وتوبوا إلى الله

منذ 2003-08-08
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن من أعظم نعم الله عز وجل أن فتح باب التوبة،
وجعله فجرأ تبدأ معه رحلة العودة بقلوب منكسرة،
ودموع منسكبة، وجباه خاضعة.

يقول الله جل وعلا : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } [الحجر:49]
ويقول الله عز وجل : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } [ البقرة : 222 ]
ويقول تعالى حاثا على التوبة والرجوع والأوبة : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } [ النور : 31 ].

وصح عنه كما روى ذلك الإمام مسلم أنه قال: « إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها »

وهذا نبي الرحمة وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: « يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة » [رواه مسلم].

وانظر وتأمل أخي الكريم في فضل الله عز وجل على التائب العائد، فقد قال رسول الله : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » [رواه ابن ماجة والطبراني].

أخي المسلم، لا يأخذك الهوى وملهيات النفس فإن الرسول يقول: « كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى !
قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟!
قال:  من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى
»
[رواه البخاري].

وهذا الحديث بشارة لجميع المسلمين بالجنة، إلا صنفا منهم لا يريدون دخولها، لا زهدا فيها، ولكن جهلا بالطريق الموصلة إليها، وتراخيا وتكاسلا عن دخولها، وتفضيلا لهذه المتع الدنيوية الزائلة على تلك النعم الخالدة في الجنة.

فجد في التوبة وسارع إليها فليس للعبد مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحب قرار إلا يوم المزيد فسارع إلى التوبة، وهب من الغفلة، واعلم أن خير أيامك يوم العودة إلى الله عز وجل، فاصدق في ذلك السير وليهنئك حديث رسول الله : « لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح » [رواه مسلم].

أخي المسلم، قال يحي بن معاذ رضي الله عنه: ( من أعظم الاغترار عندي: التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط. ومن أحب الجنة انقطع عن الشهوات، ومن خاف النار انصرف عن السيئات )

وقال الحسن البصري: ( إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل )

وقال رحمه الله : ( إن المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يفجؤ الشيء بعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات، هيهات، حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء
فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، مالي ولهذا!
والله لا أعود لهذا أبدأ إن شاء الله، إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه )

أيها السائر في طريق الحياة.. جهاد النفس جهاد طويل وطريق محفوف بالمكاره، مذاقه مر وملمسه خشن، فعليك بالسير في ركاب التائبين حتى تحط رحالك في جنات عدن.

قال حاتم الأصم :

( من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار فهو مغتر لا يأمن الشقاء:

الأول : خطر يوم الميثاق حين قال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا يعلم أي الفريقين كان.
الثاني : حين خلق في ظلمات ثلاث، فنادى الملك بالشقاوة والسعادة، ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟
الثالث : ذكر هول المطالع، فلا يدري أيبشر برضا الله أم بسخطه؟
الرابع : يوم يصدر الناس أشتاتا، فلا يدري أي الطريقين يسلك به؟ )

وقال الحسن: ( ابن آدم.. إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك )

فينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي، فإنه ليس بين الآدمي وبين الله تعالى قرابة ولا رحم، وإنما هو قائم بالقسط، حاكم بالعدل، وإن كان حلمه يسع الذنوب، وإن شاء أخذ وأخذ باليسير، فالحذر الحذر .

أخي المسلم: كلنا أصحاب ذنوب وخطايا وليس منا من هو معصوم عن الزلل والخطأ، ولكن خيرنا من يسارع إلى التوبة ويبادر إلى العودة: تحثه الخطى، وتسرع به الدمعة، ويعينه أهل الخير رفقاء الدنيا والآخرة، فإن من واجب الأخوة في الله عدم ترك العاصي يستمر في معصيته بل يحاط بإخوانه ويذكر وينبه، ولا يهمل ويترك فيضل ويشقى. أرأيت إن نزل به مرض أو شأن من أمور الدنيا كيف نقف معه ونعينه؟ فالآخرة أولى وأبقى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة، فأما ما حصل منه توبة فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة ).

ولا تظن أيها المسلم الصائم أن التوبة في ترك المنكرات والمعاصي فحسب، بل احرص على التوبة من ترك النوافل والمداومة على الخير، فتب عن تفريطك في السنن الرواتب، وتب عن إضاعتك للتراويح والقيام، وتب من بخلك وشحك، وتب إلى الله من غفلتك وإضاعة وقتك الثمين.

وشروط التوبة أربعة:

1 - الإقلاع عن الذنب.
2 - الندم على ما فات.
3 - العزم على أن لا يعود.
4 - إرجاع الحقوق إلى أهلها من مال أو غيره.

وحالنا في هذه الدنيا بين مسوف ومفرط، حتى يفاجئنا الموت على حين غفلة، وتأمل في حال البعض ممن يؤثر الظل على الشمس، ثم لا يؤثر الجنة على النار.


جعلني الله وإياكم ممن إذا زل تاب وناب، ورزقنا توبة نصوحا قبل الممات، وتجاوز عن تقصيرنا وآثامنا، وغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصدر: دار القاسم
  • 0
  • 0
  • 21,799

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً