وقفات مع غزوة بدر، يوم الفرقان

منذ 2015-01-16

غزوة بدر حلقة من حلقات الصراع بين المشركين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، هذه الحلقات التي بدأت بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وزادت حدتها بعد تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة

غزوة بدر حلقة من حلقات الصراع بين المشركين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، هذه الحلقات التي بدأت بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وزادت حدتها بعد تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة، حيث جد الملأ من قريش في محاولاتهم لاجتثاث دولة الإسلام التي برزت إلى الوجود، ورأوا في نمائها خطراً على وثنيتهم، وفي نفس الوقت بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس بعض أساليب الضغط عليهم ليكفوا عنه، وعن التصدي لدعوته، وتجلت تلك الأساليب في قطع طريق التجارة من خلال السرايا التي كان صلى الله عليه وسلم يرسلها بين الفينة والفينة.

وتكرر ذلك مرات حتى جاء اليوم الموعود، إذ سمع صلى الله عليه وسلم بقافلة لقريش عائدة من بلاد الشام، قيل: إنه كان فيها ألف بعير محملة بأصناف البضائع المختلفة، ولم يكن بمكة أحد إلا شارك فيها، فحث الناس للخروج إليها لعلهم يجدون فيها عوضاً عن الأموال التي اغتصبها منهم مشركو مكة عند هجرتهم، ويكون في الاستيلاء عليها إضعاف لقوتهم الاقتصادية التي يفتخرون بها ويقولون: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ من الآية:35] (ابن هشام: السيرة، ج2، ص: 61).

فخرج معه حوالي ثلاث مائة رجل يزيدون أو ينقصون قليلاً، وتخلف بعض المسلمين؛ لأنه لم يجبر أحداً على الخروج، وظنوا أنه لن يلقى حرباً، ولم يكن في ذهنه صلى الله عليه وسلم غير مهاجمة القافلة، وسار عَشِيّةَ الأَحَدِ لاثنتي عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَمعه فرسان وستون درعاً وسَبْعِونَ بَعِيرًا، يَتَعَاقَبُ على ركوب كل بعير الاثْنَانِ والثلاثة والأربعة، يركب الواحد ويمشي الباقون على الأقدام بالتناوب، ولما أراد من يتناوبون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعفوه من المشي قال لهم: «ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» (ابن كثير: البداية، ج3، ص: 261).

ولما علم قائد القافلة أبو سفيان عن طريق عيونه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليه غير مسار طريقه، وبدأ يتحسس الأخبار عن قرب وصوله، وهو قلق على ما معه من أموال، ثم استأجر أعرابياً يسمى (ضمضم بن عمرو الغفاري) فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة، فلما ورد مكة وقف يصرخ ببطن الوادي على بعيره، ويقول: "يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث"!! (ابن كثير: البداية: ج3، ص: 258).

فاستنفر أبو جهل ومن معه من زعماء قريش الناس، وقال: "أدركوا عيركم"، وجعلوا يعنفون من يتكاسل عن الخروج معهم، ويعيرونه بالجبن، حتى إن أُميّة بن خلف كان قد أجمع القعود، وكان شيخاً جليلاً جسيماً ثقيلاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس بين ظهراني قومه بمبخرة يحملها، فيها نار وبخور ووضعها بين يديه، ثم قال: "يا أبا عليّ استجمر! فإنما أنت من النساء"، فقال: "قبحك الله! وقبح ما جئت به"، ثم تجهز وخرج مع الناس وهو كاره، وحتى بنو هاشم ومن عارضوا الحرب أجبروهم على الخروج معهم (الذهبي: تاريخ الإسلام، ج1، ص: 169).

وتجهز منهم حوالي تسعمائة وخمسين مقاتلاً، معهم ستون فرساً، وقيل: مائتا فرس يقودونها وستمائة درع، واصطحبوا معهم المغنيات يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين، وكلهم غرور وكبرياء، وعزم على القضاء على المسلمين، وبينما هم يستعدون للزحف ناحية المدينة جاءهم الخبر من أبي سفيان يقول: "إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا" (السيرة لابن حبان: ج1، ص: 157).

ولما تلقوا هذه الرسالة هم بعضهم بالرجوع، لكن أبا جهل قال في كبرياء وغطرسة: "والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنُقيم بها ثلاثًا، فننحر الجَزُور، ونُطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف لنا القِيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا"‏، وغلب رأيه فساروا حتى نزلوا قريبًا من (بدر) (ابن كثير، السيرة، ج2، ص: 399). ‏

وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه أن قريشاً قد سمعت بخروجه لاعتراض القافلة، وخرجت إليه بجمع يقوده أبو جهل، ففوجئ صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر الذي لم يستعد له، وصار أمام أمرين، إما أن يعود بمن معه سريعاً إلى المدينة، وهذا قد يجرئ أبا جهل على الزحف خلفه إلى المدينة، ويُطمع فيه الأعراب الذين يتربصون به الدوائر، فيكون الخطر بالمسلمين محدق، وإما أن يواجه أبا جهل بمن معه من المؤمنين، وهذا أمر صعب أيضاً، لعدم تكافئ الطرفين، فمن ناحية العدد يمثل جيش المشركين ثلاثة أمثال جيشه، ومن ناحية العدة يمتلك المشركون مائتي فرس أو ستين حسبما قيل وستمائة درع، أما المسلمون فمعهم فرسان فقط، والمقاتل على رجله (الراجل) مهما أوتي من قوة أو شجاعة يصعب عليه مواجهة الذي يركب فرساً، ومن ناحية الزاد والمدد فإن المشركين بالإضافة إلى ما معهم فإن القبائل العربية التي كانت تستفيد من تجارتهم أو تحج إلى مكة كانت إلى صفهم، وقد بعث أحدهم ويُسمّى "خفاف بن ايماء بن رحضة الغفاري" أبناء له بجزائر (إبل للذبح) أهداها لهم، وقال: "إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا" (ابن كثير: البداية، ج3، ص: 268).

وأمام هذا الموقف بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه ليأخذ آراءهم، فخشي بعضهم المواجهة، وقالوا: "لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، وقد خرجنا للقاء العير"، لكن الأغلبية أشارت عليه بالتصدي لأبي جهل وجيشه إن اضطر إلى ذلك، فهم مستعدون لنتيجة المعركة أياً كانت، وقال أحد المهاجرين وهو" المقداد بن عمرو": "يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة من الآية:24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد مكان باليمن لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه".

وقال له سعد بن معاذ أحد زعماء الأنصار: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله" أي تريد أن تعرف رأينا، قال: «أجل»، فقال سعد: "قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يُريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله"، فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا القول (ابن هشام، السيرة ج3، ص: 161).

وبد أ الوحي بعد ذلك يتابع مع المسلمين سير المعركة ويوجههم خطوة بخطوة تجاه النصر، فكشف للمتخوفين من المواجهة عن حقيقة الموقف والغرض منها فقال تعالى: {كَمَا أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ . يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ . وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:5-8].

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول تلك الآية: «سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين؛ القافلة أو النصر على جيش أبي جهل».

ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم حتى صار قريباً من بدر، وبدأ يتحسّس الأخبار عن القافلة وعن جيش أبي جهل، فعلم أن القافلة قد أخذت طريق الساحل مما يعني نجاتها، وأن أبا جهل قد نزل على مقربة منه، فاستقصى أخباره وسار حتى نزل على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة -أي الآبار المتناثرة به- فأشار عليه أحد الصحابة وهو "الحباب بن منذر بن الجموح" بأن يسير حتى ينزل على أقرب ماء من ناحية العدو فيسبقهم إليه، ثم يقوم ببناء حوض عليه، ويهدم باقي الآبار فأخذ برأيه (الذهبي: تاريخ الإسلام: ج1، ص: 170، والبداية والنهاية: ج 3، ص: 267).

ثم أخذ يحث أصحابه ويحضهم على التضرع إلى الله والاستغاثة به، وذلك كان التوجيه الثاني لسير المعركة في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال:45]. والذي كان من نتيجته إمدادهم بالملائكة، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:9-10].

وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعركة مقبلاً على ربه قائماً وراكعاً وساجداً، يردد في سجوده يا حي يا قيوم، وضرب الله النعاس على أصحابه، حتى يذهب ما في قلوبهم من قلق، فقال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال:11]، فأصبحوا في نشاط وسكينة.

ولما طلع الفجر نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للصلاة، وأعاد تذكيرهم بفضل الجهاد في سبيل الله وقال: «والله لا يقاتلهم اليوم أحد وهو صابر إلا أدخله الله الجنة»، ثم أخذ ينظم صفوفهم وعبأهم أحسن تعبئة (ابن كثير: البداية: ج3، ص: 276).

وأما أبو جهل فقد أرسل هو الآخر من يتحسس له أخبار المسلمين، ويحرز له عددهم، فرجع إليه من أرسله يقول: "عددهم حوالي ثلاث مائة"، لكن يبدو أنه رأى من ارتفاع روحهم المعنوية وعدم خشيتهم القتال ما أذهله فقال: "قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم" (ابن هشام: السيرة: ج3، ص: 269).

فأثارت مقولته بعض كبار المشركين وخافوا العاقبة، ومن مظاهر ذلك أن حكيم بن حزام لما سمع ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: "يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى ألا تزال تذكر بخير إلى آخر الدهر"؟ قال: "وما ذاك يا حكيم؟" قال: "ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عامر بن الحضرمي الذي قتل على أيدي المسلمين في سرية سابقة "، فقال له: "قد فعلت وهو حليفي، فعلي عقله وما أصيب من ماله، فائت ابن الحنظلية أبا جهل وأعرض عليه هذا الأمر، فإني لا أخشى أن يثير أمر الناس غيره".

ثم ركب عتبة جملاً له، وسار عليه في صفوف المشركين فقال: "يا قوم أطيعوني ودعوا هذا الرجل؛ فإن كان كاذباً ولي قتله غيركم من العرب، فإن فيهم رجالاً لكم فيهم قرابة قريبة، وإنكم إن تقتلوهم لا يزال الرجل ينظر إلى قاتل أخيه أو ابنه أو ابن أخيه أو ابن عمه، فيورث ذلك فيكم إحناً وضغائن، وإن كان هذا الرجل ملكاً كنتم في ملك أخيكم، وإن كان نبياً لم تقتلوا النبي فتسبوا به، ولن تخلصوا إليهم حتى يصيبوا أعدادهم منكم، ولا آمن أن تكون لهم الدبرة النصر عليكم" (ابن هشام: السيرة: ج3، ص: 270 وما بعدها).

ذهب حكيم إلى أبي جهل وقال: "يا أبا الحكم، إن عتبة قد أرسلني بكذا وكذا"، فقال: "والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد"، وعمد إلى ابن الحضرمي أخو عمرو المقتول في السرية السابقة فقال: "هذا عتبة يخذل بين الناس، وقد تحمل بدية أخيك، يزعم أنك قابلها، أفلا تستحيون من ذلك أن تقبلوا الدية"؟ وقال لقريش: "إن عتبة قد علم أنكم ظاهرون على هذا الرجل ومن معه -أي منتصرون على محمد- وفيهم ابنه وبنو عمه، وهو يكره صلاحكم"، وأمر النساء أن يعولن عمراً، فقمن يصحن: "واعمراه! واعمراه"! تحريضاً على القتال (ابن كثير: السيرة: ج2، ص: 406).

وقَامَ عَامِرُ بْنُ الحضرمي فَاكْتَشَفَ، ثُمّ حَثَا عَلَى رَأْسِهِ التّرَابَ، ثُمّ صَرَخَ وَاعَمْرَاه، وَحَلَفَ عَامِرٌ لا يَرْجِعُ حَتّى يَقْتُلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّد، ولم تجد دعوة حكيم وعتبة آذاناً صاغية أمام إصرار أبي جهل وعناده، وظنه أن جيشه لن يهزم، وأن بإمكانه القضاء على الإسلام وأتباعه، ووصف الله حالته هذه في قوله تعالى: {وإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} [الأنفال:48].

وارتحلوا من الغد قاصدين نحو ماء بدر يملؤهم البطر والرياء كما قال تعالى: {خرَجُوا مِنْ دِيَارِهمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِ اللّه} [الأنفال:47].

فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلين قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض بعد اليوم» (ابن هشام: السيرة النبوية، ج3، ص: 168 وما بعدها، وابن سيد الناس: عيون الأثر: ج1، ص: 378)، وأخذ يلح على الله في دعائه، ويديه إلى السماء ويكرر: «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم نصرك» (رواه البخاري ومسلم)، حتى سقط الرداء عن منكبيه صلى الله عليه وسلم.

فأنزل الوحي عليه يعلمه بعد هذا التضرع أن الله منزل الملائكة الذين وعده بهم، ورسم طريقة القتال الناجحة، فقال سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]. وكان ذلك هو التوجيه الثالث في القرآن الكريم للمؤمنين، إذ إن الخطاب موجه لهم أيضاً.

ومع إن معنى هذه الآية يشير إلى أن نتيجة المعركة حسمت لصالح المؤمنين، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على ألا يكون هو البادئ، بل ورجا أن يتراجعوا عن قرارهم في اللحظة الأخيرة، وقال لما رأى عتبة بن ربيعة: "إن يطيعوه فيما دعاهم إليه يرشدوا"؛ ليؤكد ما ذكر من قبل أنه كان يتحاشى سفك الدماء، وأن صدود المشركين عن الله هو الذي اضطره للقتال الذي يعد أمراً استثنائياً في شريعة الإسلام، ويعزز ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أناساً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كُرهاً، ولا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً منهم فلا يقتله، وسماهم بالاسم» (ابن كثير: البداية: ج3، ص: 284).

وأصدر أوامره إلى أصحابه بألا يبدءوا القتال فقال‏: «إذا أكثبوكم -يعنى اقتربوا منكم- فارموهم، واستبقوا نبلكم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم» (مصنف أبي شيبة). ‏ فقَالَ أبو جهل لِرجل يُسمّى "عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ": "حَرشْ بَيْنَ النّاسِ، فَحَمَلَ عُمَيْرٌ ونَاوَشَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَقَدّمَ ابْنُ الْحَضْرَمِىّ فَشَدّ عَلَى الْقَوْمِ ونَشِبَتْ الْحَرْبُ" (مختصر سيرة الرسول: ص: 112).

ثم خرج رجل يُسمّى "الأسود بن عبد الأسد المخزومي"، وكان شرساً سيئ الخلق فقال: "أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه"، وأتاه فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فالتقيا فضربه حمزة فقطع ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً، ورغم ذلك أصر على أن ينفذ ما عزم عليه، وزحف إلى الحوض حتى اقتحمه، فأتبعه حمزة فقتله في الحوض (ابن كثير: البداية: ج3، ص: 272).

وخرج عتبة بن ربيعة ومعه أخوه وابنه، ودعوا للمبارزة؛ ليظهر لأبي جهل أنه لم يناد بعودة الناس لأنه جبان كما زعم، فخرج إليه ثلاثة من الأنصار، فقالوا: "من أنتم"؟ قالوا: "من الأنصار"، فردوا عليهم: "ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا"، فخرج إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي رضي الله عنهم، وانتهت المبارزة بمقتل المشركين الثلاثة، وإصابة عبيدة رضي الله عنه فقط من المسلمين‏‏. ثم التحم الفريقان بعد ذلك، فما انتهى يوم الجمعة إلا والمشركون يولون الأدبار تاركين وراءهم أمتعتهم بعد أن هزموا شر هزيمة، وقتل منهم حوالي سبعين رجلاً، وأسر مثل ذلك، وكان من بين القتلى سادة المشركين الذين طالما حادوا الله، وعلى رأسهم أبو جهل مسعر الحرب، وأما من أُصيبوا فلم تحدد الروايات عددهم، في مقابل أربعة عشر شهيداً فقط من المسلمين.

وشاء الله أن يقتل بعض الطغاة على أيد من كانوا يعذبونهم في مكة، فقتل أُميّة بن خلف الذي كان يقال له "سيد الوادي" على يد بلال بن رباح رضي الله عنه، الذي كان يستغل ضعفه وعبوديته وافتقاده للنصير في صب العذاب عليه صبا، وتقطع رقبة أبي جهل على يد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قطعت أذنه في لطمة منه، ليقول الله للعالمين: إن الإنسان مهما عزّ بقوته فإن القدر لاحقه، وإن الله ليمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

ثم كانت المكافئة الكبرى لمن شهد هذه المعركة أن اطلع الله عليهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم وقال: «اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة» (رواه البخاري وأحمد وابن حبان)، أو «قد غفرتُ لكم»، وذلك جزاء طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصبرهم معه.

وفي اليوم التالي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن جثث شهداء المسلمين، ودفن جثث القتلى من المشركين في مكان آخر أيضاً؛ تقديراً لإنسانيتهم التي يأمر الإسلام بتكريمها وإن كانت كافرة، وبعدها وقف صلى لله عليه وسلم على قبرهم وقال: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً». فقال بعض الحاضرين: "يا رسول الله، أتنادي أقواماً قد جيفوا"؟ فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا» )رواه البخاري).

وانتهت بذلك أول مواجهة بينه صلى الله عليه وسلم وبين المشركين؛ لتؤكد أن العدد والعدة ليست هي سبب النصر فقط، وإنما هناك معية الله سبحانه وتعالى ومدده وجنده، هذه المعية التي ينتصر بها المؤمن الضعيف بعد يأسه على الطاغي القوي بعد تجبره، وتحصل هذه المعية بلجوء المسلم إلى الله والاستغاثة به، وبذلك جاء التوجيه الرابع للمسلمين في القرآن يقول: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ . بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:123-125].

نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينعم علينا، ونحن في رمضان ذلكم الشهر الذي طالما هل على المسلمين بالنصر والعِزّة أن يتفضل علينا بيومٍ كيوم الفرقان، يكسر فيه شوكة كل مُتكبِّر، وينصرنا فيه بنصر من عنده... اللهم آمين.

 

أحمد عبد الحميد عبد الحق

  • 6
  • 0
  • 19,445

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً