 432-434): "قوله: "ولا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله: أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين" يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.

واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير، بابٌ عظُمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.

فطائفة تقول: لا نكفِّر من أهل القبلة أحدًا، فتنفي التكفير نفيًا عامًا، مع العلم بأن في أهل القبلة: المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.

وأيضًا: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتل كافرًا مرتداً. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب (السنة) بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]. ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحدًا بذنب. بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب؛ كما تفعله الخوارج...". انتهى كلام ابن أبي العز رحمه الله.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك قولان؛ كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعضهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يُعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يُطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والإلحاد" (الفتاوى:7/618-619).

وقال أيضًا: "قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل، إذا كان فعلاً منهيًا عنه؛ مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان، وأما إن تضمن ترك ما أمر الله به من الإيمان؛ مثل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت؛ فإنه يكفر به" (الفتاوى:20/90).

قال الدكتور إبراهيم الرحيلي معلقًا: "لكن ينبغي مراعاة أن لا يكون الذنب منصوصًا على الكفر به كفرًا أكبر؛ كترك الشهادتين، أو ترك الصلاة.. وأن لا يكون الذنب مما ينافي الإيمان بالله" (موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع:1/182).

وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله رادًا على بعض من اغتر بمقالة (عدم تكفير أهل القبلة) ليحملها على الجهمية: "وأما ما ذكرته من استدلال المخالف بقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلَّى صلاتنا» وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فإن هذا فرضه ومحلّه في أهل الأهواء من هذه الأمة ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام ؛ كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون؛ لأن أصل الإيمان الثابت لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله، والعمدة استصحاب الأصل وجودًا وعدمًا، لكنهم يُبَدّعون، ويضللون، ويجب هجرهم، وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف. وأما الجهمية وعباد القبور: فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام" (إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية:ص 157).

وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: "الآن لما فشا الجهل واشتدت غربة الدين، ظهر ناس من الذين يتسمون بالعلم، ويقولون: لا تكفِّروا الناس، يكفي اسم الإسلام، يكفي أنه يقول: أنا مسلم، ولو فعل ما فعل، لو ذبح لغير الله، لو سب الله ورسوله، لو فعل ما فعل، ما دام أنه يقول: أنا مسلم فلا تكفره!! وعلى هذا يدخل في التسمي بالإسلام الباطنية والقرامطة، ويدخل فيه القبوريون، ويدخل فيه الروافض، ويدخل فيه القاديانية، ويدخل فيه كل من يدعي الإسلام، يقولون: لا تكفروا أحدًا، ولو فعل ما فعل، أو اعتقد ما اعتقد، لا تفرقوا بين المسلمين. سبحان الله! نحن لا نفرق بين المسلمين، ولكن هؤلاء ليسوا مسلمين؛ لأنهم لما ارتكبوا نواقض الإسلام خرجوا من الإسلام، فكلمة لا تفرقوا بين المسلمين، كلمة حق والمراد بها باطل، لأن الصحابة رضي الله عنهم لما ارتد من ارتد من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوهم، ما قالوا: لا تفرقوا بين المسلمين؛ لأنهم ليسوا مسلمين ما داموا على الردة، وهذا أشد من أنك تحكم لكافر بالإسلام، وسيأتيكم أن من الردة، من لم يكفر الكافر، أو شك في كفره، فهذه المسألة وهي من لم يكفِّر الكافر أو شك في كفره فهو كافر مثله، وهؤلاء يقولون لا تكفروا أحدًا ولو فعل ما فعل، ما دام أنه يقول: لا إله إلا الله، أنتم واجهوا الملاحدة واتركوا هؤلاء الذين يدعون الإسلام!! نقول لهم: هؤلاء أخطر من الملاحدة؛ لأن الملاحدة ما ادعوا الإسلام، ولا ادعوا أن الذي هم عليه إسلام، أما هؤلاء فيخدعون الناس ويدّعون أن الكفر هو الإسلام، فهؤلاء أشد من الملاحدة، فالردة أشد من الإلحاد والعياذ بالله، فيجب أن نعرف موقفنا من هذه الأمور ونميزها ونتبينها؛ لأننا الآن في تعمية، فهناك ناس يؤلفون ويكتبون وينتقدون ويحاضرون، ويقولون: لا تكفروا المسلمين، ونقول: نحن نكفر من خرج عن الإسلام، أما المسلم فلا يجوز تكفيره" (سلسلة شرح الرسائل:ص 213-215).

قلت: فحق بعد هذا أن يقال لدعاة (التقريب الموهوم) ما قاله المتنبي:

فإن الجرح ينفر بعد حين *** إذا كانَ البناءُ على فساد!

فلا لقاء ولا تآلف ولا تقارب بين الفرق الإسلامية ما لم تلتقِ على عقيدة السلف ومنهجهم. وأما بغير ذلك فستبقى حزازات النفوس كما هي.

 

والخلاصة: أن هذا المصطلح لا يؤيد دعاوى العصرانيين ونحوهم ممن يريد أن يُلبس الحق بالباطل، ويساوي بين أصحاب الصراط المستقيم بغيرهم من المبتدعة المنحرفين. بل تبقى أحكام المبتدعة كما هي: من ارتكب منهم مكفرًا كفرناه، ومن لم تخرجه بدعته عن الإسلام ناصحناه وبينّا انحرافه وخطأه، وتعاملنا معه بما هو مقرر في كتب أهل العلم (انظر مثلاً: رسالة الدكتور إبراهيم الرحيلي (موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع)).

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: كيف يتعامل الإنسان الملتزم بالسنة مع صاحب البدعة؟ وهل يجوز هجره؟

فأجاب: "أقول: إن البدع تنقسم إلى قسمين: بدع مكفرة، وبدع دون ذلك، وفي كلا القسمين يجب علينا نحن أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق ببيان الحق دون أن نهاجم ما هم عليه إلا بعد أن نعرف منهم الاستكبار عن قبول الحق؛ لأن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فندعوا أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته، والحق مقبول لدى كل ذي فطرة سليمة، فإذا وُجد العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم، على أن بيان باطلهم في غير مجادلتهم أمر واجب. أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة ؛فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره: إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه..." (الفتاوى:1/35).

  • 1
  • 0
  • 11,517
 
المقال التالي
(2) مصطلح (الإصلاح)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً