هل تناولت مخدرك وخدرت غيرك اليوم؟
أتحدث هنا عن أولئك المخدرون في الأماني الغائبون في سحائب الأحلام والأوهام..
استكمالًا للمنشور السابق والذي تحدثت فيه عن مدمني اليأس وناشري التيئيس ومعتنقي الإحباط وقطع الأمل في الإصلاح، أتحدث هنا عن النموذج المضاد لهم..
أولئك المخدرون في الأماني.. الغائبون في سحائب الأحلام والأوهام..
يتكامل هؤلاء -وأحيانًا يشتركون- مع نمط آخر، وهو نمط تجار المخدرات الفكرية وبائعي الأوهام الواقعية والمتبرعين بالأحلام الخيالية الوردية!
إنهما نمطان مرتبطان ببعضهما البعض بشكل وثيق، وتستطيع أن تعتبرهما يتكافلان ويتكاملان ولا غنى لأحدهما عن الآخر!
المخدِّر والمخدَّر (بكسر الدال المشددة في الأول وفتحها في الثاني)
ثنائية متلاصقة ومتلازمة لا غنى لأحد طرفيها عن الآخر!
أما المخدِّر (بكسر الدال) فهو ذلك الشخص الذي يصر دومًا على خداع النمط الثاني -المخدَّر- من خلال بث الأوهام الكاذبة والآمال الواهية وصياغتها بطريقة محكمة، تظهرها على أنها حقائق لا تقبل النقاش، وتوحي بأن تحققها وظهورها للعيان ما هو إلا مسألة وقت! بل ربما (يتقل العيار) ويزيد جرعة التخدير ويحدد هذا الوقت المزعوم ويعين تاريخا له..
هذا النمط يحرص دائمًا على الظهور بمظهر العليم ببواطن الأمور المطلع على الخبايا وما بين السطور!
فهو المحلل الجهبذ والخبير الاستراتيجي المحنك الذي يعلم ما يجهله البسطاء أمثالنا! وفي كل حين عليه أن يبث شيئًا عجيبًا مُبهِرًا من تلك البواطن، أو يُلَمِّح بِسرٍّ خطير لم يعلمه غيره! وليظل احتياج المتعاطي المستمر للجرعة التخديرية ولتظل الأفواه فاغرة والأعين متسعة من الانبهار بتلك المخدرات الفكرية والواقعية والسياسية، التي يتاجر بها هذا الجهبذ المخدِّر!
ولا يهم بائعو الوهم أو يفرق معهم مآل تلك المشاعر المتلهفة التي أججوها، ولا يلتفتون إلى ما سيحدث لأصحابها من صدمة قاسية حين يزول أثر الجرعة وترتطم نفوسهم بأرض الواقع فلا يجدون هذا الفتح عاجلًا كما وعدوا!
وليس مهمًا لديهم الأثر العكسي الذي ستحدثه بشرياتهم الكاذبة وتحديداتهم القطعية الساذجة إذا لم تقع كما جزموا ووقتما حددوا!
المهم أن يثبتوا وجهة نظرهم ويستمروا في إمداد أتباعهم بما يبقيهم في أكنافهم ويبقى أنظارهم متوجهة إليهم متطلعة إلى المزيد والمزيد من الجرعات والمخدرات..
نعم... هي مخدرات في حقيقتها تقوم بنفس وظيفة المخدرات الحقيقية بأنواعها المختلفة!
وآثارها لا تقل خطورة على النفس من آثار المخدرات العادية على الجسد..
إنها تجعل متعاطيها يغادر واقعه الحقيقي الشاق والمليء بالصعاب والتحديات، ليعيش واقعًا مُزينًا جميلًا كبديل عن حقيقة قد تكون مُرَّة، ينعزل عن إدراكها ببطء حتى يتجاوزه قطارها، وربما يعبر عليه دون أن يشعر..
تلك المخدرات تقتل روحه تدريجيًا!
إنها تجعل المتعاطي أكثر تبلدًا، وتهون عليه كثيرًا من الآلام التي يشعر بها، والصدمات التي يتعرض لها، لكنه كالمخدرات الحقيقية.. تَبَلُّد مؤقت سرعان ما يزول لتعود الآلام بعد حين، وليفاجأ بمزيد من التعقيد! ربما لم يكن ليوجد لو كان قد انتبه من غفلته التخديرية مبكرًا وتعامل مع حقيقة الأشياء واستعد لها وقدرها حق قدرها، بدلًا من التقلب في نعيم الوعود البراقة والأماني العاجلة التي يعده بها بائعو الأوهام المعسولة، ويؤكدون له دومًا أنها ستتحقق خلال أيام أو ساعات محددة، لا أحد يدري لماذا لا تأتي كل مرة؟!
طبعًا لا أتحدث هنا عما ذكرته وأكدت عليه في المقال السابق من اليقين بموعود الله والثقة بنصره والإيمان بتحقق بشريات نبيه صلى الله عليه وسلم، فتلك كلها عقائد راسخة لا تنازل عنها..
لكن الفارق بينها وبين مخدرات بائعي الوهم ومشتريه، أن الوعود الربانية والبشارات النبوية في غالب الأمر لم تكن محددة بتوقيت وتعيين، بل كانت في مجملها وعودًا مطلقة مفتوحة الأمد مرتبطة بالعمل والبذل..
وعودًا تغرس اليقين والأمل وتعلقه بالله الولي النصير، لا بتحليلات سمجة متكلفة وتسريبات باطنية أغلبها تخديري مكذوب!
تأمل حين يوجه الخطاب القرآني للحبيب صلى الله عليه وسلم مبينًا أن الاحتمالين قائمان {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} [غافر من الآية:77]، فهل يظن اشتراط لزوم رؤية ثمرة عاجلة وتحقق الوعد في الدنيا، أم أن الأمر قد يطول حتى لا تراه في حياتك؟!
أعتقد أن الإجابة واضحة..
الخياران موجودان إذًا!
لو أن المفكر أو المحلل اكتفى ببث الأمل من خلال التثبيت بالقرآن وترسيخ وعوده، جنبًا إلى جنب مع التوجيه لأداء التكليفات المقترنة بتلك الوعود دون قطع بالثمرة وموعدها، لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا حتى لو كان الواقع في حقيقته صعبًا متشابكًا!
لكن للأسف يضطر بعضهم لإنكار تلك الصعوبة نظرًا للضغوط التي تمارَس عليهم، لإجبارهم على إيجاد الحل السحري السريع ومن ثم يلجأون للتخدير والإيهام.
وبدلًا من أن يعترفوا -ولو أحيانا- بفشلهم الآني أو عجزهم الحالي عن تقديم حلول سريعة عاجلة، تجدهم يبحثون عن مسكنات الوهم المعسول الذي يُغرقون فيه المخدَّرين المتعاطين بالتدريج من خلال مخدراتهم الفكرية والواقعية التي يلاحقونهم بها باستمرار، حتى تبدو الحلول التي يطرحونها دائمًا وجيهة ومنطقية في مواجهة تلك الأسئلة التي سهلتها تلك المخدرات!
لذلك لا بد ابتداءً من التخلص من تلك المخدرات الفكرية التي يحرص البعض على بثها في عقول مريديهم، مصورين الأمور كلها سهلة وبسيطة، ومهونين من شأن التحديات القاسية التي تواجههم، وموهمين (زبائنهم) أن النصر أقرب إليهم من شراك نعالهم!
ولا بد للنمط الآخر من الإقلاع عن تعاطي تلك المخدرات الفكرية والتخلص من حالة الإنكار التي أدمنوها، والنظر إلى الواقع بشكل صحيح وصادق لا لييأس أو ليحبط ويقعد باكيًا على اللبن المسكوب! فتلك ليست خيارات أصلًا كما بينت مرارًا.. ولكن ليعترف بالخطأ ليصلحه وليضع يديه على مواطن الخلل ليعدلها، وليحسن العمل والتأثير في إطار المتاح والممكن والواجب الذي أدركه من خلال النظر الواقعي الصادق المعترف..
وبدون مخدرات!
ولا مخدِّرين!
أو مخدَّرين..
________
من كتابي الجديد تحت الطبع #أنماط
- التصنيف: