حكم التحريق بالنار
هذه كلمة في مسألة "حكم التحريق" ثار نقاشها بين بعض الإخوة، من نحو عشر سنوات، وقد ألقى الله تعالى في القلب العزمَ على بحثها، ووفق لجمعها. ولقد اقترح علي بعض الإخوة نشرها، فهذا نشرها لأول مرة، وليست مقصودة لحادث بعينه، ولا ردًّا على جهة معينة.. وإن كان الحقُّ فوق الجميع. ولسنا أغبياء بما فيه الكفاية، فلا ننعق مع الناعقين...
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وبعد فهذه كلمة في مسألة "حكم التحريق" ثار نقاشها بين بعض الإخوة، من نحو عشر سنوات، وقد ألقى الله تعالى في القلب العزمَ على بحثها، ووفَّق لجمعها، فكانت هذه الأسطر، فما كان فيها من صواب فمن الله تعالى وحده فله الحمد والمنة، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان..
وهي كباقي مسائل الفقه التي فيها خلاف، إلا أن الخلاف فيها ضعيف كما سيتبين بإذن الله، وإن كانت الأحكام الفقهية لا يُقف عندها معزولة عن الفقه العام وعن الوضع العام للجماعة المسلمة وللأمة المسلمة، لغيابة الأمة المُمَكَّنَة، ففقه الأمة له علاقة كبيرة بسياسة دولتها.
ثَبْتُ الخلاف:
قال الإمام ابن حجر رحمه الله: "اختلف السلف في التحريق؛ فَكَرِه ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقًا؛ سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصًا، وأجازه عليُّ وخالد بن الوليد وغيرهم..."[الفتح:6/ 150].
أدلة المانعين من التحريق:
1-عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «البخاري؛ صحيح البخاري، برقم: [2853] باب لا يعذب بعذاب).
»(2- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «الألباني والأرناؤوط).
». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: « » قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: « »(أبو داوود؛ السنن، برقم:[2675]، وصححه3- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « »(صحيح البخاري:برقم: [3017] باب لا يعذب بعذاب).
أدلة المجزين للتحريق:
1- عن عكرمة ثم أن عليًّا رضي الله عنه حرق قومًا؛ فبلغ ابنَ عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
2- قالوا: وقد سمل النبي صلى الله عليه وسلَّم أعين العرنيين بالحديد المُحمَّى.
3- قالوا: وقد حرق خالد بن الوليد بالنار ناسًا من أهل الردة وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها قاله الثوري والأوزاعي.
4- أخرج الطبراني عن معاذ وأبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما أن يعلما الناس، فزار معاذٌ أبا موسى فإذا عنده رجل موثق بالحديد فقال يا أخي أو بعثت تعذب الناس إنما بعثنا نعلمهم دينهم ونأمرهم بما ينفعهم فقال أنه أسلم ثم كفر فقال والذي بعث محمدًا بالحق لا أبرح حتى أحرقه بالنار. . فأتى بحطب فألهب فيه النار فكتفه وطرحه فيها "
إجابة المجزين على أدلة المانعين:
حمل المجيزون النهيَ على غير التحريم كما قال المهلب: "ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع" [الفتح:6/ 150]. وكأنهم يقولون: الكراهة لا تنافي الجواز.
إجابة المانعين على أدلة المجيزين:
كل ما أَورَده المجيزون من استدلالات على ما يبدوا من كثرتها لا تنهض للدلالة على جواز التحريق، قال ابن المنير وغيره: "لا حجة فيما ذُكر للجواز" [الفتح:6 /150].
1- لأن النهي يقتضي التحريم إلا لدليل ناهض صارف عن التحريم، ولا دليل يقوى علة صرف هذا النهي الصريح.
2- لأن قصة العرنيين بين أمرين، إمَّا أنها كانت قِصاصا أو أنها منسوخة. قال الشيرازي: "إذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }[البقرة: 194]، ولأن السيف أرجى الآلات؛ فإذا قتل به واقتص بغيره أخذ فوق حقه؛ لأن حقه في القتل وقد قتل وعذب فإن أحرقه أو غرقه أو رماه بحجر أو رماه من شاهق أو ضربه بخشب أو حبسه ومنعه الطعام والشراب فمات فللولي أن يقتص بذلك لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}[النحل: 126]، ولِما روى البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « »، ولأن القصاص موضوع على المماثلة والمماثلة ممكنة بهذه الأسباب فجاز أن يستوفى بها القصاص وله أن يقتص منه بالسيف لأنه قد وجب له القتل والتعذيب فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه فجاز"[المهذب 2/186]. وحديث « »، قال عنه البيهقي في إسناده بعض من يجهل وإنما قاله زياد في خطبته، وضعَّفه المحدِّثون لم يصححه أحد.
3- وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقًا للظفر بالعدو ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان. ثم إن تجويز بعض الفقهاء لها لا حجة فيه، لأن العبرة بالدليل. أما نصب الخلاف فلا يفيد الجواز. كما قال ابن القيم:
العِـلم قـال الله قـال رسولـه **** قال الصحابة هم أولو العرفـان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة **** بين الرسول وبين رأي فلان
4- أما تجويز الصحابي فمعارَضٌ بمنع صحابي آخر.
- فصنيع خالد بن الوليد رضي الله عنه بالمرتدين اعترض عليه الفاروق بحضرة الصديق رضي الله عنهم ولم ينكر عليه. عن عروة قال : "كَانَتْ فِي بَنِي سُلَيْمٍ رِدَّةٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَجَمَعَ مِنْهُمْ أُنَاسًا فِي حَظِيرَةٍ حَرَّقَهَا عَلَيْهِمْ بِالنَّارِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: انْزِعْ رَجُلًا يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَا أَشِيمُ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عَدُوِّهِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ يَشِيمُهُ، وَأَمَرَهُ فَمَضَى مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ"(ابن مصنف بن أبي شيبة؛ برقم:[33725] ومصنف عبد الرزاق، برقم:[9412]). فالصديق ومن حضر من الصحابة لم يُنكروا على عمر رضي الله عنه غضبه من فعلة خالد. فضلا عن أنَّ خالد بن الوليد ليس من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، فضلا عن أن صنيعه هذا مخالف لصريح السنة.
- وأما قصة معاذ وأبي موسى رضي الله عنهما فلا حجة فيها لمعارضتها بالسنة الصحيحة، وبمنع صحابة كبار كعمر وابن عباس رضي الله عنهم، ومع ذلك فقد ورد أن حرق المرتد كان بعد قتله، قال الحافظ: "في رواية أيوب فقال: "والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه فضرب عنقه" وفي رواية الطبراني التي أشرت إليها: "فأتى بحطب فألهب فيه النار فكتفه وطرحه فيها" ويمكن الجمع بأنه ضرب عنقه ثم ألقاه في النار ويؤخذ منه أن معاذًا وأبا موسى كانا يريان جواز التعذيب بالنار وإحراق الميت بالنار مبالغة في إهانته وترهيبا عن الاقتداء به" [الفتح:12 /274]. بل الظاهر الاحتمال الأول، وهو أنه ألقاه في النار بعد أن قتله بالسيف، وإلا فبعد الإحراق لا يتسنى ضرب عنقه بالسيف. وهذا يدلُّك أن القتل لم يكن بالنار، وأنه بعد أن مات بالسيف فالنار لا تعذبه، لأنه ما بميت إيلام.
- وأما علي فاعترض على فعله حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهم بالسنة، وكان أمير البصرة من قِبل على رضي الله عنه: "فبلغ ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعذبوا بعذاب الله."
فإذا تعارضت أقوال الصحابة تساقطت، وتعين الترجيح بدليل آخر، وهذه السنة تنطق بالنهي عن التحريق والتعذيب بالنار.
- هذا وقد ورد أن عليًّا نفسه رضي الله عنه إنما حرقهم بعد ما قتلهم، وعندئذ لا يكون فيه تعذيب فعند الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن غفلة: "أن عليًّا بلغه أن قومًا ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأَبَوا فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم ثم قال صدق الله ورسوله"[الفتح:12 /270]. وقال ابن عبد البر: "قد روينا من وجوه أن عليًّا إنما أحرقهم بعد قتلهم. عن عثمان بن أبي عثمان الأنصاري قال جاء ناس من الشيعة إلى عليٍّ فقالوا يا أمير المؤمنين أنت هو! قال من أنا؟ قالوا أنت هو! قال: ويلكم من أنا؟ قالوا: أنت ربنا. قال: ويلكم ارجعوا فتوبوا؛ فأَبَوا فضرب أعناقهم، ثم قال: يا قنبر ائتني بحزم الحطب فحفر لهم في الأرض اخدودًا فأحرقهم بالنار ثم قال:
لما رأيت الأمر أمرا منكر *** أججت ناري ودعوت قنبرا)[التمهيد: 5/317-318].
- أما من اعتمد على قول علي رضي الله عنه : "ويح"في رواية:" فبلغ ذلك عليًّا رضي الله عنه فقال ويح ابن عباس"[قال في المستدرك: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه 3/ 620]. فلا دلالة فيه لأنها كلمة لا تقتصر على الذم، بل تكون للمدح والتعجب: قال الحافظ: (وفي رواية ابن علية : "فبلغ عليا فقال ويح أم ابن عباس" كذا عند أبي داود وعند الدارقطني بحذف "أُم" وهو محتمل أنه لم يرض بما اعترض به ورأى أن النهي للتنزيه وهذا بناء على تفسير ويح بأنها كلمة رحمة فتوجع له لكونه حمل النهي على ظاهره فاعتقد مطلقا فأنكر ويحتمل أن يكون قالها رضا بما قال وأنه حفظ ما نسيه بناء على أحد ما قيل في تفسير ويح أنها تقال بمعنى المدح والتعجب كما حكاه في النهاية..)[الفتح:12 /272] وقال: ( وأكثر أهل اللغة على أن ويل كلمة عذاب وويح كلمة رحمة وعن اليزيدي هما بمعنى واحد تقول ويح لزيد وويل لزيد)[الفتح:10 /553]، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :" ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"(البخاري برقم: [436]). وليس ذلك ذمًّا لعمار رضي الله عنه.
- ومما يرجح هذا أن عليًّا صدَّق ابن عباس رضي الله عنهم فعن عكرمة: "أن عليًّا حرق قومًا ارتدُّوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابنَ عباس فقال لو كنت أنا لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ولم أكن لأحرقهم لقول رسول صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله فبلغ ذلك عليا فقال صدق ابن عباس" قال أبو عيسى هذا حديث صحيح حسن والعمل على هذا عند أهل العلم في المرتد)[ سنن الترمذي:برقم: 1458]. قال المباركافوري: ( قلت لفظ الترمذي فبلغ ذلك عليا فقال صدق يدل على أن المراد بقوله ويح أم ابن عباس المدح والتعجب)[تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:5 /20]. وقال محمد شمس الحق العظيم آبادي: ( وقال القاري وأكثر أهل العلم على أن هذا القول ورد مورد المدح والإعجاب بقوله وينصره ما جاء في رواية أخرى عن شرح السنة فبلغ ذلك عليا فقال صدق ابن عباس)[عون المعبود شرح سنن أبي داود: 1 /3].
الترجيح:
لا شك أن الواجب هو الرجوع بالخلاف إلى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله لقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[الشورى:10] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59]. والمتقرر أن القرآن والسنة لا يرجح عليهما غيرهما، ولو كان من الخلفاء الراشدين، كما قال ابن عباس، وورد عن ابن عمر رضي الله عنهم: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال الله قال رسوله تقولون: قال أبو بكر قال عمر"، هذا إذا لم يخالَف، فما بالك وقد اختلف الصحابة، فخالف عمر وابن عباس، عليًّا وخالدًا رضي الله عنهم واحتجا السنة. ثم إن عليًّا صدَّق إنكار ابن عباس عليه، فبقي في المجيزين من الصحابة خالد بن الوليد فقط، وهو رضي الله عنه ليس من فقهائهم وأهل الفتوى فيهم.
وأيضا العلة التي علل بها النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن التحريق لا يمكن أن نحمل معها النهي على الكراهة، وأن التعذيب بالنار من اختصاصاته ولأن في ذلك تجويز التشبه بالله تعالى في أفعاله. فيُنهَى عنه.
فكل أدله المجيزين معترضة، أو محتملة، أما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم وهو نسخ لأمره المتقدم سواء كان بوحي إليه أو باجتهاد منه وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه.
وعليه فإنه يحرم تحريق الأحياء وتعذيبهم بالنار؛ عذاب الله تعالى سواء كان إنسانًا أو حيوانًا ولو حشرة، كالنمل والبراغيث.
حرق غير ذات الأرواح والمخلوقات الحية:
أما حرق غير ذوات الأرواح كالشجر والنبات والزروع وغير ذلك، فمحكوم بمدى حرمة الشيء وعصمة الملك، وبما تقتضيه قاعدة المصالح والمفاسد. وقد حرق النبي صلى الله عليه وسلم وحرق الصحابة رضي الله عنهم
فعن ابن عمر رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع؛ وهي البويرة. زاد قتيبة وابن رمح في حديثهما فأنزل الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (البخاري، برقم:[4028]، ومسلم، برقم:[186]، في صحيحيهما).
وعن قيس بن أبي حازم قال: قال لي جرير قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» (البخاري؛ في صحيحه، برقم: [2857]، باب حرق الدور والنخيل )، وحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار. وهدد صلى الله عليه وسلم بحرق بيوت المتخلفين عن الجماعة، قال الشوكاني: "قوله فأحرّق بالتشديد يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه وفيه جواز العقوبة بإتلاف المال"[الشوكاني؛ نيل الأوطار:3 /123].قال ابن قدامة: "وجملته أن الشجر والزرع ينقسم ثلاثة أقسام؛ أحدها، ما تدعو الحاجة إلى إتلافه كالذي يقرب من حصونهم، ويمنع من قتالهم، أو يسترون به من المسلمين، أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق، أو تمكن من قتال، أو سد بثق، أو إصلاح طريق، أو ستارة منجنيق، أو غيره، أو يكونون يفعلون ذلك بنا، فيفعل بهم ذلك، لينتهوا، فهذا يجوز، بغير خلاف نعلمه.
الثاني، ما يتضرر المسلمون بقطعه، لكونهم ينتفعون ببقائه لعلوفتهم، أو يستظلون به، أو يأكلون من ثمره، أو تكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا، فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا، فهذا يحرم؛ لما فيه من الإضرار بالمسلمين. الثالث، ما عدا هذين القسمين، مما لا ضرر فيه بالمسلمين، ولا نفع سوى غيظ الكفار، والإضرار بهم، ففيه روايتان؛ إحداهما، لا يجوز؛ لحديث أبي بكر ووصيته، وقد روي نحو ذلك مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأن فيه إتلافا محضا، فلم يجز، كعقر الحيوان. وبهذا قال الأوزاعي، والليث، وأبو ثور.
والرواية الثانية: يجوز. وبهذا قال ومالك، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر. قال إسحاق: التحريق سنة، إذا كان أنكى في العدو؛ لقول الله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين}[الحشر: 5]. [المغني9/291-292].
والله تعالى أعلم وصلى الله على رسوله وعلى آله وصحابته أجمعين وسلم تسليما كثيرا.
فُرغ منه بعد عصر الأحد: 7 من جمادى الثانية 1425هـ الموافق 25 /8/ 2004م
تنبيه هام:
كتبتُ هذا البحث جوابا على سؤال قبل عشر سنوات، وليس بسبب جديد، ونظرًا لما طار في العالم هذه الأيام من إقدام (داعش) على حرق الطيار الأردني، ورغم أننا لا علاقة لنا بداعش ولا التقاء فكري ولا روحي معها، وأن بحثي قبل أن توجَد (داعش) بِعِقْدٍ من الزمان، فما لهذا العالم يتباكى على حرق فرد واحد، هو المعتدي ابتداءًا، إذ هو الذي ذهب يقاتل الدواعش في غير بلده، ولم يكن قصده نصرة الحق ولا الدين ولا المستضعفين.. فما بال العالم لا يتابكى على ألاف الأطفال والنساء الذين أحرقتهم البراميل الأسدية في سوريا، بل الذين أحرقهم هذا الطيار نفسه ضمن حلف الشر؟!
ما بال العالم لا يشكل جبهة حربٍ عالمية ضد إسرائيل التي قتلت وأحرقت أكثر من 2500 أخيرا؟!
ما بال العالم لا يشكل جبهة حرب عالمية يهاجمون بها السيسي وزبانيته على ما فعلوا في رابعة من تقتيل وتحريق؟!
لسنا مغفلين بما فيه الكفاية!
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر:
سدرة المُنتهى.
منذ