مع القرآن - نداء لمن هجر القرآن
وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره -من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره- من هجرانه..
نداء لمن هجر القرآن.. نداء لمن لا يقرأه إلا في رمضان..
كيف تلق الله غداً هاجراً لكتابه بعيد العهد بكلامه تعالى؟!
قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا . وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:30-31].
قال ابن كثير في التفسير:
يقول تعالى مخبرًا عن رسوله ونبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين، أنه قال: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}، وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يسمعونه، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [ فصلت:26 ]، وكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه فهذا من هجرانه..
وترك علمه وحفظه أيضًا من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره -من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره- من هجرانه، فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء، أن يخلصنا مما يسخطه، ويستعملنا فيما يرضيه، من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه كريم وهاب.
جاء في مقدمة ابن كثير لتفسيره:
في المسند عن عبد الرحمن بن شبل مرفوعا: "اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه".
فقوله: "لا تغلوا فيه" أي: لا تبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مدة، فإن ذلك ينافي التدبر غالبًا؛ ولهذا قابله بقوله: "ولا تجفوا عنه" أي: لا تتركوا تلاوته.
وعن حجاج، عن شعبة، عن أيوب: سمعت أبا قِلابة، عن أبي المهلب قال: "كان أبيّ بن كعب يختم القرآن في كل ثمان".
وحدثنا علي بن عاصم، عن خالد، عن أبي قلابة قال: "كان أبيّ بن كعب يختم القرآن في كل ثمان".
وكان تميم الداري يختمه في كل سبع، وحدثنا هُشَيْم، عن الأعمش، عن إبراهيم: "أنه كان يختم القرآن في كل سبع".
وحدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: "كان الأسود يختم القرآن في كل ست، وكان علقمة يختمه في كل خمس".
فلو تركنا ومجرد هذا لكان الأمر في ذلك جليًا، ولكن دلت أحاديث أخرجوها على جواز قراءته فيما دون ذلك، كما رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا حبان ابن واسع، عن أبيه، عن سعد بن المنذر الأنصاري؛ أنه قال: "يا رسول الله، أقرأ القرآن في ثلاث؟ قال: « »، قال: فكان يقرؤه حتى توفي".
وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث، كما هو مذهب أبي عبيد وإسحاق وابن راهويه وغيرهما من الخلف -أيضًا- قال أبو عبيد: حدثنا يزيد، عن هشام بن حسان، عن حفصة، عن أبي العالية، عن معاذ بن جبل: "أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث" (صحيح).
وحدثنا يزيد، عن سفيان، عن علي بن بَذِيمة، عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: "من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز"، وحدثنا حجاج، عن شعبة، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله مثله سواء، وحدثنا حجاج، عن شعبة، عن محمد بن ذَكْوَان، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه: "أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث" (إسناده صحيح)، وحدثنا حجاج عن شعبة، عن محمد بن ذكوان -رجل من أهل الكوفة- قال: "سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يقول: كان عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن في غير رمضان من الجمعة إلى الجمعة".
فصل:
وقد ترخص جماعة من السلف في تلاوة القرآن في أقل من ذلك؛ منهم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال أبو عبيد: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن خَصيفة، عن السائب بن يزيد: "أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلاة طلحة بن عبيد فقال: إن شئت أخبرتك عن صلاة عثمان رضي الله عنه، فقال: نعم. قال: قلت: لأعلين الليلة على الحجر، فقمت، فلما قمت إذا أنا برجل مقنع يزحمني، فنظرت فإذا عثمان بن عفان، فتأخرت عنه، فصلى فإذا هو يسجد سجود القرآن، حتى إذا قلت: هذه هوادي الفجر، أوتر بركعة لم يصل غيرها" (وهذا إسناد صحيح).
قال وحدثنا هُشَيْم، عن منصور، عن ابن سيرين قال: "قالت نائلة بنت الفرافصة الكلبية حيث دخلوا على عثمان ليقتلوه: إن يقتلوه أو يدعوه، فقد كان يحيي الليل كله بركعة يجمع فيها القرآن" (وهذا حسن أيضًا).
وقال -أيضًا-: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم بن سليمان، عن ابن سيرين: "إن تميمًا الداري قرأ القرآن في ركعة".
حدثنا حجاج بن شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبير: أنه قال: "قرأت القرآن في ركعة في البيت -يعني الكعبة-".
وعن الإمام الشافعي رحمه الله: "أنه كان يختم في اليوم والليلة من شهر رمضان ختمتين، وفي غيره ختمة".
وعن أبي عبد الله البخاري -صاحب الصحيح-: "أنه كان يختم في الليلة ويومها من رمضان ختمة".
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: