ظاهرة انحراف بعض الملتزمين الأسباب والعلاج
غالبًا من ينشأ في أسرة مسلمة ومجتمع مسلم ليس لديه أي اختيار في كونه مسلمًا، وفي الحقيقة هذه نعمة كبيرة يجب أن نحمد الله عليها ليل نهار، لكن ما أعنيه هنا أننا نحتاج في البداية إلى تجارب عملية ينتج عنها ترسيخ المعتقد..
أولا: الأسباب:
في هذا المقال سأتحدث عن بعض الأسباب التي جعلت كثيرًا من الملتزمين يتركون التزامهم بشكل مفاجئ، أو على مراحل، وأنا أعني بهذا المقال الملتزمين الذين لديهم في الأساس فكر إسلامي ناتج عن تربية إسلامية أو عن دراسة شرعية..
1- البناء العقدي الخاطئ.
ففي الحقيقة هذا هو السبب الأساسي، وربما يكون الرئيسي الذي سأدور حوله بأشكال مختلفة، وهذا البناء العقدي الخاطئ له عدة مسببات أذكر منها ما يلي:
• عدم الاختيار للدين والمعتقد.
فغالبًا من ينشأ في أسرة مسلمة ومجتمع مسلم ليس لديه أي اختيار في كونه مسلمًا، وفي الحقيقة هذه نعمة كبيرة يجب أن نحمد الله عليها ليل نهار، لكن ما أعنيه هنا أننا نحتاج في البداية إلى تجارب عملية ينتج عنها ترسيخ المعتقد، فمثلاً إذا قلت لك أن صعقة الكهرباء أشد ألمًا من حريق النار هذا معتقد لديك لكن تزداد إيمانًا به عندما تصعق بالكهرباء، كذلك في كل الأمور العقدية المتعلقة بمعرفة الله وتوحيده تعلمناها نظريًا وبالتلقي، لكننا في الغالب لم نجتهد في التجربة العملية مع أن الله سبحانه وتعالى في خطابه لنا في القرآن دعانا كثيرًا إلى البحث والتأمل فنجد كثيرًا قل سيروا، وأفلم ينظروا، وأفلم يتفكروا..
بل إن سورة كسورة النحل تتناول بمزيد من التفصيل عرضًا دقيقا لأشياء نعاينها ونشاهدها ليل نهار، ابتداءً من قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64]، والحديث عن النحل والأنعام وقدرة الله وإبداعه في الخلق موضحًا سبحانه ومبينًا للناس مدى قدرته وعظمته، ثم يختم الله هذه الآيات بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل:73]، ففي هذه الآيات تدريب عملي على التفكر في الوصول إلى الله والوقوف على معرفته، وفي القرآن الكثير من هذا الأسلوب، فلو أننا اتبعنا هذا الأسلوب في بناء العقيدة لترسخت لدينا بشكل أكبر وأعمق مما هي عليه.
• التعصب لمؤلفات العلماء في جوانب العقيدة أكثر من اهتمامنا بطرح القرآن لهذه العقائد، فلكم كنت أتمنى أن ننطلق في كل علومنا من قال الله وقال رسوله، بدلاً من أن ننطلق من مؤلفات هي في الغالب مأخوذة من القرآن والسنة، لكن مع مرور الوقت عليها وتقديمها على القرآن والسنة جعلتنا نهتم بها أكثر في الوقت الذي نكتفي بتحفيظ القرآن دون فهم، وعمل المسابقات الدولية والمحلية في حفظه لا في القضايا العقدية والعلمية التي يتناولها.
• الأسلوب التربوي الخاطئ في البيت وفي المدرسة، وحتى في المراكز المتخصصة في تعليم العلوم الشرعية.
• أسلوب بعض العلماء في طريقة التعليم التي جعلت العلوم الشرعية والاقتراب منها أمر صعب وشاق.
2- الحرب الضروس والممنهجة على المعتقدات الصحيحة.
ففي الآونة الأخيرة انتشرت العديد من البرامج التلفزيونية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي تركز على هدم العقيدة الصحية وزعزعتها في عقول المسلمين، واستخدموا في ذلك كل العلوم المتعلقة بالتأثير من علوم نفسية وفلسفية ومؤثرات بصرية وسمعية، وينفقون الأموال الطائلة عليها، ويبثونها ليل نهار، وأظن أن آيات سورة سبأ تناولت هذه القضية في ثلاث آيات من (31 وحتى 33) فقد وصف الله هؤلاء بأنهم يمكرون ليل نهار فقط ليبعدوا الناس عن دينهم {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [سبأ من الآية:33]، وأبسط دليل على كذبهم وحقدهم أنهم يقدمون ما يهدم وفقط، ولا يقدمون شيئًا يبنون به، لأنه ليس لديهم أصلاً، فهو يهدف إلى الهدم والزعزعة معتمدين في ذلك على أساليب احترافية معدة ومجهزة لذلك.
3- تعطل تام لجهاز المناعة.
التكوين الفكري والعقدي يحتاج إلى اهتمام دائم بتقوية المعتقد ومحاربة الأفكار الفاسدة، وإلا سيستسلم إليها العقل بسهولة ليقوم بتغيير المعتقد، وقد أوصى القرآن الكريم قائلاً: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، هذا بالنسبة لجانب التقوية المستمر لترسيخ المعتقدات والمفاهيم، أما عن سهولة هدمها إذا لم يكن هناك حصن منيع فدائمًا ما يحذرنا الله سبحانه من اتباع الشيطان واتباع خطواته، خاصة أننا لا نراه ولا نشاهده، ولقد توعد الشيطان أن يضل الناس وخاصة الملتزمين منهم، حيث قال صراحة: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف من الآية:16]، وهذا الجهاز المناعي معطل لأننا لم نتدرب عليه، ولم نتربى عليه، فمثلاً عندما تسأل من شاب مثلاً هل القرآن كلام الله؟ وما دليلك على أنه لم يحرف؟ أسئلة متوقعة لكن ما هي الإجابة المفيدة والمقنعة؟ وغير هذا الكثير فما هي ردودك؟ بالطبع هناك ردود قاطعة للشك لكن! هل تربينا عليها؟
4- عدم الاجتهاد في البحث الحقيقي للرد على الشبهات المثارة حول الإسلام.
وهذا السبب متعلق بما قبله فإذا كان لدي مشاكل في الاعتقاد وتعرضت للكثير من التساؤلات في الوقت الذي تعطل فيه جهاز المناعة هل أجهد نفسي بالبحث العلمي للإجابة على هذه الشبهات وهذه التساؤلات، أم أتركها تسبح في عقلي لتدمر ما تبقى؟
5- الانخراط في المجتمعات المنحرفة فكريًا وسلوكيًا.
وهذه من أعظم البلايا، ولقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثواب العظيم الذي سيحصل عليه الصابرون والمتمسكون بدينهم في هذا الوقت، ففي الحديث « » (البخاري).
6- اتباع خطوات الشيطان التي حذر الله منها.
وهذا سبب كبير في الانحراف والضلال والعياذ بالله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر من الآية:6]، ومعرفتنا بالشيطان معرفة سطحية وسأتناول بمزيد من التفصل في طريقة العلاج كيف نحمى أنفسنا من الشيطان.
7- الاهتمام بالشكليات والمظاهر في العبادات، وعدم الاهتمام الكافي بالجوهر وتحقيق أهدافها.
8- سقوط القدوة: ففي الفترة الأخيرة ومع الثورات العربية واستغلال علماء الدين بشكل كبير في السياسة نتج عن هذا سقوط كثير من القدوات، وهذا من مخططات الأعداء أن يحطم كل القدوات لتصل إلى أحد طريقين، إما أن تفقد الثقة في الدين كليًا وجزئيًا وهذا متوقف على درجة الإيمان، أو أن تعيش بدون مرجعية شرعية وعلمية ولا تثق مستقبلاً في أحد.
9- الأذى الذي يلحق الملتزمين ظاهريًا ومعنويًا.
فمنذ زمن بعيد والإعلام دائمًا ما يصور الملتزمين على أنهم جهلة ومتخلفون، ومتشددون وغير ذلك مما تسبب في ترسيخ هذه الفكرة لدى العامة جعلتهم يسيئون التعامل مع الملتزمين ويضطهدونهم.
10- الاستسلام لشهوات النفس.
وأخطر شهوة يمكن أن تضر بحياة الملتزم هي الشهوة الجنسية، فمع انتشار العري والإباحية وسهولة الوصول إليها، وعدم التحكم في إطلاق البصر وصد النفس عن المعصية، فقد يتسبب ذلك في الانحراف المتدرج، يعقبه عدم ثقة في النفس، يعقبه ابتعاد عن الدين والالتزام.
11- عدم معاينة غضب الله تعالى وعدم الوقوف على الفرق بين الالتزام والانخراط في الشهوات.
وهذا من أعظم الأسباب التي تجعل الإنسان ينحرف، ولكن الله سبحانه وتعالى بين في سورة الجاثية الفرق بين الملتزم وغيره: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وفي سورة غافر: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]، وفي دنيا الناس لا أجد عقوبة للمعصية أشد من أن تحرم الوصال مع الله، وأن تحرم لذة مناجاته والوقوف بين يديه.
هذا والله أعلم.
في المقال القادم إن شاء الله سأتحدث عن طرق العلاج.
- التصنيف: