تقديس ما ليس بمقدس!

منذ 2015-02-03

إن النقد والخلاف ليس جريمة، فما باله في حق مقدسات اليوم المزعومة صار من الكبائر والأوزار؟!

نحن أمة تعشق تقديس ما ليس بمقدس، هذه للأسف حقيقة أراها ساطعة كالشمس، أمة تبحث عن أسوار تحيط بها (تابوهات) معينة، وتعتبرها مناطق محرمة، وخطوطًا حمراء، لا يجوز لأحد أن يجترىء يومًا ويختلف معها، أو ينتقدها، ويا للمصيبة لو ازدادت جرأته وقرر أن يرفضها، أو يبغض تصرفاتها، ومواقفها، أو حتى يبغضها شخصيًا.

فتش في أفكارك برهة! وستجد عينك -لا محالة- تصطدم ببعض تلك الأسوار الموروثة، التي حرصوا دومًا أن تظل عالية، لا يستطيع نظرك أن يجاوزها، فضلا عن القفز عليها، وفحص ذلك المقدس المزعوم، وتفنيد قداسته ونقض عصمته الكاذبة.

فتش جيدًا، وصدقني ستجد!

لا أتحدث هنا عن المقدسات الدينية والعقدية؛ والتي هي في الحقيقة الشيء الوحيد الذي يُقبل أن تكون له قداسة؛ ذلك لأنه يكتسب قداسته من القدوس سبحانه وتعالى نفسه، لكنني أتحدث هنا عن أشخاص وأحداث وأماكن وهيئات ومؤسسات، ظلت أسوار العصمة تُبنى حولها رويدًا رويدًا، حتى شكلت في وجدان الناس قداسة كاذبة، لا تسمح بمجرد الاختلاف معها، ونقدها، ولا تقبل أن تنطبق عليها قاعدة الإمام مالك بن أنس رحمه الله: (كُلٌ يؤخذ من قوله ويُرد، إلا صاحب هذا المقام) يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

لا أحب أن أغير عادتي وأعين أمثلة محددة تدخلني مع مقدسي تلك التابوهات ومعظميها في جدلية سفسطائية لا تنتهي، وليس لدي وقت لها، ولكن دعنا كعادتنا نجعل الأمر مجرد حراك ذهني متجرد، نحاول بمعاوله أن نكسر أسوار التقديس المزعوم.

دعنا لا نسمي شيخًا، إذا اختلفت معه، ورفضت مواقفه السياسية، واختياراته صرت في لحظات مهدومًا، سيء الأدب، آكلًا للحوم العلماء المسمومة.

ودعنا لا نسمي هيئة أو مؤسسة، إذا تجرأت يومًا على رفض انتهاكاتها وتدخلها فيما ليس لها، شككوا في حبك لوطنك، وربما نفوا انتمائك له.

ودعنا لا نسمي جماعة أو حزبًا، إذا فكرت في انتقاده صرت بين عشية وضحاها خائنًا أو منبطحًا أو مُفرطًا أو جاهلًا، لا تفقه معنى العمل الجماعي.

ودعنا لا نعين رمزًا سياسيًا، أو شخصية عامة، إذا ما هاجمت مواقفها، أو فندت آراءها؛ صرت فورًا رجعيًا متخلفًا لا تفقه تطورات العصر، ولا تدرك السنين الضوئية التي تسبقنا بها تلك الشخصية.

هكذا تجد نفسك في النهاية محاطًا بعدد لا متناهٍ من الأسوار والحواجز؛ التي بناها الأتباع والمغالون والمهللون، والتي ينالك بمجاوزتها كل انتقاص وازدراء، وأنت الملام؛ إذ كيف تجرؤ على تحريك الماء الراكد، أو أن ترفض التوقيع على بياض لأحد، كيف تسول لك نفسك أن تغضب أو ترفض أو تنتقد أو تختلف، وكأن هؤلاء المقدسين صارت لهم عصمة توازي عصمة الأنبياء، وتساوي رمزيتهم رمزية الشعائر والأنساك.

بل هي في الواقع تزيد كثيرًا؛ وإن غضب المهللين المعظمين لها عند انتهاك حرمتها المزعومة يتجاوز -أحيانًا- غضبهم للأنبياء والشعائر والأنساك، التي يقبل بعضهم انتهاكها، وربما إهانتها؛ بدعوى حرية الرأي.

حرية رأي تبيح لبعضهم سب الله ورسله، لكنها تحرم انتقاد متبوعه وحزبه، وكأن لهؤلاء حرمة تجاوز حرمة الصديق أبي بكر والفاروق عمر رضي الله عنهما؛ حين نزلت آية تنتقد رفعهما لأصواتهما في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل حينئذ: "كاد الخيران أن يهلكا".

أو أن لهؤلاء فضلًا يعلو على فضل جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ حين قيل لهم بعد انسحابهم يوم مؤتة: "أنتم الفرار"، فقال الرسول: "بل أنتم الكرار، وأنا فئتكم"، ولكنه لم يعلق المشانق لمن انتقدوا صنيعهم لأول وهلة.

وكم في حق الأخيار من معتبات وقعت، وانتقادات حدثت لا يتسع المقال لذكرها جميعًا، لكنها ببساطة توضح أن النقد والخلاف ليس جريمة، فما باله في حق مقدسات اليوم المزعومة صار من الكبائر والأوزار؟!

إنها الأسوار!

فتش عنها جيدًا، فلربما تحتاج يومًا لعبورها أو لنقضها.

فليس ينبغي أن يكون في النفس من أسوار إلا ما بنته الشريعة حول حرماتها.

بخلاف ذلك فلا مقدسات.

ولا أسوار.

من كتابي ‫صالح للاستعمال الفكري.

طبعة العصرية للنشروالتوزيع القاهرة-الأزهر.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 1
  • 0
  • 2,802

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً