نوستالجيا (مارجريت) - نوستالجيا (مارجريت) (7)
(مارجريت) الّتي عوّدتني أن تلفظ التّفاصيل الّتي لا تعنيها، ولا تلقي لها بالاً؛ أمّا حين يتعلّق الأمر بنا أو بي أو بها – وهو ضمير يشملني أنا أيضا - فإنّها تنظر بعيني رسّام وتسمع بأذن مايسترو وتناقش وتستطرد وتسأل أسئلة أصليّة ومحدّدة كهايدجر، وتنهج معي نهج قابليّة الدّحض لبوبر !
أخبرتني ذات دِفْءٍ غريب من أمسيات الشّتاء الّتي يعزف فيها الصّقيع الجليديّ الجافّ أنشودة البرد عمّا أسمته سرّا..
سرّ أعرفه كما أعرف كفّي اليمنى ونبضات قلبي ..
قالت وهي تنظر إلى شفتيّ ترسمان الحروف، وهي طريقتها الّتي ابتكرتها لتخاطبني وهي تنظر إلى وجهي – أدبا لئلّا تُظهِر إعراضا - متحاشية تعليقات عينيّ السّاخرة غالبا، والجامدة المستفزّة أحيانا:
- لماذا أشعر أنّ حياتي من غيرك تنقلب رأسا على عقب؟.
هكذا صاغت سؤالها بكلّ تسطيح ممكن، وبرؤيتها المباشرة للنّتائج وإعراضها الكلّيّ عن تعقيد التّفاصيل!
وهذا أمر مؤلم فعلا حين تفعله (مارجريت) خبيرة العناية المركّزة بتفاصيل كلّ ما يتعلّق بي.
(مارجريت) الّتي عوّدتني أن تلفظ التّفاصيل الّتي لا تعنيها، ولا تلقي لها بالاً؛ أمّا حين يتعلّق الأمر بنا أو بي أو بها – وهو ضمير يشملني أنا أيضا - فإنّها تنظر بعيني رسّام وتسمع بأذن مايسترو وتناقش وتستطرد وتسأل أسئلة أصليّة ومحدّدة كهايدجر، وتنهج معي نهج قابليّة الدّحض لبوبر !
إنّ سؤالها عند التّفكيك يحمل كمّا من الإشكاليّات المضمرة المستكنّة الّتي يمكن أن تجعله ملحمة كبرى من الأسئلة..
((لماذا؟))
معضلة الفيزيائيّين والفلاسفة والأطفال.
((أشعر))
إرادة تعليل لوجدانيّ غير قابل للبرهنة إلاّ بنفسه، ولا يمكن نقل برهانه لغير صاحبه.
((حياتي))
حياتها الّتي أتنفّسها أنا بكلّ وقاحة، مصرّا على كونها حياتنا، في حين أعيش أنا بكلّ لؤم وأثرة وبخل حياتي لوحدي، حافظا ياء النّسبة وضمير المتكلّم المستتر الّذي أُظهره كثيرا إذا احتدّ النّقاش توكيدًا وتبكيتًا!
((من غيرك))
وهي واقعيّا تعيش ثلاثة أرباع ما هو معي نظريّا من غيري فعليّا!
تعيش مع من قسّم يومه أثلاثا كبرى تتخلّلها النّشاطات الضّروريّة التّعبّديّة والفيزيولوجيّة بأن جعل ثلثا للقراءة وثلثا للنّوم وثلثا للتّأمّل والاكتئاب!
فإن جار على ثلث النّوم فاقتطع منه أقرضَه لثلث القراءة أو ثلث الاكتئاب، فأين ثلثها؟!
أين ربعها؟!
أين خمسها؟!...
أين (معي) لتصحّ عبارة (من غيرك)؟!
((تنقلب رأسا على عقب))
وهي الّتي منذ لُزَّتْ معي في قَرَنٍ واحد انقلبت طباعها وعوائدها وما ألفت من نواميس البشر في المعاملة والكلام والأفكار والحياة .. أفيزعجها أن ترجع الطّفلة الأولى؟!
إنّ كلّ المعضلة وأُمَّها = ههنا قائمة .. فـ(مارجريت) تزعم أنّها هي هي لم تتغيّر!..
لم يغيّرها الزّمان ولا الأحزان ولا البلى وغبار الأيّام والابتلاء بي!
هي صادقة تماما مع نفسها .. صادقة في إخبارها بما تحسّ به وتعتقده، كاذبة في عدم إصابة الحق في نفس الأمر ..
إنّه نفس شعور كلّ واحد منّا، حين يفتّش في طيّات نفسه ليعثر على نفس الطّفل الغرير النّزق الأخرق القديم ..
نفس الطّفل الّذي مازال يرتكب الأخطاء القاتلة في الحياة، ويخدعه الأفّاقون المحتالون، ويثق في الذّئاب اللّئام، ويحبّ الحلوى والشّوكولاه!
تحسب أنّ السّنين غيّرتك؟! فماذا ؟
هل ازددت فيها حكمة ؟ هل لمست جذوة المعرفة المقدسة؟ هل أرغمت كاتب التاريخ أن يسطّر اسمك بين أسماء من غيّروا سير الأحداث؟ هل رأيت نذير الشّيب فاتّعظت ورجعت؟
لا أظن .. بل أنت أنت ، ذات الطّفل الغرير الذي يحسب أنه قد عرف كيف يحسو الحساء، فلا تنفكّ الرّعشة الصّغيرة تغزو يده ليسكبه شاعرا بالخزي على ثيابه، ويرفع عينيه يطلب العون من أمّه ...
نفسُ الطّفل الثّائر الّذي يرفض مشاركة لعبه، وقد يتحمّل إخوتُه من عداوته - بحكم القُرْب! - أضعاف ما يتحمّله أبناء الجيران وأعداء العائلة!
نعم، كان لك ذات يوم قلب شاب ، وبات اليوم لك قلب شيخ عجوز، لكنك في أعماقك موقن أنّك وإلى أن يأتي ملك الموت ليتوفّى نفسكَ وأنت أشيب قد سئمت تكاليف الحياة ستشعر أنّك نفس ذلك الطّفل الأوّل الّذي يخشى الظّلام!..
وستبكي وأنت تفقد القدرة على استرداد أنفاسك .. بكاءَ الرّضيع، وستذكر نفس الشّعور = شعور الطّفل الذي نسيت أمّه الوسادة على وجهه وهو معدوم الحيلة ..
إنّ (مارجريت) صادقة تماما في هذا النّصف الّذي تدركه وتعرفه ..
لكنّها غافلة عن تلك اليد الّتي اغتصبت - برغم كلّ هذا الثّبات الأكيد في الماهية - براءتنا – مع كُفْري ببراءة الأطفال - وسرعةَ نسياننا واستغناءنا عن التّعبير بالكلمات!..
الكلمات الّتي هي أكبر سارق لأحاسيسنا الأوّليّة البكر الكاملة .. أيّام كان للهواء رائحة، وللمطر طعم ولون، وللتّراب صوت ...
نعم غيّر تعاقب الأيّام واللّيالي ألواننا وأحلامنا ولم يحفظ لنا إلاّ شعورنا اليقينيّ بوجودنا وكينونتنا ..
لقد زعمت أنّي تغيّرتُ بعدها *** ومن ذا الّذي يا عَزُّ لا يتغيّرُ
حتّى الصّوّان الصّلد الأصمّ يا (مارجريت) تغيّره عوامل التّعرية، وحتّى الصّخر يثقبه تعاقب دفق الجدول المستمرّ ..
وأنت أرقّ وألطف من المخمل .. وشلاّل قراءتي، وعوامل التّعرية في طباعي أعمق أثرا من الماس لو قُطّع به الأقط.. فكيف لا تتغيّرين؟!
كيف لا تتغيّرين؟!
قالت (مارجريت) وهي تعقد حاجبيها متنمّرة عصبيّة:
- أنت لا تصغي إليّ! لماذا تصرّ على أن تتجاهلني دوما كأنّني غير موجودة؟!
لم تكن تفهم أنّ العكس تماما هو ما يحدث معي .. لقد كنت أصغي إليها أكثر من اللاّزم إلى الحدّ الّذي لم أسمع معه شيئا ممّا قالت بعد جملتها الأولى.
كنت أصغي إليها جدّا وأستمع بكلّ ذرّة في كياني .. إلى الحدّ الّذي أبدو فيه شاردا غائبا عنها.
لقد كان ما تشكو منه هو مقلوب حالتي أصلا .. وينبغي أن أقلّل من الاستماع التّامّ لها ليمكنني أن أشاركها بعضًا من خواطري السّوداء وأفكاري الكئيبة، وأتصنّع شيئا من الاهتمام المفتعل المسرحيّ على وجهي.
أجبتُ في وجوم ألفتُه وألِفني:
- أنا أسمع.
- التصنيف:
- المصدر: