السيدة عائشة رضي الله عنها وحادثة الإفك
وعند مالك: "أن من سبها قُتل" قال أبو الخطاب ابن دحية في أجوبة المسائل: "وشهد لقول مالك كتاب الله، فإن الله إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه. قال - تعالى -: (وقالوا اتخذوا الرحمن ولداً سبحانه) والله تعالى- ذكر عائشة فقال: (لولا إذا سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلّم بهذا سبحانك هذا بهتانٌ عظيم) فسبح نفسه في تنزيه عائشة كما سبح نفسه لنفسه في تنزيهه" حكاه القاضي
قال الإمام البخاري - رحمه الله -:باب قوله: ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) كتاب التفسير.
حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيَّب، وعلقمة بن وقاص، وعُبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة - رضي الله عنها- زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا، وكلٌّ حدثني طائفة من الحديث، وبعض حديثهم يصدّق بعضاً وإن كان بعضهم أوعى له من بعض، الذي حدثني عروة عن عائشة - رضي الله عنها- أن عائشة - رضي الله عنها- زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، قالت عائشة فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج سهمي فخرجتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم إنما نأكل العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمَّرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه إلا استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يُفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني، ولا أشعر حتى خرجت بعد ما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع- وهو متبرزنا- وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح -وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة- فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلاً شهد بدراً! قالت: أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعني سلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن استيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوِّني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا! قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة، فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يُريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فاستعذر يومئذٍ من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوا الله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي؟ فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية- فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير- وهو ابن عم سعد- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس، والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر فلم يزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم -يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع، يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا يُوحى إليه في شأني، قالت فتشهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حين جلس، ثم قال: (( أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه))، قالت: فلما قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي، حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: فقلت -وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن-: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، والله ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف قال: ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي قالت: وأنا حينئذٍ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في النوم رؤيا يبرئني الله بها، قالت فوا الله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت فلما سُري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: يا عائشة أما الله - عز وجل - فقد برأك، فقالت أمي: قُومي إليه قالت فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله - عز وجل - وأنزل الله ((إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه....) الآية العشر الآيات كلها فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله: ( وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (22) سورة النــور. قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال والله لا أنزعها منه أبداً، قالت عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل زينب ابنة جحش عن أمري، فقال: يا زينب: ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيراً، قالت: وهي التي كانت تُساميني من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها "حمنة" تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك" البخاري مع الفتح (8/4750ص 306).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في قوله: "عروة عن عائشة أن عائشة - رضي الله عنها- زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -... ليس المراد أن عائشة تروى عن نفسها؛ بل معنى قوله: " عن عائشة" أي عن حديث عن عائشة في قصة الإفك، ثم: شرع يحدث عن عائشة، 1 قلت: وهذا فيه رد على من يقول أن هذا الحديث ترويه عائشة فهي تدافع عن نفسها، وهذا كلام باطل كما سبق في قول الحافظ ابن حجر.
قوله في الحديث: " بعد ما نزل الحجاب" أي بعد ما نزل الأمر بالحجاب، والمراد حجاب النساء عن رؤية الرجال لهن، وكن قبل ذلك لا يمنعن، وهذا قالته كالتوطئة لسبب في كونها كانت مستنزة في الهودج حتى أفضى ذلك إلى تحميله وهي ليست فيه وهم يظنون أنها فيه. بخلاف ما كان قبل الحجاب، فلعل النساء حينئذ كن يركبن ظهور الرواحل بغير هوادج، أو يركبن الهوادج غير مستترات، فما كان يقع لها الذي يقع، بل كان يعرف الذي كان يخدم بعيرها إن كانت ركبت أم لا. 2
وقوله: " فمشيت حتى جاوزت الجيش" أي لتقضي حاجتها منفردة.
وقوله: " فلما قضيت شأني" الذي توجهت بسببه، ووقع في حديث ابن عمر خلاف ما في الصحيح، وأن سبب توجهها لقضاء حاجتها أن رحل أم سلمة مال فأناخوا بعيرها ليصلحوا رحلها، قالت عائشة: فقلت: إلى أن يصلحوا رحلها قضيت حاجتي، فتوجهت ولم يعلموا بي فقضيت حاجتي، فانقطعت قلادتي فأممت في جمعها ونظامها، وبعث القوم إبلهم ومضوا ولم يعلموا بنزولي" وهذا شاذ منكر. 3
قوله: " فلم يستنكر القوم خفة الهودج" وقع في رواية فليح ومعمر " ثقل الهودج " والأول أوضح؛ لأن مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها، وهي ليست فيه، فكأنها تقول كأنها لخفة جسمها بحيث إن الذين يحملون هودجها لا فرق عندهم بين وجودها فيه وعدمها، ولهذا أردفت ذلك بقولها: " كنت جارية حديثة السن"، أي أنها مع نحافتها صغيرة السن فذلك أبلغ في خفتها، وقد وجهت الرواية الأخرى بأن المراد لم يستنكروا الثقل الذي اعتادوه، لأن ثقله في الأصل إنما هو مما ركب الهودج منه من خشب وحبال وستور وغير ذلك، وأما هي فلشدة نحافتها لا يظهر بوجودها فيه زيادة ثقل، والحاصل أن الثقل والخفة من الأمور الإضافية فيتفاوتان بالنسبة، ويُستفاد من ذلك أيضاً أن الذين كانوا يرحلون بعيرها كانوا في غاية الأدب معها والمبالغة في ترك التنقيب عما في الهودج بحيث أنها لم تكن فيه وهم يظنون أنها فيه، وكأنهم جوزوا أنها نائمة. 4
قوله: " فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب" في رواية فليح: " وليس فيها أحد" فإن قيل لما لم تستصحب عائشة معها غيرها فكان أدعى لأمنها مما يقع للمنفرد، ولكانت لما تأخرت للبحث عن العقد ترسل من رافقها لينتظروها إن أرادوا الرحيل؟
والجواب: أن هذا من جملة ما يُستفاد من قوله حديثة السن؛ لأنها لم يقع لها تجربة مثل ذلك، وقد صارت بعد ذلك إذا خرجت لحاجتها تستصحب كما خرجت معها أم مسطح. 5
قوله: " فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت"، يحتمل أن يكون سبب النوم شدة الغم الذي حصل لها في تلك الحالة، ومن شأن الغم وهو وقوع ما يُكره- غلبة النوم، بخلاف الهم -وهو توقع ما يكره- فإنه يقتضي السهر، أو لما وقع من برد السحر لها من رطوبة بدنها وصغر سنها.
وعند ابن إسحاق: " فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني" أو أن الله - سبحانه وتعالى- لطف بها فألقى عليها النوم لتستريح من وحشة الانفراد في البرية بالليل.
وقوله: " فأدلج فأصبح عند منزلي" أدْلج بسكون الدال في روايتنا وهو كادّلج بتشديدها، وقيل: بالسكون سار من أوله، وبالتشديد سار من آخره، وعلى هذا فيكون الذي هنا بالتشديد؛ لأنه كان في آخر الليل، وكأنه تأخر في مكانه حتى قرب فركب ليظهر له ما يسقط من الجيش، ويحتمل أن يكون سبب تأخيره ما جرت به عادته من غلبة النوم عليه. 6
قوله: " فرأى سواد إنسان نائم" السواد بلفظ من البياض، يُطلق على الشخص أي شخص كان، فكأنها قالت: رأى شخص آدمي، لكن لا يظهر أهو رجل أم امرأة.
وقوله: " فعرفني حين رآني" هذا يُشعر بأن وجهها انكشف لما نامت؛ لأنه تقدم أنها تلففت بجلبابها ونامت، فلما انتبهت باسترجاع صفوان بادرت إلى تغطية وجهها.
وقوله: "وكان يراني قبل الحجاب" أي قبل نزول آية الحجاب، وهذا يدل على قدم إسلام صفوان، فإن الحجاب كان في قول أبي عُبيدة وطائفة من ذي القعدة سنة ثلاث. 7
قوله: "فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني" أي بقوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون) وصرح بها ابن إسحاق في روايته، وكأنه شق عليه ما جرى لعائشة أو خشي أن يقع ما وقع، أو أنه اكتفى بالاسترجاع رافعاً به صوته عن مخاطبتها بكلام آخر صيانة لها عن المخاطبة في الجملة، وقد كان عمر يستعمل التكبير عند إرادة الإيقاظ، وفيه دلالة على فطنة صفوان وحسن أدبه.
قوله: " والله ما كلمني كلمة" عبرت بهذه الصيغة إشارة إلى أنه استمر منه ترك المخاطبة؛ لئلا يفهم لو عبرت بصيغة الماضي اختصاص النفي بحال الاستيقاظ فعبرت بصيغة المضارعة.
وقوله: " فوطئ على يدها" أي ليكون أسهل لركوبها، ولا يحتاج إلى مسها عند ركوبها، وفي حديث أبي هريرة: " فغطى وجهه عنها ثم أدنى بعيره منها". 8
قوله: " فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش" هكذا وقع في جميع الروايات إلا في مرسل مقاتل بن حيان فإن فيه أنه ركب معها مردفاً لها، والذي في الصحيح هو الصحيح. 9
قال الشيخ عبد الحميد محمود طهماز في كتابه" أعلام المسلمين السيدة عائشة أم المؤمنين، وعالمة نساء الإسلام": (بعد أن ذكر حديث حادثة الإفك من صحيح البخاري) قال: وهكذا خرجت السيدة من محنتها بشهادة ربانية ببراءتها وطهرها وطيبها، شهادة لا تمحوها الأيام، ولا تخلقها الأعوام، مما زاد في مكانتها في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلى من مقامها في نفسه وفي نفوس المؤمنين إلى يوم الدين"10
وقال الإمام بدر الدين الزركشي: وهو يتكلم في خصائصها -رضي الله- عنها الأربعين، قال: "و الخامسة" أي من الخصائص: نزول براءتها من السماء بما نسبه إليها أهل الإفك في ست عشرة آية متوالية، وشهد لها بأنها من الطيبات، ووعدها بالمغفرة والرزق الكريم. وانظر تواضعها وقولها: "ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يتلى" قال الزمخشري: "ولو فلّيت القرآن وفتشت عما أوعد به العصاة، لم تر الله- عز وجل - قد غلَّظ في شيء تغليظه في إفك عائشة، وعن ابن عباس أنه قال بالبصرة يوم عرفة وقد سُئل عن هذه الآيات: "من أذنب ذنباً ثم تاب منه قُبلت توبته، إلا من خاض في إفك عائشة"، ثم قال: " برأ الله - تعالى -أربعة بأربعة: يوسف بالوليد، وموسى بالحجر، ومريم بإنطاق ولدها: (إني عبد الله) وبرأ عائشة بهذه الآيات العظيمات".
فإن قلت: فإن كانت عائشة هي المرادة فكيف قال: المحصنات؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن المراد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون الحكم شاملاً للكل، والثاني أنها أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة.
قال: والسادس: جعله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة (أي الآيات التي نزلت في براءتها).
وقال: في الحادية عشرة: وجوب محبتها على كل أحد ففي الصحيح: لما جاءت فاطمة - رضي الله عنها- إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((ألست تحبين ما أحب؟ قالت: بلى. قال: فأحبي هذه)) يعني عائشة، وهذا الأمر ظاهره الوجوب. وتأمل قوله لما حاضت عائشة: ((إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم)) وقوله: لما حاضت صفية: "عقرى حلقى أحابستنا هي؟" وفرق عظيم بين المقامين. ولعل من جملة أسباب المحبة كثرة ما بلّغته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- دون غيرها من النساء الصحابيات كما قيل بمثل ذلك في قوله:
((وحُبِّب إلي من دنياكم الطيب والنساء)).
وقال في الثانية عشرة: " إن من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها" قال الخوارزمي في الكافي، من أصحابنا، في كتاب الردة:
" لو قذف عائشة بالزنى صار كافراً بخلاف غيرها من الزوجات؛ لأن القرآن نزل ببراءتها". ا. هـ.
وعند مالك: "أن من سبها قُتل" قال أبو الخطاب ابن دحية في أجوبة المسائل: "وشهد لقول مالك كتاب الله، فإن الله إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه. قال - تعالى -: (وقالوا اتخذوا الرحمن ولداً سبحانه) والله تعالى- ذكر عائشة فقال: (لولا إذا سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلّم بهذا سبحانك هذا بهتانٌ عظيم) فسبح نفسه في تنزيه عائشة كما سبح نفسه لنفسه في تنزيهه" حكاه القاضي
أبو بكر ابن الطيب. 11 وللمزيد عن فضائل عائشة- رضي الله عنها- راجع: كتاب " الإجابة " للإمام الزركشي، وغيره والله أعلى وأعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــ
1- الفتح 8/311.
2- المرجع السابق ص312.
3- المرجع السابق 313.
4- المرجع السابق (314-315).
5- الفتح (8/315).
6- السابق (316).
7- السابق (317).
8- السابق (318).
9- السابق (319).
10- السيدة عائشة أم المؤمنين وعالمه نساء الإسلام ص60/ دار القلم الطبعة الخامسة.
11- الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة. تأليف/ الإمام بدر الدين الزركشي، عني بتحقيقه وضع مقدمته- سعيد الأفغاني ص45-54. المكتب الإسلامي/ الطبعة الأولى والثانية.
- التصنيف:
- المصدر: