نوستالجيا (مارجريت) - نوستالجيا (مارجريت) (2)

منذ 2015-02-16

هي لا شكّ فاعلة ما تفعله كلّ النّساء في هذه الحال: تقلق وتتوجّس، وتتمنّى أن أكون متُّ من غير آلام على أن أكون تزوّجتُ أخرى.. كبرياؤهنّ فقط يمنعهن من التّصريح أنهن يفضلن ألف مرّة أن يبكين علينا، بدل أن يبكين منّا، إذا كان في الموضوع أنثى غيرهن!

قبيح جدًا أن تحب من لا تقدر أن تكرهه، ثمّ لا تجد لروحك متنفسًا إلّا بكره حبّك له..
إنّه ذلك النّوع الوقح من الحبّ الّذي يجبرك أن تحبّه وتكره كلّ خصلة فيه، وهو قسيم الاحترام الوقح الّذي يأطرك على حبّ كلّ ما في شخصٍ من خصالٍ، ومع ذلك لا تقدر أن تحبّه هو..

نوتات البيانو جميعها رائعة حالمة ناعمة، لكنّ نقلة عشوائية كافية ليصدر أقبح نشاز أنت سامعه، متى صرت أنا بعدك تلك النّغمة النّشاز يا (مارجريت)؟! لا أذكر! وهذا النّسيان نفسه جريمة لا يرفع بها قلم التّكليف في شرع المحبّين..

لكنّ أتفه المقدّمات قد تؤدّي إلى أخطر النّتائج الممكنة، ومأساة الألف مشكلة قد تبدأ بغلَطٍ تافهٍ، هو جرح عابر لكنّه لا يندمل، وسريعًا يتحول إلى (غرغرينا) توجِب أشنع أنواع العلاج (البتر)، وأن تناديها باسم أخرى وهي توشك أن تنادي كلّ الرّجال باسمك! هو ذلك النّوع من الجراح! كنت قد عدتُ تبلّلني السّماء، متدثّرا بخواطري السّوداء، وتأخذني العزّة بالإثم..

(مارجريت):
- لقد انتظرتك طوال اللّيل في الشّرفة، وهذا منها انتقاء بديع دقيق لأكثر الجمل استفزازًا لي عند ذلك الموضع..
فهو إهانة لعقلي وقدرتي على التّحليل والاستنتاج، أنا من يمكنني أن أستخلص هذا مباشرة من غير مقدّمات بصريّة، فهي تحبّني حبًا أوليًا كحب الأطفال، وعليه فهي لا شكّ فاعلة ما تفعله كلّ النّساء في هذه الحال: تقلق وتتوجّس، وتتمنّى أن أكون متُّ من غير آلام على أن أكون تزوّجتُ أخرى..

كبرياؤهنّ فقط يمنعهن من التّصريح أنهن يفضلن ألف مرّة أن يبكين علينا، بدل أن يبكين منّا، إذا كان في الموضوع أنثى غيرهن! فكيف إذاً وأنا أرى كِيسَي الأرَق الأزرقين تحت عينيها الحائرتين، واصفرار وجنتيها قلقًا، وعصابة الألم الّتي تلفّها على رأسها كنوع من الحداد وتنكيس العلم..

كلّ ذلك مجموعًا ثم تأتي مستفزة حاقدة تخبرني أنّها انتظرتني طول اللّيل؟!
لخّصت لها كل ما عصف بخاطري من مشاعر خيبة الأمل والتّحدّي وعدم المبالاة، وحرصت على أكبر ما أقدر عليه من الاختصار في كلامي، فأجملت ذلك كلّه في جواب واحد: أعرف!

قالت وهي تخرج سيف التّضحية المجيدة من قراب روحٍ لا تعرف معنى الإساءة، وتغمده حتّى مقبضه في صدري:
- غداؤك جاهز، فالعشاء والإفطار ما عادا صالحين للأكل!

تلقّيت الطّعنة في سويداء قلب صنم (أنوبيس) الّذي أحمله، ومررت للمطبخ لألتهم الطّعام بضمير سفّاح..
إنّ رفضك عن التّعبير حتّى عن غضبك ممّن لا يترك مجالاً للشّكّ في كونه يتعمّد إيذاءك سلاح مؤلم جدّا.. وهي لا تعرف هذا، وليس لها ذلك العقل الّذي يمكّنها من استعمال هذه الأساليب عالية الحسّ والتّقنية في الإيذاء الخفيّ، لكنّها ملهَمةٌ تفعل ذلك بغير سبق إرادة، وهذا ما يجعل سلاحها قاتلاً مدمّرا أكثر..

الأنوثة ككلّ شيء يمكن أن تكون متطرّفة جدّا، وأنوثتها فيها غلوّ طاغٍ لا يشوبه بأيّ وجه إرجاءٌ ولا تجهّمٌ ذكوريّ، وليس في ردّات فعلها قط منزلة بين منزلتين..

إنّ الرّجل يحاول مستميتًا أن يجد أرض المعركة الّتي يرتاح فيها، ساحة الجدل والمحاججة والسّخرية الموجّهة، ساحة افتعال المشكلات وملْء الكون ضجيجًا وصراخًا، والّتي لا تدخلها المرأة إلّا خابت وخسرت، لكنّ (مارجريت) لا تفارق أرضها قطّ، وتستعمل أسلحتها المحظورة على متطرّفي الذّكورة -مثلي- ببراعة كاملة وتناغم وتناسق أعجب!

ولذلك حين ولجتُ غرفة النّوم لأجدها متكوّمة على فراشها كقطّ سياميّ بجوار مدفأة في ليلة قرّ من ليالي كانون الثّاني، كنت أعلم أنّي سأقاتل في أرض لا تعرفني، وبسلاح لا يصلح لساحة المعركة الضّيّقة، الّتي أغوص في مستنقعها عالمًا بأخطارها عاجزًا عن التّقهقهر.. كانت دموعها السّوداء ترسم على الوسادة البيضاء بالكحل دوائر من الحزن، تتّسع شيئًا فشيئًا، وفرسُ خيالي يركض مرّة أخرى في سهل الشّرود المترامي.. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

كمال المرزوقي

رئيس جامعة الإمام مالك للعلوم الشّرعيّة بتونس.

  • 4
  • 0
  • 3,920
المقال السابق
نوستالجيا (مارجريت) (1)
المقال التالي
نوستالجيا (مارجريت) (3)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً