تخطيط الوقت : إخفاقك في التخطيط تخطيط لإخفاق
ورُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "العلمُ كثير، ولن تعيَه قلوبكم، ولكن ابتغوا أحسَنَه؛ ألم تسمَعْ قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18]".
هذه السطورُ ليست موجَّهة بالدرجة الأولى إلى المديرين وكبارِ الموظَّفين في المؤسَّسات والشركات؛ فأولئك تتوفَّر لديهم الكتبُ التي تتحدث عن إدارة الوقت، بل ربما درَسوا الإدارة في المعاهد أو الجامعات، إنها موجَّهة للطالب، والمدرِّس، وربَّة المنزل، ومع ذلك فلا بأسَ باستخدام بعض الأمثلة والمصطلحات الشائعة في مجال الإدارة.
يكاد الناسُ يُجمِعون على أهمية التخطيط للأعمال قبل القيام بها، ولكن: كم نسبة الذين يخطِّطون منهم؟ صحيح أن التخطيط في البداية يحتاج إلى وقت، ولكنه في النهاية يوفِّر الوقت، وحسبما يقول بعضُ المختصين في الإدارة، فإن كلَّ دقيقة تُنفَق في التخطيط توفِّرُ ثلاث أو أربع دقائق في التنفيذ! وإن قضاء سبع ساعات مثلاً في التخطيط الجيِّد الذي ينجُم عنه وضوحٌ في الأهداف، وترتيب للأولويات، وتحديد لطُرُق الإنجاز، قد يكون أفضلَ من إنفاقِ سبعة أيام في العمل دون تحديدٍ للأهداف، وترتيب للأولويات، قد يحقِّقُ المرءُ نتائجَ جيدة دون تخطيط في بعض الأحيان، لكن هذا يكون نتيجةً للمصادفة، لا للإدارة الجيدة!
إن أغلبَ الناس يفضِّلون أن يعلَموا، لا أن يفكروا؛ لذلك فهم يتحرَّكون في (دائرة ردِّ الفعل)، يستجيبون لِما حولهم بقليلٍ من التفكير المسبق، أما المبادرةُ فتحتاج إلى التخطيطِ والتفكير، وهذا ما لا يفضِّلونه غالبًا.
إن للإنسان حاجاتٍ عديدة، منها: (حاجة الشعور بالإنجاز)، أو الانتهاء من الأعمال، ومِن سوء الحظ فإن التخطيطَ لا يُشبِع هذه الحاجة بسرعة؛ لأن نتائجَ التخطيط لا يراها المرءُ إلا بعد فترة زمنية، تطُول أو تقصُر؛ لذا فإننا نتردَّدُ في القيام بأي عملٍ لا يوصلنا إلى نتائجَ سريعة.
يقول الدكتور نادر أبو شيخة[1]: "يعمل التخطيطُ تجسير الفجوة بين ما هو قائم فعلاً، أو ما نحن عليه الآن، وبين ما نستهدف تحقيقَه، إنه أسلوبٌ يصل المستقبل بالحاضر، ومع ذلك فنحن لا نحبِّذه؛ لأنه نشاطٌ معقَّد يتطلَّبُ تفكيرًا في المستقبل بطريقةٍ منظمة، واستشرافًا له، وتوقُّعًا للأحداث".
"... ويستمدُّ تخطيطُ الوقت أهميته من حقيقة أساسية، هي: أن المهامَّ أو الأنشطة كثيرة، وأن هنا دائمًا أشياء لا بدَّ من القيام بها، وبالتالي فإن الوقتَ هو الإطار الحرجُ المحدود الذي لا يمكن تمديدُه أو توسيعه ليستوعبَ كل ما نريد أن نحدِثَه فيه".
طريقة تساعد على تخطيط الوقت:
إن نقطةَ البدء في تخطيط الوقت هي تحديدُ الأهداف بدقة ووضوح لفترة زمنية محدودة قادمة، كالأسبوع التالي، أو الشهر القادم، أو السَّنة المقبِلة، ولا بد لِمَن يقوم بتخطيط وقته أن يسأَلَ نفسَه أسئلة عدة، ثم يجيب عنها، وهي: ماذا؟ ومتى؟ وأين؟ وما؟ وتفصيلها:
أ. ماذا يجب أن أعمل؟
على المرءِ أن يتذكرَ أنه لا يستطيع أن (يقوم) بهدف ما؛ فالهدف هو نتيجةٌ لنشاط معيَّن في إطار زمنيٍّ محدد، إذًا فهو يستطيع أن (يقومَ) بنشاط ما، إذا كان هدفي النجاح في صفِّي، فعليَّ أن أدرُسَ وأذاكرَ، وإذا كان هدفي إنقاص وزني، فعليَّ أن أتبعَ نظامًا غذائيًّا معينًا، وإذا كان هدفي اكتساب اللياقة البدنية، فسبيلي ممارسةُ الرياضة بشكل صحيح، وإذا كان هدفي حُسنَ تربية أولادي، فمِن الأمور الواجب عليَّ فِعلُها: أن أعطيَهم من وقتي، وأعيش معهم في عالَمهم، وأُصغيَ إليهم، وإذا كان هدفي بِناء علاقة حَسنة مع جيراني، فطريقي على ذلك دعوتُهم إلى منزلي، وزيارتُهم، وإهداؤهم، والسؤال عنهم، ومدُّ يد المساعدة إليهم، وإذا كان هدفي نيلَ رضا الله سبحانه، فطريقة ذلك الائتمارُ بأوامره، وهي كثيرة، والانتهاء عمَّا نَهى عنه، وهو كثير أيضًا، وما شابه ذلك.
ب. متى يجبُ أن أعمله؟
أحدِّد الوقت المناسب؛ وبذلك أنجو من التأجيلِ والتسويف من جهة، وأُنجِز في فترة أقلَّ من جهة أخرى.
ج. أين يجب أن أعمله؟
فإذا أردت أن أقابل شخصًا ما، فهل يكون ذلك بزيارته في منزله، أم بدعوته لزيارتي في منزلي، أم في مكتبي؟ أم في مكانٍ آخر؟
وإذا أردت عقدَ اجتماعٍ مهم يخلو من المقاطعات، فأين أنسَبُ الأماكن لعَقْدِه؟
د. من الذي يقوم بالعمل؟
هل يتعيَّنُ عليَّ أن أقومَ بالعمل بنفسي؟ أم يمكن تفويضُه إلى السكرتير، أو موظَّف آخر؟
هل تطلُب ربَّة المنزل من الشغالة أن تقومَ عنها بعمل ما؟ أم تكِلُ ذلك إلى ابنتها؟ وهل يطلب الوالد من ابنه شراءَ حاجيَّات المنزل أم يشتريها بنفسِه؟ وهل يرجو صديقًا له أن يساعدَه في أمر شاقٍّ عليه يسيرٍ على صديقه، ليُعينَه في المستقبل بأمر يسيرٍ عليه عسيرٍ على صديقه؟
هـ. ما الأولويات؟
ليس كلُّ ما هو ممتع مهمًّا، وليس كل ما هو مهتم ممتعًا؛ فالواجبُ على المرء قبل القيام بعملٍ ما أن يتروَّى قليلاً ليرى: هل البدءُ به وتقديمه على ما سواه أفضلُ وأنفع لسَيْر العمل؟
ومما تجدر الإشارةُ إليه ما قاله علماؤنا الأقدمون فيما يتعلَّقُ بالأولويات، وهي لفظة محدَثة، وكان القُدامى يقولون: تقديمُ الأهم على المهم.
قال الخطيبُ البغدادي[2] رحمه الله: "والعلم كالبحارِ المتعذِّر كَيْلُها، والمعادن التي لا ينقطعُ نيلها، فاشتغِلْ بالمهم منه؛ فإنه من شغَل نفسه بغير المهم، أضرَّ بالمهم".
وقال العباس بن الحسن العلوي، العالِم الشاعر النَّابهُ، مستشار الخليفتين الرشيد والمأمون: "اعلَمْ أن رأيَك لا يتسع لكل شيءٍ، ففرِّغه للمهم، وأن مالَك لا يُغني الناس كلَّهم، فخُصَّ به أهلَ الحق.. وأن ليلك ونهارَك لا يستوعبانِ حاجتك، وإن دأبتَ فيهما، فأحسِنْ قسمتَهما بين عملك ودَعَتِك؛ فإن ما شغلتَ من رأيك في غير المهم إزراءٌ بالمهم، وما صرفتَ من مالك في الباطل فقدتَه حين تريدُه للحق.. وما شغلتَ من ليلِكَ ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة".
ورُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "العلمُ كثير، ولن تعيَه قلوبكم، ولكن ابتغوا أحسَنَه؛ ألم تسمَعْ قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18]".
وأوصى الخليفةُ المأمون بعضَ بنيه فقال: "اكتُبْ أحسَنَ ما تسمَعُ، واحفَظْ أحسَنَ ما تكتُبُ، وحدِّث بأحسَنِ ما تحفَظُ"[3].
وقال الجاحظ في رسالة التربيع والتدوير[4]: "وخَصلةٌ ينبغي أن تعرفَها وتقف عندها، وهو أن تبدأ من العلمِ بالمهم، وتختار من صنوفه ما أنت أنشطُ له، والطبيعة به أعنى؛ فإن القَبولَ على قدر النشاط، والبلوغ فيه على قدرِ العناية".
و. وما مقدارُ الوقت اللازم للتنفيذ؟
أكثرُ الناس ليس عندهم تقديرٌ دقيق لمقدار الوقت الذي يستغرقه القيامُ بعملٍ ما، فيحدِّدون لذلكَ وقتًا أقلَّ من اللازم، فيقعونَ في الإحباط نتيجةً لعدم الإنجاز، أو أطولَ من اللازم، فيقعون في غَلطة إضاعة الوقت.
حسن توزيع كلِّ عمل على ما يناسبه من الأوقات:
يقول الأستاذ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله[5]: "ومما يحسُنُ لفتُ النظر إليه في شأن الزمن: أن العملَ العلمي يُنزَّل منزلتَه من الوقت الملائم له: فمن الأعمال العلمية ما يصلُحُ له كلُّ وقت وذهن؛ لخفَّته ويُسر القيام به، مثل: النَّسخ، والمطالَعة الخفيفة، والقراءة العابرة، ونحوها مما لا يحتاج إلى ذهنٍ صافٍ، ويقظة تامة، وتفكير دقيق عميق".
"ومن الأعمال العِلمية ما لا يكتملُ حصولُه على وجهه الأتم، إلا في الأوقات التي تصفو فيها الأذهانُ، وتنشَط فيها القرائحُ والأفهام، وتكثُر فيها البركاتُ والنفحات؛ كساعات الأسحار، والفجر، والصباح، وساعات هدأة الليل، والفراغ التام، والسكون الكامل للمكان".
"قال الإمامُ الخليل بن أحمد الفَراهيديُّ -أحدُ عُقَلاء بني آدم-: أصفى ما يكونُ ذهن الإنسان في وقتِ السَّحَر، وقال الزمخشريُّ في أساس البلاغة: وفي كلامِ بعضهم: إذا كان وجهُ السَّحَر، فاقرَعْ علي بابي حتى تعرفَ موضع رأيي".
"وإنما قال الخليلُ والزمخشري ما قالاه عن وقت السَّحر وفضله، حين كان الفجرُ، وما قبل الفجر، وما بعد الفجر، وهو وقت ذروة النَّشاط العقلي، والارتياح الجسمي، في حياة أولئك الناس، أما اليوم فتغيَّرت الحال! فصار هذا الوقتُ عند أكثر الناس أثقلَ الأوقات بالنَّوم والارتخاء، وذهبت عنهم ساعاتُ الصفاء والسُّكون، وذهبَتْ معها نسَماتُ الأسحار، ونفَحات الأبرار".
"جاء في كتاب: الحث على طلب العلم، لأبي هلالٍ العسكري:... ينبغي أن يؤخِّرَ الإنسانُ درسه للأخبار والأشعار لوقتِ مَلَلِه.. وينبغي أن يخادعَ الإنسانُ نفسه في الدرس" (ص [66]).
قلت: يعني بهذا أن الإنسانَ إذا أدرَكه مَلَلٌ، أو لحِقه فتورٌ، فلا يحسُنُ به أن يستجيبَ له، ويقف عن متابعة الدرس والتحصيل، بل يعالِج فتوره، ويغلِب مَلَلَه حتى يتغلَّب عليه، فينقشع الفتورُ والملل، ويأتي النشاطُ والانبساط.
----------
[1] (إدارة الوقت: 113، بتصرف يسير).
[2] (تاريخ بغداد: 12/126، بتصرف يسير.
[3] (تقييد العلم - الخطيب البغدادي: [141]، نقلاً عن: سوانح وتأمُّلات في قيمة الزمن - د. خلدون الأحدب: [79] وما بعدها).
[4] (رسائل الجاحظ، [3/105-106]).
[5] (قيمة الزمن عند العلماء: 100 وما بعدها).
- التصنيف:
- المصدر: