هل الإلزام بأحكام الإسلام يؤدي إلى النفاق ؟

منذ 2015-01-29

يقول لك حامل هذا الاستشكال: إنه لا يمكن الإلزام بأحكام الشريعة لأنه يورث النفاق، فالناس حين لا تقتنع بالحكم فإنها ستمارسه في الخفاء، فالمطلوب هو غرس القيم الإيمانية وتعزيز انتماء الناس لدينهم وهويتهم، والاجتهاد في نصحهم ووعظهم حتى يقوموا بالدين من ذات أنفسهم، وأما مع الإلزام فهو إكراه ينافي الإسلام ويؤدي للنفاق.

في أكثر من لقاء قضائي.

وفي إشارات قليلة في بعض المؤلفات المعاصرة.

وفي كلام كثير في الشبكات الاجتماعية.

يتردد الحديث بأن تحكيم الشريعة يؤدّي إلى النفاق، وأن الشريعة لا تلزم الناس بأحكامها لأن ذلك سيخلق مجتمعاً منافقاً، ولهذا كان من دلائل الشريعة أن (لا إكراه في الدين).

فهل الإلزام بالشريعة أو ببعض أحكامها يؤدّي للنفاق؟

يقول لك حامل هذا الاستشكال: إنه لا يمكن الإلزام بأحكام الشريعة لأنه يورث النفاق، فالناس حين لا تقتنع بالحكم فإنها ستمارسه في الخفاء، فالمطلوب هو غرس القيم الإيمانية وتعزيز انتماء الناس لدينهم وهويتهم، والاجتهاد في نصحهم ووعظهم حتى يقوموا بالدين من ذات أنفسهم، وأما مع الإلزام فهو إكراه ينافي الإسلام ويؤدي للنفاق.

وثم تفاوت في إعمال هذا الكلام: فبعضهم: ينفي بسبب هذا عن الإسلام أي إلزام، ويجعله مجرد رسالة روحية فردية بين العبد وبين ربه ولا علاقة له بنظام ولا حكم لأن حين يرتبط بالدولة يتحوّل من رسالة هداية إلى وسيلة قمع، وهؤلاء هم العلمانيون الخلّص.

وبعضهم: يأتي بمثل هذا الكلام لكن في جانب معين من الدين وهو ما يتعلّق بالرأي، فما كان رأياً ليس فيه أي اعتداء فلا إلزام ولا منع له لأن منعه سيعزز النفاق.

وبعضهم: يأتي به ليعلّق الإلزام بالشريعة والحكم بها بطريقة معينة معاصرة، طريقة الدساتير والاختيار بطريقة محددة معروفة، فإذا اختار الناس الإلزام بهذه الطريقة فلا بأس، وإلا فهو مرفوض، ولا يمكن تطبيق الشريعة بغير هذه الطريقة لأن هذا حق من حقوق الأمة.

فهذه اتجاهات مختلفة كلّها تستدل بشكل أو بآخر- بشبهة ترتب النفاق على الإلزام بالشريعة.

إذن: الحديث هنا ليس عن الإيمان بالحكم الشرعي، بل عن مستوى الإلزام.

لا حاجة هنا أن يعترض أحد فيقول (إن صاحب هذا الاستشكال لا يؤمن بالنص ولا بحكمه) لأن هذا ليس محلّ السؤال، الحديث تحديداً عن الإلزام بالحكم.

ولا حاجة لصاحب السؤال بأن يجيب (بأنه مؤمن بالنص)، لأن الخلاف تحديداً عن الإلزام بالنص وليس عن مجرد الإيمان به.

هذا هو تفصيل السؤال، وهو يحمل في طياته خللاً بينا وتصوّرا خاطئاً وإشكالات مركّبة، ستظهر بإذن الله من خلال تفكيك هذا السؤال ومناقشة مقدماته وإظهار مخفياته.

فهذا السؤال يحمل ثلاث إشكالات رئيسية:

الأول: إلغاء وصف (الإلزام) في الشريعة تصريحاً أو مآلاً.

الثاني: الخلل في فهم النفاق ومعرفة أسبابه.

الثالث: الخلل في تصوّر الإلزام وأثره.

وحجم هذه الإشكالات يتضح بإذن الله- مع استعراض هذه العناصر:

(1) يجب التفريق أولاً- بين ترك الإلزام بالشريعة في ظرف ما، أو مكان ما، أو لسبب ما،وبين التأصيل الكلّي العام الذي يعود على مفاهيم الشريعة بالنقض والتحريف.

فهذا التأصيل - بجعل الإلزام يؤدي للنفاق- يرجع على أصل الإلزام بالشريعة بالنقض.

فإذا كان الإلزام بالشريعة يؤدي إلى النفاق فمعناه أن الشريعة يجب أن لا يكون فيها إلزام، ولو وجد فيها إلزام فهو مفسدة ظاهرة تؤدي للنفاق ولا فائدة منها ويجب تبرئة الشريعة من هذه النقيصة، وهذا هو لازم مؤدٍ للوقع في الفكرة العلمانية الصريحة التي غمرتها الأمة كرهاً ونفرة.

وهنا تكمن المشكلة:

فالإلزام ببعض أحكام الشريعة قد لا يكون ممكناً في بلد ما، أو يترتب عليه مفاسد أعظم في حالة ما، الخ هذه الأسباب التي يجب مراعاته عند تطبيق الأحكام الشرعية، فالموقف الصحيح حينها أنه واجب شرعي يسقط لعدم القدرة، وهذا أصل شرعي محكم: (فاتقوا الله ما استطعتم) (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وقاعدة السياسة في الإسلام تقوم على الأخذ بأرجح المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين، فالإلزام ليس فرضاً في كل زمان ومكان وحال وشخص ونظام، بل قد يسقط أو يؤجل لاعتبارات عدة، وكلنا نتفهم مثلاً: موقف (حركة النهضة) التونسية في عدم الإلزام بالأحكام الشرعية فليست الخلاف في عدم تطبيقها، ولا محلّ الخلاف هنا (هل يجب عليهم أن يلزموا الناس الآن بالشريعة).

إذن أين المشكلة؟

المشكلة أن يتحول الاستثناء إلى أصل، وتترحّل الضرورة إلى أصل ثابت وأساس محكم، فالقول بأن النفاق تابع وأثر للإلزام يعني أن أصل الإلزام كله مرفوض مطلقاً، وأن الشريعة ليس فيها إلزام، وهذا تجاوز وحذف لأصل شرعي ثابت ومجمع عليه ولا يمكن إنكاره، وكون الإنسان لا يستطيع تنفيذه أو يرى أن ثم ما هو أولى منه أو يرى أن تنفيذه سيثير مفاسد معينة، كلّ هذا لا يعني أن يلغي المفهوم.

فالإنسان قد يضطر لشرب الخمر مثلاً، وهو شيء مقبول، بل ويجب عليه أن يشربه، ولو قال إن الخمر شراب من ضمن الأشربة ولا تشددوا على الناس لعد قوله منكراً شنيعاً ولو كان مضطراً، لأن الضرورة في الشرب وليس في تغيير الحكم الشرعي.

فالإشكال ليس في (التطبيق) الذي سيجري في تونس أو في تركيا أو في غيرها، بل في (المفهوم الشرعي).

حينها فلا معنى لما يكرره كثير من الفضلاء من أنكم لا تدركون ولا تفقهون الواقع في تلك البلاد.

فأياً ما كان مستوى فقه العلماء لذلك الواقع، لا علاقة بهذا بأساس الخلل.

القضية متعلقة بمفهوم شرعي، وليس بتطبيق معين في أي بلد، فالقضية علم بأحكام شرعية ثابتة وليس علم بواقع مجتمع معين.

فكون البلد يعاني من مشكلات معينة، ويجد الدعاة فيه إشكالات وإحراجات كثيرة، كلّ هذا لا يجيز تحريف الأحكام الشرعية أو تغيير مفاهيمها، فهذا دين وشرع من عند الله، الحديث فيه قول على الله، والقول على الله بلا علم مزلق عظيم: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فحاجة المجتمع والمتغيرات التي يعيشها ليست عذراً لأحد في حذف شيء من الشريعة أو إدخال شيء فيها، والعناية بهذا الموضوع ليس ترفاً علمياً أو سجالاً جدلياً بل هو من بيان أحكام الشرع، وحفظ المفهوم الشرعي مطلب بحدّ ذاته من جهة، ومن جهة أخرى: فوضوحه للناس سبب لأن يتمسكوا به ويطالبوا به حتى يستطيعوا تحكيمه فيما بعد، ومن جهة ثالثة: أن حاجة المجتمعات تختلف فإذا لم يستطع بلد أن يطبق بعض أحكام الشريعة فثم مجتمعات تستطيع أن تطبقه، فيجب أن تكون الحكم الشرعي بيناً لا تختلط فيه صورة الأصل مع الضرورة.

(2) ومن يلتزم بهذه الشبهة سيقع في إشكال عميق مع قائمة طويلة من الأحكام الشرعية، وسيطول عليه أساليب التأويل والتحريف والتغيير.

فالقضية ليست نصاً جزئياً يمكن أن يتأول أو يكون ضعيفاً.

الإلزام أصل شرعي محكم يقوم على نصوص وأحكام وقواعد لا تحصر، وسأعدد سريعاً لتوضيح حجم هذا الأصل بعض هذه الأحكام:

- الحدود الشرعية، ففي القرآن حد السرقة: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وحد الزنا: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وفي السنة حد شرب الخمر، فهذه ليست إلزامات فقط، بل عقوبات على هذه الجرائم، وعقوبات صريحة وصحيحة وواضحة، تعني تجريم الفعل وتحديد عقوبة معينة عليه، فهو إلزام بترك الفعل، وإلزام بعقاب معين، فهل نتعامل مع هذه الحدود على مبدأ: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) أم على مبدأ إن الإلزام يؤدي للنفاق؟

- تغيير المنكر، الثابت شرعاً؛ كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)) فالتغيير باليد يعني منعاً وإزالة، وهو إلزام على التزام أحكام الشريعة، وهو خطاب لعموم الناس وليس خاصاً فقط بالنظام، فهل الواجب تغيير المنكر أم هو داع للنفاق؟

- التحاكم إلى الشرع، فقد أمر الله بالتحاكم إلى كتابه فقال - سبحانه -: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وقال - تعالى -: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون). وقوله - تعالى -: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) فهذه آيات صريحة على وجوب التحاكم إلى الشريعة، ولو لم يكن في الشريعة إلزام ومنع وفرض لما كان للتحاكم أي معنى؟ فيتحاكمون لأي شيء ما دام أنه حكمه غير ملزم؟

وقد قال الله - تعالى -: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) فالمؤمن ليس له خيار في الالتزام بالشريعة وأحكامها، كيف توفّق بين الإيمان بهذه الآية وبين القول بأنه لا إلزام في الشريعة؟ كيف لا يكون له خيار، لكنه في نفس الوقت ليس ملزماً؟! هذه معادلة معقّدة جداً!

- الجهاد في سبيل الله، ففي نصوص القرآن والسنة وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرة خلفائه الراشدين وأصحابه منها ما هو شائع مشهور، فإذا لم يكن في الشريعة إلزام فعلى أي شيء كان كل هذا الجهد والجهاد؟

حتى على التفسير العصري المحدث القائل إن الجهاد في الإسلام كان لردّ العدوان ولدفع المعتدي فقط، فحتى على هذا التفسير يبقى موضوع الإلزام مشكلاً، لأن الصحابة لما جاهدوا وقاتلوا لم يدفعوا العدوان ويسلموا البلد لأهلها ثم يعودون، بل حكموا البلد بالإسلام وأقاموا شعائره وألزموهم بنظام الإسلام، فهل كانوا دعاةً إلى الإسلام نشروا شعائره في الخافقين أم أنهم كانوا يغرسون النفاق في جذور المجتمع وهم لا يشعرون؟

وسيرة الخلفاء الراشدين ظاهرة في الأخذ بالإسلام ونشره وإقامة شعائره، وأحكامهم مع أهل الذمة لا تخفى على أحد، فبغضّ النظر عن تأويل أو حكم هذه الأفعال، هل أدّى هذا الإلزام للنفاق أم كان سبباً لنشر الإسلام وتقويته وتوسيع دائرة أوطانه؟

- نصوص العقاب والإهلاك: ففي القرآن والسنة نصوص عدة أن المنكر إذا ظهر وفشا كان عاقبته الهلاك: (وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزينب بنت جحش وقد سألته أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث))، فكثرة الخبث مؤذنة بالهلاك، وهذا يعني أنه يجب منع هذا الخبث حتى لا على المسلمين في الهلاك.

- تطبيقات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتطبيقات صحابته وخلفائه - رضي الله عنهم - في الأخذ بالشريعة والإلزام بها، فقد حد النبي - صلى الله عليه وسلم - شارب الخمر، ورجم في الزنا في عدة وقائع، وهم بتحريق بيوت تاركي الصلاة في المساجد، وعاقب من تخلّف عن الجهاد معه، وقام بجباية الزكاة، وأسقط الزيادة في الديون الربوية، وأخذ الجزية من أهل نجران، وجلد في القذف، وأخذ الناس بأحكام الجنايات والديات والبيوع والأسرة، وقام بالفصل بين الخصومات .. الخ...

وأما نصوص الصحابة فحدث ولا حرج، فقد قاتلوا المرتدين، وجبوا الزكاة، وحكموا بين الناس في كافة قضاياهم، وطبّقوا أحكام أهل الذمة، وأقاموا الجهاد، والحدود، والعقوبات التعزيزية على المعاصي.. الخ.

بصراحة أجد أن تعداد هذا ترف علمي لا حاجة له، لأنه من البدهيات التي يعرفها كل الناس، فلم يكن سؤال (الإلزام) بالشريعة مطروحاً في تلك العصور أصلاً، لأنه بدهي وضروري من أحكام الإسلام، إنما طرح هذا الموضوع بسبب ضغط مفاهيم الثقافة العلمانية المعاصرة فتتحرك معها محاولات التوفيق والتلفيق والموائمة.

- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدل دينه فاقتلوه)) وقال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وذكر منها التارك لدينه المفارق للجماعة)) وقد اعتضد هذا الحكم بعدة تطبيقات عن صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وابن مسعود وابن عباس وغيرهم، وانعقدت عليه كلمة عامة فقهاء الإسلام.

أعرف جيداً أن لبعض المعاصرين تفسيراً مختلفاً للحكم في قول لا يعرف له قائل من قبلهم.

لكن بغض النظر عن صحة قولهم أو فساده، ما تفسيرهم لاتفاق كافة الفقهاء على هذا القول؟ هل كانوا يطبقون أحكام الإسلام أم يزرعون النفاق في مجتمعاتهم وهم لا يشعرون؟

وعلى فرض أن بعض الفقهاء لا يقولون بحدّ الردة، فإنهم كانوا يقولون بسجنه أو استتابته الخ، يعني في النهاية هو منع وإلزام وليس فيها حرية مطلقة للردة.

مع ملاحظة أن دافع النفاق هنا قوي جداً، لأنك أمام شخص أعلن كفره، ثم يوقف على القضاء حتى يتراجع وإلا عوقب، فاتجاهه للنفاق حتى يسلم بنفسه سلوك طبيعي جداً، ومع هذا فلم يكن أحد من الفقهاء بتاتاً يقول اتركوه حتى لا يكون منافقاً، بل يلزم بقانون الإسلام وباحترام نظامه وآدابه، ولو نافق مثله فهو خير من الإضرار بعموم المجتمع.

فإذا كان مثل هذه الصورة المؤدية فعلاً للنفاق غير معتبرة عند أحد من فقهاء الإسلام، فكيف يكون الخشية من النفاق مؤثرة في قضايا لا يمكن بتاتاً أن تكون سبباً للنفاق؟

(3) هل من يثير هذا السؤال يتصوّر حالة المنافقين في عصر الرسالة؟

النفاق وجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكرهم الله في القرآن وحذر منهم وبيّن صفاتهم، ولم ينبت النفاق في المدينة إلا بعد أن قوي الإسلام واشتد عوده وظهرت شعائره، فوجودهم حالة طبيعية ملازمة لتطبيق الشريعة وقوتها وظهورها وليس عيباً على الشريعة، فالنفاق لا يخرج إلا في المجتمع الإسلامي القوي، حين تظهر شعائره وتعظم حرماته فيضطر البعض لسلوك النفاق لأنه لا يستطيع أن يمارس فساده وانحرافه، فهذا علامة قوّة وصحة للمجتمع، فوجود النفاق لا يؤدي لإلغاء الإلزام بالحكم الشرعي وإلا لكان هذا طعناً وانتقاصاً من سنة وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن قوّة الشريعة وظهورها على يده هو الذي أنبت المنافقين ولم يكونوا موجودين قبل ذلك لما كان الإسلام ضعيفاً في مكة.

فالحديث بطريقة: أن الإلزام يؤدي للنفاق، وبالتالي فلا إلزام، خلل وتركيب خاطئ للموضوع.

بل وجود النفاق مع الإلزام ظاهرة صحية شرعية طبيعية، فلا يتعطل أصل شرعي من أجله.

النفاق لا يوجد إلا مع قوة الإسلام، ولن يذهب إلا مع ضعف الإسلام، فإذا كان الهدف هو إزالة النفاق فالحل إذن هو في إضعاف الإسلام حتى لا يحتاج أحد للنفاق.

أما حين يذهب الدعاة والعلماء والفضلاء لتقوية الإسلام وأحكامه وقيمه ومبادئه في نفوس الناس وإشاعته ونشره فإن هذا سيؤدي بداهة لوجود المنافقين الذين يضطرون لمسايرة هذا الواقع والاستفادة من منجزاته، فوجود النفاق دليل على قوة الإسلام وإيجابيته وفاعليته وليس ضعفه.

فالإلزام لا يُترك خشية النفاق، بل الإلزام يلحق حتى المنافقين، فقد كان يتهرّبون من حكم الإسلام: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت).

فهم يرفضون التحاكم، والله يذمهم ويعيبهم على تركهم للتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

فترك التحاكم إلى الشريعة والابتعاد عن الإلزام بها هو صفة المنافقين، وليس هو سبب للنفاق.

فالتصوّر الشرعي: هو دعوة المنافقين للتحاكم وإلزامهم به.

أما أن يترك الإلزام لأجل أن لا يكون منافقين فهو بعثرة للصورة بالكامل.

وإذا كان هذا في المنافق غير المؤمن من الأساس فكيف بالمؤمن المسلم المنقاد؟

(4) إن هذا يدعوني للسؤال عن مفهوم النفاق وتعريفه لدى صاحب هذا الاستشكال.

فما هو مفهوم النفاق؟

لأن كل المعطيات السابقة والآتية تثبت أن المسلمين يتحولون إلى هذا النفاق بسبب إنكار المنكر ولا بتطبيق الشريعة بتاتاً، فهو غير مؤدٍ للنفاق، فالنفاق أن يسر الإنسان بالكفر ويظهر الإيمان، فما علاقة هذا بإنكار المنكرات أو تحكيم الشريعة؟

نعم، هذا سيكون في بعض الأحكام الشرعية ومن فئة قليلة لديها موقف سلبي من الدين نفسه وتريد الطعن في الإسلام لكنها لا تستطيع خشية العقاب فتلجأ إلى النفاق، وهذا موقف صحي وقوي، فخير من أن يظهر كفره واعتدائه يتخفى به ويستتر.

فالنفاق لا يكون بالإلزام.

بل الواقع أن النفاق إنما يكون حين يضعف الإلزام.

فالمنافقون يخفون غيظهم وحنقهم على الإسلام والمسلمين، وإذا وجدوا فرصة أو مجالاً استغلوه وأظهروا الرجف والتشكيك، لهذا كان علاجهم القرآني بالتهديد والوعيد: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً) فالقوة والإلزام هي التي تحمي المجتمعات من المنافقين، وتركه هو الذي يجرئهم ويغريهم، لهذا جاء الخطاب القرآني: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم)،

فهذه هو علاج القرآن للمنافقين، ولم يكن علاجهم بأن يقال لهم: (تفضّلوا خذوا راحتكم، واعلنوا كفركم وأنتم في حلّ من الشريعة، أهم شيء لا تصيرون منافقين)!!.

النفاق لا يستقر في النفوس بسبب الشعائر، الشعائر والإلزام بركة وديانة وتقوى لله، هذا يحبب النفوس للدين ويجعلها تألفه وتحبه وتعتاده، النفاق لا ينشأ بسبب هذا، إنما ينشأ بأسباب أخرى، من أعظمها شيوع الشبهات والتشكيكات في الدين ونشر كل ما يمس الدين ويقدح فيه، فهذا من أعظم أسباب النفاق لأنه يهز اليقين في نفوس بعض الناس ويدخلهم في الحيرة والشكوك، فهذه منابت النفاق التي يجب الحرص عليها لمن كان صادقاً فعلاً على علاج النفاق ومتألماً منه.

فتعريف النفاق في السؤال قائم على نفاق آخر ليس هو النفاق الذي يعرفه الناس.

(5) أن إخفاء المعاصي والمنكرات خير من إظهارها وإشهارها،فعلى أسوء الاحتمالات فلو أن المنع لم يفد شيئاً وأصبح الناس يمارسون ذات المنكرات في الخفاء فإخفاؤها خير بلا مقارنة من إظهارها وإشاعتها، ألم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) فالمجاهرة بالذنب شر وأقبح من الإسرار به، وما دام المنكر سراً فلا يحاسب عليه المجتمع ولا يؤاخذ به، إنما المحاسبة على المنكر حين يشيع ويظهر.

(6) ثم إن التخفي بالمعصية ليس نفاقاً، فإذا منع المسلم من شرب الخمر فشربه سراً فهذا خير له وأخف شراً وليس نفاقاً.

فما أدري لماذا يفترض السؤال أن المسلم إما يشرب الخمر جهراً ويفعل الفاحشة جهراً وإما يكون منافقاً يشربه سراً؟

هل الإسرار بالمعصية نفاق؟

لا يقول هذا عالم، فالإسرار بالمعصية أولى من الجهر بها، فهو شرعاً أفضل وأهون، فلا أدري على أي اعتبار صار منافقاً؟

حتى ولو بحث المسلم عن المعصية واجتهد في الوصول إليها ولم يجدها فهذا ليس نفاقاً ولا علاقة له بالنفاق بتاتاً.

(7) هذا السؤال يمارس تصويراً مغلوطاً فاحشاً، فهو يفترض أن المسلم حين يمنع من الحرام فإنه سيفعله في السر، وكأنه لا وجود لخيار ثالث هو الأكثر والأشهر والأبرز، وهو أن عامة المسلمين حين يمنعون من الحرام فإنهم سيتركونه لما في نفوسهم من تعظيم الشرع وميل لتطبيقه أحكامه ما استطاعوا، وإنما تبقى قلة تمارسه في الخفاء.

فإشاعة الحرام يجرئ على فعله ويكثر من مرتاديه، واعتقاد أن منعه لن يؤثر في مضايقته وإبعاد الناس عنه تصور بعيد جداً عن الواقع، ولهذا جاءت الشريعة بالحث على التستر بالمعاصي كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمّ فليستتر بستر الله)) وهو شيء بدهي يفهمه عامة الناس فتراه يرددون: إذا بليتم فاستتروا.

وقد قال ربنا - جل وعلا -: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) فالمنكر الظاهر يجرئ الناس ويوسع الفساد فإذا لم يظهر غفل عنه الناس وتركوه.

(8) وهذا الإلزام لا يخلو منه أي قانون ولا نظام معاصر، فكل الأنظمة المعاصرة تقوم على قوانين وأنظمة ملزمة في كافة شؤون حياة الناس ودقائق تفاصيلهم، والالتزام بها ضرورة، حتى ولو خالفها البعض فلا يتصور أن يخطر ببال أحد أن مخالفة البعض تعني أن القانون لم يعد له أهمية فإما أن تلتزم به أدبياً أو لا حاجة له؟

لا أحد يفكر بهذا لأن هذا شأن معيشي بدهي، والناس يعرفون أن القانون إذا قوي ولزم وعم زادت قناعة الناس به ورضوا به مع كونهم في الأصل مكرهين عليه وملزمين به.

(9) ثم إن خطاب الشريعة في القرآن والسنة، القائم على أوامر ونواهٍ، هل هو خطاب للفرد فقط، أم للفرد والمجتمع؟

حين نقرأ في القرآن مثلاً: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا)

فمباشرة سيفهم منه المسلم أنه خطاب للفرد بأن يترك الربا امتثالاً لأمر الله، وللمجتمع المسلم بأن يترك الربا، وللدولة المسلمة التي تقوم على سياسة هذا المجتمع أن تترك الربا.

وهذا يعني أن الإلزام جزء أساسي من الحكم الشرعي.

أما اعتقاد أن النص يدل على تحريمه على الفرد، أما تحريمه نظاماً وقانوناً فهو شيء آخر، فهو تفكير جديد، يناسب تفكير الفئة المتأثرة بالثقافة العلمانية حين تجعل الدين شأناً فردياً وخطابه متجه للفرد ولا يمسّ النظام والدولة.

ثم إن المسلم حين يدخل في الإسلام فإنه تلقائياً يكون مسلماً ومنقاداً لحكم الإسلام، فالإسلام نظام شامل، لا يوجد في الفكر الإسلامي أن يسلّم المسلم فيدخل في الدين، ثم يسلم فيوافق على حكم الشريعة، هذه درجتا فهم تناسب الدين النصراني والثقافة العلمانية لأن الدين لديهم علاقة روحية لا تمس الحكم، فيختار الحكم الذي يريد بغض النظر عن دينه، أما المسلم فإنه حين رضي بالإسلام فقد رضي به حكماً بداهة ولزوماً ضرورياً لدينه، وحينها فالإلزام بأحكام الإسلام ليس شيئاً طارئاً وجسماً غريباً نبحث له عن سبب ومشروعية وطريقة معينة، هو أصل وفرض لازم وبدهي ما دام أن الناس مسلمين، وهذه مجتمعات مسلمين قامت في أرضها دول إسلامية خلال عشرات القرون، لم تعرف غير حكم الإسلام وإلزامه، فلا يجوز أن نتعامل مع حكم الإسلام وكأنه جسد غريب على تلك المجتمعات.

(10) أن المطالبة الشرعية تتجه للظاهر لا الباطن، فلست مسؤولاً عما في بواطن الناس وخفايا قلوبهم فأمرهم إلى الله، فما دام أنه في خفايا قلبه فهو خاص بصاحبه ولا يضر إلا نفسه، ولا يعد منكراً في الشريعة يجب إنكاره لأنك لا تدري عنه.

فمن المفارقات أن يُترك الداعية المنكر الظاهر الذي يجب عليه، خشية من منكر خفي لا يعلم عنه وهو غير واجب عليه!.

فالشريعة تأمره بالمنكر الظاهر، فيتركه، خشية من منكر ليس بواجب عليه؟

ويترك منكراً معلوماً، خشية من منكر غير معلوم ولا يمكن الكشف عنه؟

ويترك منكراً متيقناً خشية من منكر موهوم لا يجزم به؟

ثمّ إن بعض النفوس فيها من الشر والسوء والكره للإسلام وأهله، فهل نتيح لهم الفرصة ليعبّروا عن مشاعرهم ويسيئوا للإسلام وأهله حتى لا يتحولوا لمنافقين؟

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول(3/939): "فإن الكلمة الواحدة من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار ولأن يظهر دين الله ظهوراً يمنع أحداً أن ينطق فيه بطعنٍ أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهك مستعان".

هذا هو التفكير الإسلامي البدهي الذي تجده في عموم المسلمين فلا يفكرون بطريقة (بل اجعلهم يظهرون ويمارسون فسادهم وانحرافهم حتى لا يتحولوا إلى منافقين)!!

(11) أن الصلاح الظاهر وشيوع الشعائر يؤثر على صلاح الناس، كما أن شيوع المنكرات تؤثر على فساد الناس، فالمنكر إذا انتشر أثر في الناس وزاد ضرره وكثر مرتاديه، فالقضية ليست خاصة بمن يريد المنكر ويبحث عنه، بل إن المنكر إذا شاع سهل في النفوس وخف أثره وجرأ الناس عليه، ولهذا كان من حكمة الشريعة في إنكار المنكر إضعافه وتقليله لئلا يؤثر على الباقين، فالمنكر يؤثر على الصالحين، وليست الصورة أنه منكر متجذر في نفوس الناس بدأ معهم فطرة، بل إن تركه وطول العهد به هو الذي جعله منتشرا وتقبله النفوس وإذا حورب وضيق عليه قل أثره وضرره.

(12) إذا كان الإلزام سيؤدي إلى النفاق، فحتى النصيحة والموعظة ستؤدي إلى النفاق كذلك؛ لأن أكثر الناس يستجيبون للنصح والوعظ وإن كان قد يمارسها في الخفاء، فهل يكون مثل هذا منافقاً؟

فعلى طريقة تفكير السؤال يجب أن يكون حكم النصيحة كحكم الإلزام لأنها تجعل الشخص يستحي منك ويترك المنكر حياء ويفعله سراً فيكون منافقاً؟

بل إن أثر الحياء من المجتمع في ترك المنكر أقوى بكثير من أثر الإلزام، فالإنسان يراعي الناس وأعرافهم، ويمارس معهم من الحياء والمداراة ما هو أعظم بكثير من مراعاته لمجرد الإلزام القانوني، فإذا كان الإلزام يؤدي للنفاق؟ فالحياء من المجتمع نفاق أيضاً؟

ثم إن الواقع أن الإنسان يلجأ إلى النفاق ليس من أجل الإكراه، بل لدوافع مصلحية متعلقة بالجاه والمال والمكانة وتحقيق المصالح الذاتية من المجتمع، فهو يراعي الناس أكثر من مراعاته للنظام، فارتباط مصالحه للناس أضعاف ارتباطه بالنظام، وحينها فحتى لو زال الإلزام فسيبقى النفاق ما دام في الناس اعتزاز بدينهم وهويتهم يجعلهم ينقصون مقدار من يخالف الإسلام فيضطر للنفاق مسايرة لهم.

لهذا نجد في سيرة المنافق عبد الله بن أبي أنه كان يقف أمام منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل جمعة ويقول: أيها الناس هذا رسول الله فوقروه وعظموه واسمعوا له وأطيعوا ثم يجلس.

فواضح جداً أنه لا إكراه في الموضوع بتاتاً، إنما هو بحث عن مصالح ومكانة وقيمة اجتماعية من خلال هذا النفاق.

(13) ثم إن هذا الإلزام بأحكام الشريعة هل سيأتي من خلال البرلمان واختيار الناس أم لا؟

هل ستمنع الخمور والقمار وبقية المنكرات وتطبق أحكام الشريعة لو أتيحت الفرصة من خلال اختيار الأكثرية؟

هل سيكون فرض للشريعة وأحكامها حين يكون نصاً دستورياً؟

إن كان بالإيجاب فإن هذا سيؤدي للنفاق وهي ذات المشكلة التي كان يتحدث عنها؟

فهل سيزول النفاق وتنتهي المشكلة بمجرد أن يصدر قرارا برلمانيا بذلك؟

أو يكون نصاً دستورياً؟

إذا كان الإلزام إكراه في الدين ولا يمكن أن يلتزم به الإنسان إلا برضاه، فلا يجوز إذن إلزامه ابتداءً ولا بقانون ولا برأي أكثرية، لأن ذات المشكلة لم تتغير.

(14) يسوق هذا السؤال جزئية: (أن المطلوب هو تزكية النفوس وتطهيرها لا إلزامها بما لا تريد).

والحقيقة أن الإلزام جزء من تزكية الناس وتطهيرها.

فجعل المسألة: إما إلزام للشخص وإما أن يقوم بها من نفسه وضميره، قسمة غير عادلة ولا منصفة.

بل الإلزام يتكامل مع مراقبة المسلم وإيمانه ودافعه الذاتي، فهما متكاملان لا ضدان، كون الشريعة جاءت بالإلزام لا يعني أنها لا تأتي بالدافع الذاتي، بل كلاهما واجبان شرعيان وطريقان صحيحان لتزكية النفس وتطهيرها ودفعها نحو طاعة الله وعبادته.

ثم إن الإلزام بالشريعة هو سبب لتطهير النفس وتزكيتها من الأمراض والأهواء وتصحيح مسارها وتقوية مراقبتها لله.

فالله - تعالى – يقول: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول واطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين).

فترك التزامه بالتحاكم ينفي عنه صفة الإيمان، فالإلزام جزء من الإيمان، وقد أثنى الله عليهم: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) فالإلزام فلاح ونجاة وهذا معنى عظيم من معاني التزكية.

فالتزكية إنما تكون بالقيام بأوامر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وترك نواهي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ليست التزكية حالة روحانية شعورية خارجة عن الشريعة، فبقدر ما يلتزم بالعبادة والطاعة - والتي منها الإلزام- بقدر ما تحصل التزكية، وبقدر ما يبتعد عنها تضعف التزكية، فالتزكية غاية شرعية تقوم على وسائلها الشرعية.

فهد بن صالح العجلان

  • 0
  • 0
  • 4,114

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً