حكم الغناء والمعازف

منذ 2015-01-28

فقد قرأت ما كتبه بعض المشايخ "القراء" في إباحة الغناء، حتى المصحوب بالمعازف، فما رأيته أتى بجديد، سوى التلبيس على العامة، بسرد أسماء عدد من الصحابة والتابعين والعلماء الذين زعم أنهم أباحوا المعازف والغناء، وقد أخطأ في ذلك خطأ بيناً؛ لأن أكثر من ذكر أسماءهم من أئمة السلف، إنما أباحوا نوعا منه، وهو النشيد والحداء الذي كانت العرب تتعاطاه من قبل، و ليس هو من "الغناء" المحظور.

الحمد لله الذي أغنانا بالقرآن عن كل ما سواه، والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فقد قرأت ما كتبه بعض المشايخ "القراء" في إباحة الغناء، حتى المصحوب بالمعازف، فما رأيته أتى بجديد، سوى التلبيس على العامة، بسرد أسماء عدد من الصحابة والتابعين والعلماء الذين زعم أنهم أباحوا المعازف والغناء، وقد أخطأ في ذلك خطأ بيناً؛ لأن أكثر من ذكر أسماءهم من أئمة السلف، إنما أباحوا نوعا منه، وهو النشيد والحداء الذي كانت العرب تتعاطاه من قبل، و ليس هو من "الغناء" المحظور.

وأما الذين أباحوا "الغناء" المعروف، المصحوب عادة بآلات الطرب، فهم قلة من علماء الأمة، ومذهبهم في ذلك يعد من المذاهب الشاذة.

وليعلم أن أشهر أصحاب ذلك المذهب المخالف هم علماء الصوفية، وقد صنفوا في ذلك مصنفات، ورد عليهم أئمة السنة بما يشفي ويكفي.

وأما احتجاجهم بأن إباحة الملاهي كان مذهب علماء المدينة، فقد ذكر الأئمة بأن ذلك كان من زلاتهم، ومن أفعال بعض عوامهم، لا يصح نسبته إلى مذاهب علماء السلف، إلا على وجه الإنكار، لا الإقرار.

ومما يؤيد ذلك قول الإمام الأوزاعي: "نتجنب من قول أهل العراق خمساً، ومن قول أهل الحجاز خمسا.."، فذكر من قول أهل العراق: شرب المسكر، ومن قول أهل الحجاز: استماع الملاهي، والمتعة بالنساء. [انظر سير أعلام النبلاء (7 / 131)].

ونحوه قول أحمد: "لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقا".

* قال سمير: فهذا يدل على أن تلك الأقوال والمذاهب في العراق وفي الحجاز إنما تعد من زلات أهل العلم، ومن شذوذاتهم، فلا يصلح أن يحتج بمثلها. ومنها: إباحة سماع المعازف و "الغناء".

وهذا عام في كل المذاهب والأقوال الشاذة، بغض النظر عن قدم القول و شهرته، أو مكانة القائل به ومنزلته، فإنه ليس له أدنى اعتبار، إلا إذا استمر القول به والعمل عليه عند من يعتد بمذهبه من الأئمة، وكان موافقا للسنة.

ومعلوم أن ترخص بعض أهل العراق في بعض أنواع النبيذ المسكر قد انقرض القول به فيما بعد.

ومثله ترخص أهل الحجاز في متعة النساء، فإنه مذهب شاذ ضعيف، مع أن "المتعة" كانت قد أبيحت في الإسلام، ثم نسخت إباحتها، وقد ثبت عن بعض الصحابة فعلها بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وترخص فيها أهل مكة وغيرهم، وفتيا ابن عباس في ذلك مشهورة، حتى قال أحدهم:

أقول للشيخ لما طال مجلسه *** يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس

هل لك في رخصة الأطراف آنسة *** تكون مثواك حتى مصدر الناس

وقيل إن ابن عباس قد رجع عن ذلك المذهب، أو أنه أفتى به للضرورة.

انظر سنن البيهقي [7 / 205]، والمغني لابن قدامة [10 / 48]، والقول بالمتعة مع ذلك يعد من المذاهب الشاذة المهجورة.

ومثله يقال في سماع المعازف و"الغناء"، لو احتج علينا أحد برخصة صحابي، أو غيره من العلماء، فإن حجته ليست بأقوى من حجة من ترخص في النبيذ المسكر، أو ترخص في متعة النساء، فإن حكمها سواء.

قال المعتمر بن سليمان: "رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال لي: يا بني، لا تنشد الشعر".

فقلت له: يا أبت، كان الحسن ينشد، وكان ابن سيرين ينشد.

فقال لي: أي بني، إن أخذت بشر ما في الحسن، وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله.

و نقل عنه أيضاً قوله: "إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله".

قال ابن عبد البر عقب ذلك: "هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا". انظر الموافقات للشاطبي [5/134].

* قال سمير: ومعلوم قطعاً أن الإمام مالكاً كان من أعلم أهل الأرض بمذهب أهل المدينة، وقد كان من أصول مذهبه الذي امتاز به عن سائر المذاهب الأربعة "عمل أهل المدينة"، وكان يحتج به في فهم النصوص.

وقد أنكر القول بإباحة "الغناء" كما نقل عنه الثقات من فقهاء مذهبه، وهذا يدل على شذوذ ذلك القول، وإلا لما أنكره أفقه علماء المدينة.

قال القرطبي في تفسيره [14/ 55]: "ذكر إسحق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق".

وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: "إذا اشترى جارية، ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب"، وهو مذهب سائر أهل المدينة، إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا.

وقال ابن خويز منداد: "فأما مالك، فيقال إنه كان عالما بالصناعة، وكان مذهبه تحريمها". انتهى.

* قال سمير: والمقصود أن القول بإباحة سماع الغناء والمعازف يعد من الأقوال الشاذة المهجورة، وأن من حكي عنه الترخص فيها من الصحابة أو التابعين لا يصلح أن يحتج به؛ لأنه: إما أن يكون من الغناء المباح، وإما أن يكون من المحظور الذي أخطأوا فيه، وخالفوا فيه الأحاديث والآثار، ومذهب جماهير علماء الأمصار.

ويؤيد ذلك أن مصنفات الحديث المشهورة، كالكتب الستة، ومسند أحمد، وسنن البيهقي، والتفاسير المشهورة، كتفسير ابن جرير، والقرطبي، وابن كثير، وكتب الفقه في المذاهب الأربعة المعتمدة، وشروح الأحاديث، قد اتفقت على القول بتحريم الغناء والمعازف، إلا ما استثني منهما كما سيأتي بيانه وتفصيله.

"مذهب ابن حزم"

وأشهر الفقهاء القائلين بإباحة الغناء بالمعازف، هو الإمام الفقيه، شيخ الظاهرية في زمانه بلا منازع، أبو محمد علي بن حزم الأندلسي، المتوفى سنة 456 للهجرة.

وأكثر المعاصرين اليوم إنما يقلدونه في هذا المذهب، مع أنهم يخالفونه في أكثر أصول مذهبه الظاهري، و فروعه، بل ربما تهكموا ببعض شذوذاته واختياراته!.

وهذا من العجائب، بل من المصائب والمعايب، لأن التنقل في الفتيا بين المذاهب، التي اتفقت في أصولها، أو في جل أصولها، قد عده العلماء ضرباً من العبث بالدين والتلاعب، وجعلوه بريداً إلى الزندقة، إن كان بدافع الهوى وتتبع الرخص، لا اتباعاً للحق والدليل، فكيف بالتلون والتنقل بين المذاهب التي اختلفت في أهم الأصول، كالمذاهب الأربعة مع المذهب الظاهري؟.

لو جاءنا من يقلد المذهب الظاهري وترخص في "السماع " لربما عذرناه في ذلك، أما من يزعم انتسابه إلى أحد المذاهب الأربعة، أو يزعم أنه مجتهد يتبع الدليل، ويتعصب للحق، فهذا لا عذر له في ترخصه.

ومعلوم أن ابن حزم - رحمه الله - قد أخطأ في مسائل كثيرة، بعضها في الاعتقاد، وبعضها في أصول الفقه، وبعضها في فروعه، كما أخطأ كثيراً في نقد الأحاديث والأسانيد، فإنه لم يكن في دراية الحديث، وفي الجرح والتعديل بذلك المقام الرفيع الذي بلغه الأئمة، كمالك، وسفيان، وأحمد، وابن معين، وأصحاب الصحاح، والسنن المشهورة، ونحوهم.

فكما لا يحل تقليده فيما أخطأ فيه من تلك المسائل، لا يحل تقليده في مسألة "الغناء" والمعازف أيضاً.

وهذا لا يخص ابن حزم وحده، بل يعم كل من أخطأ من الأئمة.

يقول ابن القيم في معرض كلامه عن ابن أبي ليلى -أحد أشهر رواة الحديث-: "ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه".

فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة، ومن ضعف جميع حديث سيئ الحفظ.

فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله.

والثانية: طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله.

وطريقة مسلم: هي طريقة أئمة هذا الشأن، والله المستعان". انتهى من زاد المعاد [1 / 353].

قال سمير: ومن تتبع كلام ابن حزم في نقد الأسانيد و الروايات؛ وجد اختلافاً "ظاهراً" بين مذهبه وبين مذهب أئمة الحديث.

ومن ذلك، حكمه على الرواة الذين تكلم فيهم، خاصة من قبل الحفظ، كما ذكر ابن القيم آنفا.

كما أنه لا يفرق في الحكم بين رواة الصحيحين وبين غيرهم، فإنهم عند ابن حزم في درجة واحدة مع سائر الرواة.

ومعلوم أن رجال الصحيحين لهم عند أئمة الحديث العارفين درجة علية، فقد جاوزوا القنطرة خاصة مروياتهم في الصحيحين.

وكذلك حكم ابن حزم في الأحاديث المرسلة، أو المنقطعة، فإنه يردها بالإطلاق، مع أن منهج الأئمة المتقدمين فيه تفصيل، فإنهم احتجوا ببعض المراسيل. انظر شرح العلل لابن رجب [1/ 544].

وابن حزم لا يعتد بحكم من سبقه من الأئمة على الأسانيد والمرويات كائناً من كان، كما أنه لا يلتفت إلى كثرة الطرق والشواهد والمتابعات، بل ينقد كل إسناد على حدة، حتى لو بلغت عنده عشرات الطرق، فإنها لا تنتهض للاحتجاج، إذا كانت آحادها ضعيفة (عنده)!.

ومعلوم أن كثيرا من أحاديث الأحكام قد رويت من طرق لا تسلم رواتها من جرح، ولا أسانيدها من مقال، وقد قبلها الأئمة، وصححوها أو حسنوها، لذاتها أو لغيرها، وربما رأوا العمل بها مع ضعفها، لوجود شواهد لها من أصول الشرع.

قال الإمام الذهبي في ترجمته لابن حزم: "ولي أنا ميل إلى أبي محمد، لمحبته في الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة". انظر سير أعلام النبلاء [18 / 202].

وقال ابن حجر في التهذيب [9/ 388] في ترجمة الإمام الترمذي صاحب السنن: وقال الخليلي: ثقة متفق عليه، وأما أبو محمد بن حزم فإنه نادى على نفسه بعدم الإطلاع، فقال: محمد بن عيسى بن سورة مجهول.

وقد أطلق هذه العبارة في خلق من المشهورين من الثقات الحفاظ، كأبي القاسم البغوي، وإسماعيل بن محمد الصفار، وأبي العباس الأصم، وغيرهم". انتهى باختصار.

* قال سمير: ومن أصول مذهبه في الفقه نفي القياس، و"الجمود" عند ظاهر النص ولو لم يكن مراداً، وقد وردت عنه عجائب بسبب ذلك!.

* ومن أصوله أيضاً: عدم الاحتجاج بقول الصحابي كائناً من كان، وهذا من مفرداته؛ لأنه لا يوجد إمام، ولا مجتهد، إلا وقد احتج بآثار الصحابة.

* تنبيه: قد ذكرت ذلك هنا عن الإمام ابن حزم لا قصداً للطعن فيه وفي مذهبه، وإنما اعتذاراً عنه، وتوضيحاً لسبب اختياره لإباحة المعازف والغناء، وتضعيفه للأحاديث والآثار، وقطعاً لأعذار كل من قلده في ذلك، ممن ينتسب إلى شيء من الفقه والعلم.

"معنى: الغنا "

وقبل النظر في حكم "الغناء"، والرد على من أباحه مطلقاً، لا بد من بيان معنى كلمة "الغناء" في لغة العرب، فنقول: إن الغناء ورد في لسان العرب على عدة معان، وهي:

1- الاستغناء بالشيء عن غيره. يقال: تغنيت تغنياً، أي: استغنيت.

قال الأعشى:

وكنت امرأ زمنا بالعراق *** عفيف المناخ طويل التغن

وبهذا المعنى فسر الإمام ابن عيينة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم – ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)). وفي لفظ: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به)). أخرجه البخاري [7527] باللفظ الأول. وأخرجه أيضا [7544] باللفظ الآخر، وكذا مسلم [792].

ومعنى الحديث عنده: ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره.

وقد أشار الإمام البخاري إلى هذا المعنى في صحيحه، حيث بوب للحديث المذكور بقوله: باب من لم يتغن بالقرآن، وقوله - تعالى -: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم).

وقد أطال الحافظ في الفتح [9 / 68] في شرح هذا الحديث، وفي بيان معنى الغناء والتغني عند العرب.

2- طول الإقامة ولزوم الشيء. يقال: تغنى بالمكان: أقام به. ومنه قوله - تعالى –: (كأن لم يغنوا فيها)، وعليه حمل معنى البيت السابق:

وكنت امرأ زمنا بالعراق *** عفيف المناخ طويل التغن [انظر الفتح 9 / 70].

3- رفع الصوت وموالاته، أو الجهر به، وبه فسر الحديث السابق أيضاً.

4- التطريب بالصوت، بالشعر، أو بالقرآن.

قال حميد بن ثور:

عجبت لها أنى يكون غناؤها *** فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما

وقال آخر:

تغن بالشعر إما كنت قائله *** إن الغناء بهذا الشعر مضمار

وقوله هنا: "إن الغناء"، يعني: إن التغني.

وغنى بالمرأة: تغزل بها.

وغنى بالرجل: مدحه، أو هجاه.

انتهى باختصار من " لسان العرب " لابن منظور. [مادة غنا].

قلت: وعلى المعنى الأخير وهو تحسين الصوت، والتطريب به، حمل أكثر أهل العلم أحاديث التغني بالقرآن، واستدلوا على ذلك بحديث ((زينوا القرآن بأصواتكم)). رواه أبو داود والنسائي. [انظر جامع الأصول [2/ 455].

* قال سمير: ومن معاني الغناء، (الذي هو التطريب): اللحن. يقال: لحن في الشعر والقراءة، إذا غرد، وطرب.

فترجيع الصوت والتطريب به يسمى: "لحنا"، و"غناء"، ومنه قول يزيد بن النعمان:

لقد تركت فؤادك مستجنا *** مطوقة على فنن تغنى

يميل بها وتركبه بلحن *** إذا ما عن للمحزون أنا

فلا يحزنك أيام تولى *** تذكرها ولا طير أرنا

وفي الحديث: ((اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل العشق، ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم)). [عزاه ابن الأثير في جامع الأصول [2 / 459]، إلى رزين، وذكره الذهبي في الميزان [1/ 553] في ترجمة حصين الفزاري، وقال: تفرد عنه بقية، ليس بمعتمد، والخبر منكر].

قال ابن الأثير في شرح هذا الحديث: "اللحون، والألحان، جمع لحن، وهو: التطريب، وترجيع الصوت، وتحسين قراءة القرآن، أو الشعر، أو الغناء، ويشبه أن يكون هذا الذي يفعله قراء زماننا بين يدي الوعاظ في المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرؤون بها، مما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم –". انتهى.

قال سمير: فاللحن هنا، هو التطريب وتحسين الصوت بالقراءة. [انظر لسان العرب [مادة لحن].

وأما المعازف، فهي آلات العزف والطرب، جمع معزف ومعزفة، كالدفوف وغيرها.

قال الراجز:

للخوتع الأزرق فيها صاهل *** عزف كعزف الدف والجلاجل

[انظر: لسان العرب [مادة عزف].

* وأما "المزامير"، فواحدها مزمار، ومزمور، وهو الآلة التي يزمر بها، ومنه حديث: ((أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ))، وسيأتي تخريجه.

وقد يطلق المزمار على الصوت الحسن أيضاً، يقال: غناء زمير، أي حسن. وزمر: إذا غنى.

قال الشاعر:

دنان حنانان بينهما *** رجل أجش غناؤه زمر

أي: غناؤه حسن.

وفي الحديث: ((لقد أعطيت مزماراً من مزامير آل داود)). متفق عليه. [انظر: جامع الأصول [9 / 79].

وكان داود - عليه السلام - حسن الصوت بالقراءة، فأطلق عليه مزماراً بهذا المعنى، أو لشبهه بالمزامير التي يضرب بها. [انظر لسان العرب [مادة زمر].

* قال سمير: فظهر مما تقدم أن من معاني "الغناء" التطريب، وتحسين الصوت، وهو الذي يعنينا هنا في هذا البحث.

وهو مما يعين كثيراً في فهم سبب الخلاف عند بعض أئمة السلف في الحكم على الغناء؛ لأنه قد يطلق ويراد به مجرد التطريب، أو الترنم بالشعر المباح، فهذا لا حرج فيه ألبتة.

وقد يطلق على ما هو معروف من التطريب بشعر الغزل الملحن بألحان أهل الصناعة، وربما وهو الغالب يصحبه بعض آلات الطرب، وهي المعازف، وتسمى: الملاهي، والمزامير.

"أدلة تحريم الغناء"

وردت أحاديث وآثار تحرم الغناء مطلقاً، دون تفصيل، ومنها:

1- ما ورد في تفسير قول الله - تعالى -: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) [الإسراء 64].

ذكر أئمة التفسير قول مجاهد: "أي: استخفهم باللهو والغناء".

2- وفي تفسير آية: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب أليم) [لقمان 6].

ذكر المفسرون قاطبة قول ابن مسعود - رضي الله عنه - في تفسير لهو الحديث: "الغناء، والله الذي لا إله إلا هو" (يرددها ثلاث مرات). وقد صحح هذا الأثر الحاكم في المستدرك [2 / 411]، وكذا قال ابن عباس، وجابر، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومكحول.

وقال الحسن البصري: "الغناء والمزامير".

وقيل: "هو اشتراء المغنيات من الجواري".

3- تفسير قوله - تعالى - في آخر سورة النجم (وأنتم سامدون).

عن ابن عباس وعكرمة: هو الغناء.

قلت: وقد وردت آثار أخرى أيضاً في ذم الغناء مطلقا، ومنها:

• قول ابن مسعود: "الغناء ينبت النفاق في القلب".

• قول ابن عباس: "الدف حرام، والمعازف حرام، والكوبة حرام، والمزمار حرام".

• مر ابن عمر بجارية صغيرة تغني، فقال: "لو ترك الشيطان أحداً، ترك هذه".

• ورأت أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنه- مغنياً يتغنى في بيت أخيها، ويحرك رأسه طرباً، فقالت: "أف، شيطان أخرجوه، أخرجوه.. ".

• وسأل رجل القاسم بن محمد -وهو أحد الفقهاء السبعة- عن الغناء، فقال: "أنهاك عنه، وأكرهه".

قال الرجل: أحرام هو؟ قال: "يا ابن أخي: إذا ميز الله الحق من الباطل، في أيهما يجعل الغناء"؟

رواه البيهقي [10 / 222 224].

* قال سمير: هذه الآثار والتي قبلها قد احتج بها أئمة التفسير والفقه على تحريم مطلق الغناء، وسيأتي ما ورد فيه التخصيص والاستثناء.

ولا يرتضي الاستدلال بتلك الآثار من لا يحتج بأقوال الصحابة كابن حزم، وأما جمهور أهل العلم فإنهم يحتجون بها في التفسير والأحكام. وإن من أصول التفسير عند أهل العلم من أئمة المذاهب الأربعة: تفسير الصحابي، حتى عده الحاكم وغيره في حكم الحديث المرفوع.

*أما المعازف، فإن أصح حديث وأصرحه في تحريمها، هو حديث البخاري المشهور.

"حديث المعازف"

قال البخاري في صحيحه [5590]: وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال: حدثني أبو عامر، أو أبو مالك، الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف...)) الحديث.

قال سمير: هذا الحديث الصحيح صريح في تحريم المعازف، ولا اعتبار بقول من طعن فيه كابن حزم، فإن البخاري أعلى قدراً ومنزلة من عشرات من مثل ابن حزم، خاصة في علم الحديث والجرح والتعديل، ولا يماري أحد من الخلق في ذلك، ولا يكابر فيه إلا مكابر.

ولو أن أحداً من أقران الإمام البخاري، أو حتى شيوخه: كابن معين، وابن المديني، وأحمد، وإسحق، وأضرابهم طعنوا في هذا الحديث، أو في غيره من أحاديث الصحيح، لما حكم لهم عليه؛ لأن الأمة اتفقت على ترجيح حكم البخاري في صحيحه على حكم غيره، وهذا أمر مقرر في كتب العلم لا يخفى حتى على صغار طلبة العلم.

وقد طعن الإمام الدارقطني في بعض أحاديث الصحيحين، في كتابه: "الإلزامات والتتبع" ولم يحكم له، ولم يلتفت إلى قوله مع شهرته وإمامته في الحديث، وفي العلل والجرح والتعديل.

قال ابن حزم -بعد أن أورد هذا الحديث وغيره-: "هذا منقطع، لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد، ولا يصح في هذا الباب شيء أبداً، وكل ما فيه فموضوع" [المحلى 9 / 59].

قال سمير: لا أظن طالب علم ولو كان مبتدئاً في الطلب، يقبل هذا الكلام في أصح الأحاديث الواردة في الكتب بعد القرآن: صحيح البخاري.

وقد تقحم ابن حزم في أمر لا قبل له به، وأتى هنا بالعجائب، لا لأنه ضعف هذا الحديث فقط، بل لأنه بالغ فحكم عليه بالوضع، الذي هو قرين للكذب!!.

فأي عاقل يرضى بأن يحكم على حديث في صحيح البخاري بالكذب؟ وابن حزم أتي من قصر باعه في معرفة طرق هذا الحديث، وكذا من قبل جهله بمذهب البخاري في معلقاته في صحيحه.

وقول البخاري وغيره في الإسناد قال فلان، يعد من قبيل الحديث المعنعن، فهو مثل قوله: عن فلان، -إن كان قد لقي الراوي-، والأصل أن المعنعن يحمل على الاتصال، إلا إذا ثبت أنه منقطع، أو ظن ذلك كما في عنعنة المدلس.

ومعلوم قطعاً أن البخاري، بل وكل مصنفي الصحاح والمسانيد والسنن الأربعة، ليسوا في عداد أهل التدليس.

وقد ثبت أن البخاري قد لقي هشام بن عمار، وسمع منه، فهذا الإسناد عند الأئمة موصول.

وأما إن كان البخاري لم يلق ذلك الراوي الذي حكى عنه قوله أو فعله، كأن يقول: قال مالك حدثني نافع..، أو يقول: وفعل ابن عباس كذا..، فإن هذا يسمى "الحديث المعلق"، وهو ما سقط أول إسناده.

وقد ذكر أهل العلم -وهو مقرر في كل كتب المصطلح- أن معلقات البخاري على قسمين:

1- المجزوم بها، مثل: قال فلان، وفعل فلان، ونحو ذلك.

2- المروية بصيغة التمريض، مثل: يروى، أو روي عن فلان كذا، أو يحكى عن فلان كذا.

فما كان من القسم الأول فإنه يحكم بصحته، وهذا الحكم خاص بمعلقات البخاري في صحيحه، فيقال: إن الإمام البخاري قد كفانا مؤنة النظر والبحث في إسناده إلى من علقه عنه.

وأما ما علقه بصيغة التمريض، فإنه ينظر فيه، ولا يجزم بصحته، وفيه الصحيح والضعيف، لكن ضعفه ليس بالوهن، بل هو قريب من الحسن.

قال السيوطي في " ألفيته ":

ما أول الإسناد منه يطلق *** ولو إلى آخره معلق

وفي الصحيح ذا كثير فالذي *** أتي به بصيغة الجزم خذ

صحته عن المضاف عنه *** وغيره ضعف و لا توهنه

"الانتصار لحديث البخاري"

* ومن ثم فقد انتصر الأئمة الحفاظ لهذا الحديث، وردوا على ابن حزم تضعيفه له.

قال الحافظ في الفتح [10/ 52 55] -بعد أن نقل كلام ابن الصلاح في تصحيح معلقات البخاري، وتصحيح هذا الحديث خاصة، وتخطئة ابن حزم-: "وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم: يكون صحيحاً إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولاً إلى من علقه بشرط الصحة أزال الإشكال، وقد ذكر شيخنا -أي: العراقي- في شرح الترمذي، وفي كلامه على علوم الحديث، أن حديث هشام بن عمار جاء عنه موصولاً في "مستخرج الإسماعيلي "، قال: حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار...".

ثم ذكر الحافظ أيضاً أن الطبراني في "الكبير"، وأبا نعيم في "المستخرج"، وابن حبان في "صحيحه"، قد أخرجوا الحديث بأسانيدهم إلى هشام بن عمار، فالحديث متصل الإسناد من عدة طرق، فزالت شبهة الانقطاع.

* قال سمير: ولو فرضنا جدلاً أن هذا الحديث ليس في البخاري أصلاً، وإنما أخرجه كل من:

1- الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح، قال: حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار.. الخ.

2- أبو نعيم في مستخرجه على الصحيح: من طريق عبدان بن محمد المروزي، وأبي بكر الباغندي، كلاهما عن هشام به.

3- الطبراني في المعجم الكبير: عن موسى بن سهل الجويني، وعن جعفر بن محمد الفريابي.

وفي مسند الشاميين: عن محمد بن يزيد بن عبد الصمد. كلهم عن هشام به.

4- ابن حبان، في صحيحه: عن الحسين بن عبد الله القطان عن هشام به.

فهذه أسانيد صحيحة متصلة، عن هشام بن عمار، لا مطعن فيها وهي تدحض حجة ابن حزم، ومن قلده في تضعيف هذا الحديث.

فلو فرض أن البخاري لم يخرجه أصلاً في صحيحه، لكن خرجه كل أولئك الأئمة في تلك المصنفات المشهورة، التي قد أطلق على بعضها لقب: "الصحيح"، كصحيح ابن حبان، ومستخرجي: الإسماعيلي وأبي نعيم، فبأي حجة يضعف مثل هذا الحديث؟!.

وتخريج البخاري له بعد ذلك ولو تعليقاً إنما يزيده قوة، لا ضعفاً، كما لا يخفى على من له أدنى دراية بعلم الحديث.

وأنا أجزم أن الإمام ابن حزم لم يقف على أي من تلك الطرق الموصولة عن هشام بن عمار في غير صحيح البخاري، وإلا لحكم بصحة الحديث.

ثم يقال أيضاً: إن هذا الحديث قد ورد من طريق آخر، فقد رواه البيهقي في السنن [10 / 221] من طريق أبي صالح قال: حدثنا معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، ويضرب على رؤوسهم المعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير)).

قلت: ذكر هذه الرواية ابن حزم في المحلى، وحكم عليها أيضاً بالوضع، وقال: معاوية بن صالح ضعيف، كذا قال!.

وقد ترجم ابن حجر في "التهذيب" [10 / 210] لمعاوية، ونقل توثيقه عن: أحمد، وابن معين، وابن مهدي، وابن سعد، وابن حبان، والبزار، والعجلي، والنسائي، وأبي زرعة، وقال ابن عدي وابن خراش: صدوق. فهؤلاء أعلم من ابن حزم، وقولهم في الراوي مقدم بلا شك على قوله، وقول عشرات من أمثاله.

" أحاديث أخرى في المعازف "

ثم إنه قد وردت أحاديث كثيرة، تؤيد حديث البخاري، منها الصحيح، ومنها الضعيف.

ومن تلك الأحاديث:

1- حديث ابن عمر –رضي الله عنه-، رواه أبو داود في سننه [4924] من طريق نافع قال: "سمع ابن عمر مزماراً قال: فوضع أصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئاً؟ قال: فقلت لا، قال: فرفع أصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا".

أخرج أبو داود هذا الحديث في "باب كراهية الغناء والزمر"، وقال عقبه: هذا حديث منكر.

قلت: قد يطلق المتقدمون من أئمة الحديث لفظ "منكر" على بعض الأحاديث، ويقصدون به التفرد، ولو من الثقة. [انظر: شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي [2/ 652 659].

وذكر الذهبي في كتاب "الموقظة" أن تفرد الصدوق قد يعد منكراً، فالحكم بالنكارة على إسناد أو متن عند الأئمة المتقدمين، لا يقصد به ما اصطلح عليه أكثر المتأخرين من علماء الحديث.

والذي يظهر لي هنا: أن أبا داود قصد أن يضعف هذا الإسناد؛ لتفرد بعض الثقات به، لكنه احتج به على كراهة الغناء والمعازف؛ لأن متنه له شواهد.

وقد كان كثير من أئمة السلف من الفقهاء والمحدثين، يطلق الكراهة، ويعنون بها: كراهة التحريم.

وقد ذكر الكتاب العزيز جملة من المحرمات "الموبقات"، ثم قال: (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها).

وقد احتج بحديث ابن عمر أيضاً البيهقي في سننه [10/ 222]، وبوب له بقوله: "باب ما جاء في ذم الملاهي من المعازف والمزامير ونحوها".

والعجيب أن ابن حزم ساق هذا الحديث في المحلى، واحتج به على إباحة سماع المعازف، فقال بعد أن صحح إسناده: "ولو كان المزمار حراماً سماعه، لما أباح - عليه السلام - لابن عمر سماعه، ولو كان عند ابن عمر حراماً سماعه لما أباح لنافع سماعه، ولأمر - عليه السلام – بكسره".

قلت: فانظر كيف خالف الأئمة في فقه الحديث، حيث قلب الدليل وعكس الاستدلال، كما خالفهم أيضاً في الحكم على الإسناد، فإنه صححه وقدمه على حديث البخاري السابق.

2- وأخرج أبو داود [4927] في الباب السابق أيضاً، من حديث أبي وائل عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((الغناء ينبت النفاق في القلب)).

قلت: سكت عليه أبو داود.

وقد تقرر عند أهل العلم أن سكوت أبي داود على الحديث في سننه يعني أنه صالح عنده ما لم يكن ظاهر الضعف.

قال السيوطي:

قـال أبو داود في كتــابه *** ذكرت ما صح وما يشابه

وما لم يضعفه ولا صح حسن *** لديه مع جواز أنه وهـن

* قلت: وقد روي هذا الحديث موقوفاً على ابن مسعود، ورجح ابن القيم وغيره الموقوف.

وبالغ ابن حزم فحكم عليه بالوضع!.

3- حديث ابن عباس مرفوعاً: ((إن الله حرم علي، أو حرم الخمر والميسر، والكوبة...)) الحديث.

رواه أبو داود في [3696] وأحمد [1 / 274] والبيهقي [10 / 221] من طريق سفيان الثوري عن علي بن بذيمة عن قيس النهشلي عن ابن عباس.

قال سفيان: "فسألت علي بن بذيمة عن الكوبة، قال: الطبل".

قال سمير: هذا إسناد مسلسل بالثقات، فإن الإمام أحمد رواه عن شيخه أبي أحمد وهو ثقة، واسمه محمد بن عبد الله بن الزبير، عن سفيان وهو ثقة إمام، عن علي بن بذيمة وهو ثقة، عن قيس بن حبتر وهو ثقة، عن ابن عباس.

و رواه أبو داود عن شيخه محمد بن بشار وهو ثقة، عن أبي أحمد به.

وقد فسر علي بن بذيمة "الكوبة " بالطبل، وراوي الحديث أعرف بمرويه من غيره، كما هو مقرر في الأصول.

وقد وردت لهذا الحديث شواهد من حديث عبد الله بن عمرو، وقيس بن سعد، أخرجها البيهقي، وفيها ذكر "الكوبة"، وبعضها زاد معها "القنين"، وقد فسره أبو زكريا -أحد الرواة- أنه "العود".

قلت: لم يذكر ابن حزم هذا الحديث، في جملة ما ذكره من الأحاديث، مع أنه مشهور، وهذا مما يؤكد لك قلة اطلاعه على الروايات، وهو مما قد يعذر فيه، لكنه يقطع عذر كل من بلغه ممن قلده.

4- حديث أبي أمامة مرفوعا: ((لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام...)) الحديث.

رواه الترمذي [1283] من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة.

قال الترمذي: "وفي الباب عن عمر بن الخطاب..، وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد، وضعفه، وهو شامي".

وأخرجه الترمذي أيضاً في موضع آخر [3195] وقال: "حديث غريب، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث، قاله محمد بن إسماعيل -يعني: الإمام البخاري-" انتهى.

قال سمير: هذا إسناد ضعيف، كما أشار الترمذي في نقله عن شيخه إمام المحدثين البخاري، وبين أن سبب ضعفه: علي بن يزيد.

أما القاسم بن عبد الرحمن فهو ثقة.

وقد ترجم له ابن حجر في "التهذيب"[8 / 322]، ونقل توثيق الأئمة له: ابن معين، والعجلي، ويعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة، والترمذي، وأبي إسحق الحربي.

وقال أبو حاتم: لا بأس به.

لكن ابن حزم خالف كل أولئك الأئمة في حكمه على القاسم بالضعف، بل بالغ فحكم على الحديث بالوضع!.

قال سمير: حديث أبي أمامة هذا له طريق آخر، فقد أخرجه ابن ماجه في سننه [2168] من طريق أبي جعفر الرازي عن عاصم عن أبي المهلب عن عبيد الله الإفريقي عن أبي أمامة، بنحوه.

وهو على كل الأحوال، لا يصح أن يحكم عليه بالوضع كما زعم ابن حزم، بل مثله يتقوى بالشواهد.

5- حديث جابر مرفوعا: ((إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة، لهو ولعب، ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه وشق جيوب، ورنة الشيطان)).

رواه البغوي في شرح السنة [5/431]، والبيهقي [4/69]، وروى نحوه الترمذي [1005] من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر.

وقد حسنه البغوي والترمذي ولا التفات لقول من ضعفه، لسوء حفظ راويه ابن أبي ليلى، فإن سيئ الحفظ لا يطرح كل حديثه، بل تسبر مروياته، فيطرح منها ما أخطأ فيه، ويقبل ما سواها.

وهذا هو منهج عامة أهل العلم، من أئمة الحديث المتقدمين، وقليل من العارفين من المتأخرين، في الحكم على الأسانيد و المرويات، فإنهم لا يردون أحاديث الضعفاء مطلقاً، كما لا يقبلون أحاديث الثقات مطلقاً.

قلت: وهذه الرواية لم يطلع عليها ابن حزم، فإنه ذكرها من غير إسناد وقال: "وحديث لا ندري له طريقاً"، ثم ذكره وقال: "وهذا لا شيء"، كذا قال، مع أن الرواية أمامك، وقد أسندها أئمة الحديث في المصنفات المشهورة.

* والخلاصة: أن تحريم المعازف قد ثبت بحديث البخاري الذي لا مطعن فيه عند من يعتد بقوله من أهل العلم، وقد أيدته أحاديث كثيرة، اكتفيت بذكر بعضها خوف الإطالة. ولا شك عند كل من لديه مسكة علم أن مثل تلك الشواهد تقوي وتؤيد حديث البخاري، وأن الحكم عليها بالضعف يعد مناقضة صريحة لما اتفق عليه أهل العلم، فإنهم قد صححوها واحتجوا بها.

وأما الحكم عليها بالوضع كما زعم ابن حزم فهو ضرب من المجازفة، والتقول في الحلال والحرام بغير علم!.

هذا وقد صرح ابن حزم بكلام يقطع عذر كل من قلده في هذه المسألة، حيث قال بعد أن ضعفها كلها: "ولا يصح في هذا الباب شيء أبداً وكل ما فيه فموضوع، ووالله لو أسند جميعه، أو واحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ترددنا في الأخذ به".

قلت: وهذا هو الظن بأبي محمد بن حزم - رحمه الله -، ونرجو أن يكون ممن قد عذره الله في مثل هذا الخطأ، بل نسأل الله أن يؤجره على اجتهاده، وإن أخطأ فيه.

وقد أخطأ مئات وألوف غيره من الأئمة والعلماء المجتهدين في مسائل أعظم من هذه، ونرجو لهم المغفرة و الأجر في ذلك.

لكن هذا لا يعذر من قلدهم في أخطائهم وزلاتهم بعد بلوغ الحجة، وظهور المحجة، والله يتولانا برحمته وعفوه.

"الغناء المباح"

تقدم من قبل ذكر معنى الغناء في لغة العرب، وأنه يقصد به أحياناً: "الصوت والتطريب"، وهذا يعم كل تطريب، سواء كان بشعر الرثاء، أو الحماسة، أو كان بشعر الغزل والتشبيب.

وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث والآثار في تحريم الغناء وذمه.

وقد وردت أحاديث وآثار تدل على إباحة بعض أنواع الغناء.

ففي الصحيحين من حديث عائشة قالت: "دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث -وليستا بمغنيتين-، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((دعهما، إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا)).

وفي بعض الروايات التصريح بأن ذلك كان في يوم العيد، أو في أيام منى، وأن الغناء كان بالدف.

[انظر جامع الأصول [8 / 453].

قال ابن الأثير: "أراد بالغناء هاهنا: أنهما كانتا تنشدان شعراً قيل يوم بعاث، ولم يرد الغناء الذي هو ذكر الخنا والفحش والتعرض بالنساء..."، إلى أن قال: "وقد رخص عمر بن الخطاب في غناء الأعراب، وهو صوت كالحداء". انتهى.

وقال النووي -بعد أن ذكر أن "بعاث" هو يوم جرت فيه حرب في الجاهلية بين الأوس والخزرج، < قولها: "ليستا بمغنيتين"، معناه: ليس الغناء عادة لهما، ولا هما معروفتان به.

واختلف العلماء في الغناء، فأباحه جماعة من أهل الحجاز، وهي رواية عن مالك، وحرمه أبو حنيفة وأهل العراق.

ومذهب الشافعي كراهته، وهو المشهور من مذهب مالك. واحتج المجوزون بهذا الحديث.

وأجاب الآخرون: بأن هذا الغناء إنما كان في الشجاعة والقتل... ونحو ذلك مما لا مفسدة فيه، بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر، ويحملها على البطالة والقبيح.

قال القاضي: "إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب، والمفاخرة بالشجاعة، والظهور والغلبة".

وهذا لا يهيج الجواري على شر، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت: "وليستا بمغنيتين"، -أي: ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى، والتعريض بالفواحش، والتشبيب بأهل الجمال، وما يحرك النفوس، ويبعث الهوى والغزل، كما قيل: "الغناء رقية الزنا".

وليستا أيضاً ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط، وتكسير، وعمل يحرك الساكن، ويبعث الكامن، ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسباً.

والعرب تسمي الإنشاد غناء، وليس هو من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم، وأجازوا الحداء، وما في معناه، وهذا ومثله ليس بحرام". انتهى. شرح مسلم [578 579].

قال سمير: وفي هذا الشرح من كلام الإمامين: النووي، والقاضي عياض، تلخيص لحكم الغناء، وجمع للأقوال والمذاهب، ورد على من استدل بهذا الحديث، وما في معناه، على إباحة كل أنواع الغناء.

وكل الأئمة المشاهير من السلف والخلف، من المفسرين والفقهاء وشراح الحديث على هذا القول، ولم يشذ عنهم إلا القليل.

وأطال الحافظ ابن حجر الكلام في شرح الحديث، وذكر أن أبا بكر قد توجه له الإنكار على ابنته، مستصحباً لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو، فبادر إلى إنكار ذلك قياماً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، مستنداً إلى ما ظهر له، فأوضح له النبي - صلى الله عليه وسلم - الحال، وعرفه الحكم مقروناً ببيان الحكمة بأنه يوم عيد –أي: يوم سرور شرعي-، فلا ينكر فيه مثل هذا، كما لا ينكر في الأعراس.

ثم قال الحافظ: "واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء، وسماعه بآلة وبغير آلة، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث بقولها: "وليستا بمغنيتين"، فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ؛ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت، وعلى الترنم الذي تسميه العرب "النصب"، وعلى الحداء، ولا يسمى فاعله مغنياً، وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير، وتهييج، وتشويق، بما فيه تعريض بالفواحش، أو تصريح".

قال الحافظ: "قال القرطبي: قولها "ليستا بمغنيتين"، أي: ليستا ممن يعرف الغناء، كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء، والخمر، وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه.

ثم قال القرطبي: "وأما ما ابتدعه الصوفية في ذلك، فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة، وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وأن ذلك يثمر "سني" الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة، وقول أهل المخرقة، والله المستعان". انتهى باختصار من الفتح [2/ 442].

وقال ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: "لا ريب أن العرب كان لهم غناء يتغنون به، وكان لهم دفوف يضربون بها، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب، وندب من قتل فيها، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل ليس فيها جلاجل.."

فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص لهم في أوقات الأفراح، كالأعياد، والنكاح، وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار، وما كان في معناها.

فلما فتحت بلاد فارس والروم، ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد اعتادوه من الغناء الملحن، بالإيقاعات الموزونة على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات، من الخمور، والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس، المجبول محبته فيها بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال.

فحينئذ أنكر الصحابة الغناء، واستماعه، ونهوا عنه، وغلظوا فيه، حتى قال ابن مسعود: "الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل". وروي عنه مرفوعاً.

وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم – لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده، مما يتعارفه العرب بآلاتهم.

فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة وإن سمي غناء، وسميت آلاته دفوفاً، لكن بينهما من التباين ما لا يخفى على عاقل، فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى، ويغير الطباع، ويدعو إلى المعاصي فهو: "رقية الزنا".

وغناء الأعراب المرخص فيه، ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة، فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظاً ولا معنى، فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى "غناء"، ولا "دفا"، وإنما هي قضايا أعيان وقع الإقرار عليها، وليس لها عموم، وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصلة؛ لأن غناءهم ودفوفهم تحرك الطباع، وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب.

وقد صحت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذم من يستمع إلى القينات في آخر الزمان، وهو إشارة إلى تحريم سماع آلات الملاهي المأخوذة عن الأعاجم.

وقد خرج البخاري في الأشربة حديث عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك أو أبي عامر الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال فيه: قال هشام بن عمار، والظاهر أنه سمعه من هشام.

وقد رواه عن هشام: الحسن بن سفيان النسوي، وخرجه من طريقه البيهقي وغيره.

وخرجه الطبراني: حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد، حدثنا هشام بن عمار. فصح، واتصل عن هشام.

ثم نقل ابن رجب كلام الخطابي بنحو ما تقدم عن الأئمة؛ أن غناء الجواري وغيرهن ليس هو الغناء المحظور، وإنما هو من جنس غناء العرب، كالنشيد والحداء والنصب.

ثم قال ابن رجب: "وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل بأنها أيام عيد، فدل على أن المقتضي للمنع قائم، لكن عارضه معارض وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد.

وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف "مزمور الشيطان"، وهذا يدل على وجود المقتضي للتحريم، لولا وجود المانع".

ثم قال ابن رجب: "ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء وذمه، وذم استماعه، ولم يرخص فيه أحد يعتد به.

وقد حكيت الرخصة فيه عن بعض المدنيين.

وقد روى الإمام أحمد عن إسحق الطباع أنه سأل مالكاً عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال

"إنما يفعله عندنا الفساق"، وكذا قال إبراهيم بن المنذر الحزامي -وهو من علماء أهل المدينة أيضاً-، وقد نص أحمد على مخالفة ما حكي عن المدنيين في ذلك.

وكذا نص هو وإسحق على كراهة الشعر الرقيق الذي يشبب به بالنساء.

وقال أحمد: "الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب "أتيناكم أتيناكم".

ثم قال ابن رجب: "وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم؛ فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منهم الرخصة في شيء من ذلك، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى.

وأما دف الأعراب الخالي عن الجلاجل المصوتة ونحوها، فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب:

أحدها: أنه يرخص فيه مطلقاً للنساء، وقد روي عن أحمد ما يشهد له.

الثاني: إنما يرخص فيه في الأعراس ونحوها، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وهو قول كثير من أصحابنا، أو أكثرهم.

الثالث: أنه لا يرخص فيه بحال، وهو قول النخعي، وأبي عبيد، وجماعة من أصحاب ابن مسعود...". انتهى. باختصار من فتح الباري لابن رجب [8 / 426 437].

* قال سمير: وإنما أطلت هنا في نقل كلام ابن رجب؛ لما فيه من فوائد، واختصار للأقوال والمذاهب.

ويشهد لحديث عائشة أيضاً حديث الربيع بنت معوذ قالت: "جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل حين بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد

فقال: ((دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين)). رواه البخاري [5147].

قال الحافظ: "قال المهلب: في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح". انظر الفتح [9/203].

ويشهد له أيضاً حديث عائشة "أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو)). رواه البخاري [5162]، والبغوي في شرح السنة [9/ 49]. قال البغوي: "وضرب الدف في العرس والختان رخصة".

وذكر الحافظ في الفتح [9 / 226] أن في رواية الطبراني في الأوسط زيادة قوله: ((فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟)) قلت: تقول ماذا؟ قال: ((تقول:

أتيناكم أتيناكـم *** فحيانا و حياكم

ولولا الذهب الأحمر *** ما حلت بواديكم

ولولا الحنطة السمراء *** ما سمنت عذاريكم)).

قال سمير: وبالجملة فقد رأيت أقوال شراح الحديث، واتفاقهم على أن أحاديث الرخصة في الغناء لا تتعارض مع ما تقدم من أحاديث وآثار في تحريم "الغناء" والمعازف.

"تأييد مذهب الأئمة"

قد نقلنا جملة من أقوال أئمة المذاهب الأربعة والفقهاء في حكم "الغناء"، وإليك مزيد تأييد لما تقدم:

1- قال ابن عبد البر -حافظ المغرب، من أقران ابن حزم، توفي سنة 463 للهجرة-، في شرحه لحديث فيه إنشاد بعض الصحابة للشعر، ورفعهم أصواتهم به:

"وفي هذا الحديث دليل على أن رفع الصوت بإنشاد الشعر مباح، وهذا الباب من الغناء قد أجازه العلماء، ووردت الآثار عن السلف بإجازته، وهو يسمى: غناء الركبان، وغناء النصب، والحداء.

هذه الأوجه من الغناء لا خلاف في جوازها بين العلماء".

ثم ذكر أثر عمر بن الخطاب: "الغناء من زاد الراكب"، وذكر آثاراً أخرى في ذلك، وحداء أنجشة وغيره، ثم قال: "فهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء، إذا كان الشعر سالماً من الفحش والخنا".

وأما الغناء الذي كرهه العلماء، فهذا الغناء بتقطيع حروف الهجاء، وإفساد وزن الشعر، والتمطيط به؛ طلباً للهو والطرب، وخروجاً عن مذاهب العرب.

والدليل على صحة ما ذكرنا: أن الذين أجازوا ما وصفنا من النصب والحداء، هم كرهوا هذا النوع من الغناء". ثم ذكر أثر ابن مسعود "الغناء ينبت النفاق في القلب".

وقول القاسم حين سئل عن الغناء فقال: "هو باطل... ".

وحديث: ((صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما: صوت مزمار.. )) الحديث.

ثم ذكر حديث عائشة في الغناء في العيد، وقال: وقد رويت الرخصة في الألحان التي تعرفها العرب، ورفع العقيرة بها دون ألحان الأعاجم المكروهة عن جماعة من علماء السلف، لو ذكرناهم لطال الكتاب بذكرهم...". انتهى باختصار من التمهيد [22 / 196 199].

قال سمير: وما ذكره ابن عبد البر يؤيد ما ذكر سابقاً: من أن إباحة بعض السلف للغناء، إنما المقصود به غناء الركبان ونحوه، وليس هو من الغناء المحظور.

2- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -في معرض كلامه عن سماع الصوفية، والضرب على الطبول، أو بالقضيب على الجلود: "فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب، فلا ريب في ضلالته وجهالته.

وأما إذا فعلها على وجه التمتع، والتلعب، فمذهب الأئمة الأربعة: أن آلات اللهو كلها حرام.

فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر، والحرير، والخمر، والمعازف، وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير.

"والمعازف "، هي: الملاهي، كما ذكر ذلك أهل اللغة، جمع "معزفة"، وهي الآلة التي يعزف بها، أي: يصوت بها.

ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً، إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ذكر في اليراع وجهين، بخلاف الأوتار ونحوها، فإنهم لم يذكروا فيها نزاعاً.

وأما العراقيون الذين هم أعلم بمذهبه، وأتبع له، فلم يذكروا نزاعاً لا في هذا، ولا في هذا، بل صنف أفضلهم في وقته: أبو الطيب الطبري في ذلك مصنفاً معروفاً.

ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو: هل هو حرام، أو مكروه، أو مباح؟

وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال، وذكروا عن الشافعي قولين، ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعاً.

وما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو القاسم القشيري وغيرهما، عن مالك وأهل المدينة في ذلك فغلط.

وإنما وقعت الشبهة فيه؛ لأن بعض أهل المدينة كان يحضر السماع، إلا أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم.

بل قال إسحق الطباع: سألت مالكاً عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق". وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك، وهم أعلم بمذهبه، ومذهب أهل المدينة من طائفة في المشرق لا علم لها بمذهب الفقهاء.

وإنما نبهت على هذا؛ لأن فيما جمعه أبو عبد الرحمن السلمي، ومحمد بن طاهر المقدسي، في ذلك حكايات وآثار، يظن من لا خبرة له بالعلم وأحوال السلف أنها صدق". انتهى باختصار من مجموع الفتاوى [11 / 576 578].

3- ولابن القيم بحث ماتع في بيان حكم "الغناء"، سطره في كتابه النفيس: "إغاثة اللهفان"، في الباب الثالث عشر، وأطال فيه النفس جداً، وتوسع في نقل الأقوال والمذاهب وأدلتها بما يغني ويشفي، بحيث لا أظن أنه يحتاج بعده أحد إلى أن ينظر في كتاب غيره، في بيان حكم هذه المسألة.

ومما قاله - رحمه الله -: "ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن..." ثم ذكر هذه الأبيات:

تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة *** لكنه إطراق ساه لاهي

وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا *** والله ما رقصوا لأجل الله

دف ومزمار ونغمة شادن *** فمتى رأيت عبادة بملاهي

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا *** تقييده بأوامر و نواهي.. ".

ثم ذكر ابن القيم أبياتاً أخرى:

برئنا إلى الله من معشر *** بهم مرض من سماع الغنا

وكم قلت يا قوم أنتم على *** شفا جرف ما به من بنا

شفا جرف تحته هوة *** إلى درك كم به من عنا

وتكرار ذا النصح منا لهم *** لنعذر فيهم إلى ربنا

فلما استهانوا بتنبيهنا *** رجعنا إلى الله في أمرنا

فعشنا على سنة المصطفى *** وماتوا على تنتنا تنتنا.. "،

ثم أطال - رحمه الله - في نقل مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم في هذه المسألة، بما لا مزيد عليه.

وصدق - رحمه الله - في قوله:

حب القران وحب ألحان الغنا *** في قلب عبد ليس يجتمعان

و قد أفرد بعض الأئمة مصنفات مستقلة في حكم "السماع"، كابن رجب وغيره، وردوا على من أباحه من الطائفتين:

أهل الشبهات من علماء التصوف، ومنهم: القشيري، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأضرابهما.

ومن أخطأ من العلماء كابن حزم، فأباحوا الملاهي و"الغناء".

" الخاتمة "

وخلاصة ما ذكرناه في هذا البحث: أن جماهير أهل العلم من السلف والخلف إلا من شذ عنهم اتفقوا على تحريم "الغناء" والمعازف، وأن من أباح منهم الغناء، فإنما قصد به غناء العرب الذي هو ضرب من النشيد والحداء والنصب، وهذا يختلف عن غناء أهل الفسق والخنا.

وقد استثنى أهل العلم من المعازف الدف؛ وذلك لثبوت إباحته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعض أهل العلم خصوا ذلك للنساء في الأعراس والأعياد و نحوها، والله - تعالى -أعلم.

هذا، وإني أحب أن أنبه إخواني من أهل العلم إلى ضرورة التريث في إطلاق الأحكام، فإن مقام الفتيا عظيم، ولكل علم أهله ورجاله المختصون به، ولا يصلح أن يتكلم كل أحد لمجرد أنه رأى رأياً يخالف فيه ما قاله من قبل، أو يعارض فيه ما قرره كبار أهل العلم، أو يقصد به أن يتزلف إلى العامة، ويتصدر به المجالس والمنابر، والبرامج الفضائية وغيرها.

أحدهم: يبيح الاختلاط و(توابعه)!، وآخر: يبيح حل السحر بالسحر، وإرضاع السائقين والعمال!

وثالث: يبيح سماع المعازف والغناء! وهلم جرا...

والله - تعالى -أعلم بما تحمله الأيام، وتخبئه الأقدار، من فتاوى شاذة وشبهات، يقذفها من كان يظن فيه أنه من أهل النصح للأمة، والغيرة على الدين والحرمات!.

وأرى أن هؤلاء ومن على شاكلتهم أولى من ينطبق عليه قول معاذ بن جبل - رضي الله عنه - "إن من ورائكم فتناً: يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني، وقد قرأت القرآن؟

ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره. فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق.. ".

إلى أن قال: "اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات، التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا". انظر سنن أبي داود [4611].

اللهم ثبت قلوبنا على الملة، وسدد ألسنتنا على السنة، واختم لنا بأحسن الختام.

  • 14
  • 3
  • 24,448

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً