نوستالجيا (مارجريت) - نوستالجيا (مارجريت) (3)

منذ 2015-02-19

كنتِ أميرة من أحلام، ترسمين كلّ ليلة تحت غطائك الثّقيل في اللّيالي الطّويلة للشّتاء صورة الفارس الّذي تنتظرين، تلوّنينها بقدر سعيك للهرب من واقع لا تحبّينه، وتحبّينها بقدر كرهك للأحلام الّتي لا تجئ، هكذا جنت علينا القصص والمخيّلة الصحيّة، وهكذا هي كثيرة جدًّا أوهامنا الجميلة الّتي يهديها لنا الجهل والبُعْد، وقاسية جدًّا فضيحة الحقيقة الّتي يعريها العِلْم والقُرْب..

فتُ هناك على باب الغرفة بضع سنين، بدت كلحظات أرمق ذلك الجمال الحزين يرسم بالكحل على وسادته البيضاء كنقاوة روحك قصيدة هجائي، من ثَمّ تراجعتُ إلى الباب لأدخل للشّارع تاركًا خلفي ضجيج الصّمت في البيت، وديوان (نيتشه) على المنضدة، وسجائري الّتي ملّتني، وقهوتي العاشقة، ولم تتبعنِ سوى كومة ذكرياتي الكئيبة في إخلاص، كنتِ يومًا زنبقة تبتسمين فجرًا، وتغضين حياءً في وجه القمر..

بريئة الإشارات والأفكار، طاهرة الذّيل إلى حدّ المبالغة، ولا تعرفين من الحزن والألم إلّا ما يعرفه الأطفال!
كان مستحيلاً أن لا تهيمي بي حبًّا، وتفني كلّ مخزونك من الشّوق والهيام، وتستعملي كلّ خططك الّتي راجعتها ليلاً لتظفري بذلك الكائن الأسطوريّ، الّذي يعرف كلّ شيء! ويجيد كلّ شيء بإتقان أبطال ميثولوجيا الإغريق!

كان مستحيلاً أن لا تذوبي وأنا أعزف لك بالكلمات ألحانًا من شفق، وأنسج لك من الشّعر أثوابًا من مخمل، وتغازلك أناملي بسوناتا ضوء القمر على بيانو عاجيّ قديم.. كنتُ في ذلك الزّمن أملك أخلاق الفرسان، وخصالاً تمكّنني من الحصول على ما أريد، ولولا الأوّل كان امتلاك الثّاني كارثة كونيّة..

وكنتِ أميرة من أحلام، ترسمين كلّ ليلة تحت غطائك الثّقيل في اللّيالي الطّويلة للشّتاء صورة الفارس الّذي تنتظرين، تلوّنينها بقدر سعيك للهرب من واقع لا تحبّينه، وتحبّينها بقدر كرهك للأحلام الّتي لا تجئ، هكذا جنت علينا القصص والمخيّلة الصحيّة، وهكذا هي كثيرة جدًّا أوهامنا الجميلة الّتي يهديها لنا الجهل والبُعْد، وقاسية جدًّا فضيحة الحقيقة الّتي يعريها العِلْم والقُرْب..

لم تتساءلِ يومًا لمَ تنتهي القصّة دومًا بقولهم: "وعاشوا في تبات ونبات"؟!
كيف عاشوا؟ وكيف كانت أيّامهم تلك الّتي هي تبات ونبات؟
كيف تكرّر ذلك التّبات والنّبات كلّ يوم وكلّ ساعة؟ وأين ذهب الملل؟
وأين ذهبت العيوب الّتي ستكشفها العين القريبة يومًا على ظهر يوم؟
وأين ذهبت فظاعة الحقيقة وقبحها حين تظهر؟

سترفضين أن تفكّري في هذا، كما ترفضين أن تتخلّي عن اللّون الوردي، وصورة الفارس الّذي لن يقدر أن يظلّ أسطوريًّا عشر سنين، فهذا يتجاوز قدرات البشر، وهكذا الحقيقة: قطار شحن بضائع حين يدهسك جملة واحدة لا تجدين الوقت لتندهشي، واحتمالات نجاتك الرّياضيّة: (صفر).

وهكذا بكلّ هذا التّنافر البعيد، وهدوء مدمّر كقلب الإعصار دخلتُ حياتك، لأعيشك وتعيشيني..
لكنّي دخلتُها كما أدخل غرفتي الّتي لم يفسد عدمَ نظامها تطفّلُ غريبٍ ثقيل، وولجتِ أنتِ حياتي كأنّك تدخلين عالم المرآة المسحورة وبلد العجائب..!

والمفارقة الوحيدة كونيّة الأبعاد أنّك لم تقرئِ التّحذير المكتوب على لوح أطواري الغريبة وشرود ذهني الدّائم، وإلّا لأدركت أنّك لم تكونِ (أليس)، وأنّ ما تدخلينه لم يكن أبدًا بلاد العجائب بل جحيم (دانتي): "يا من تدخلين هنا اتركي خلفك كلّ أمل". 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

كمال المرزوقي

رئيس جامعة الإمام مالك للعلوم الشّرعيّة بتونس.

  • 6
  • 0
  • 5,723
المقال السابق
نوستالجيا (مارجريت) (2)
المقال التالي
نوستالجيا (مارجريت) (4)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً