عمر بن الخطاب - الفاروق والتخطيط المستقبلي
كان أبو حفص بابًا مغلقا بين الأمة وبين الفتن، فهو يملك نفسًا فريدة في كل شيء، بحيث تجمع بين الخلافة والتواضع.
لا أدري كيف يكون الحديث عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو أعلى من الكلمات، وأجل من العبارات، فهو أكبر من هذا كله.
وليأذن لي أبو حفص بالحديث عن جانب من جوانبه، ذلك الجانب الإداري، فقد كان عجبًا في إدارة الدولة، مضى بها فعبرت معه إلى بر الأمان، حتى صار حائلاً بينها وبين الفتن، ولما سأل عمر رضي الله عنه عن "الفتنة التي تموج كما يموج البحر"، قال له حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: أيُكسر أم يُفتح؟ قال: يُكسر، قال: إذًا لا يُغلق أبدًا"، ولما سُئل حذيفة عن هذا الباب؟ قال: "الباب عمر".
نعم كان أبو حفص بابًا مغلقًا بين الأمة وبين الفتن، فهو يملك نفسًا فريدة في كل شيء، بحيث تجمع بين الخلافة والتواضع، بين إدارة بيت المال والزهد في الدنيا، بين قيادة الجيوش ودموع العابدين، في تناغم واضح لا يتجاوز هذا على ذاك، فمن يقدر على هذا مثل عمر؟
فهو صاحب النفس الطموحة والعقلية الفذة الراشدة، التي عاشت العدل سلوكًا وسيرة، فنظر إلى الأمة من حوله، فأقام فيها العدل، ثم رأى أن هذا ليس كافيًا، وأنّ للأجيال التالية حقا عليه، فلم يهمل المستقبل، ولم يترك دولته مكبلة بالديون، ولا أورثهم أرضًا محروقة، وإنما وضع خطة راشدة لكل ولي أمر، في النظر للأجيال اللاحقة، والعمل لها، مثلما يعمل للأجيال الموجودة، سواء بسواء.
وما أروع قول عمر رضي الله عنه: "لولا آخر المسلمين، ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر"، وفي رواية أخرى يقول عمر رضي الله عنه: "أما والذي نفسي بيده، لولا أن أتركَ آخر الناس بَبَّانًا ليس لهم شيءٌ؛ ما فُتِحَتْ عَلَيَّ قريةٌ إلا قسمتُها كما قَسَمَ النبي صلى الله عليه وسلم خيبرَ، ولكني أترُكُها خِزَانةً لهم يقتسمونها"، قال ابن الأثير: "لأنه إذا قسم البلاد المفتوحة على الغانمين بقي من لم يحضر الغنيمة ومن يجئ بعدُ من المسلمين بغير شيء منها، فلذلك تركها لتكون بينهم جميعهم".
لقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على الناس، إذْ كان عدد المسلمين آنذاك محدودًا، وكانت الفتوحات تتوالى، ولا يزال الإسلام بحاجة لتأليف قلوب الناس، لكن تغير الحال زمن عمر، فاتسعت رقة الدولة جدا، وقويت شوكة الإسلام، ولم يعد الناس بحاجة لتأليف، فاستقرّت الدولة من داخلها، فنظر عمر حينئذ للأجيال اللاحقة، ولم يحرمها من عدله وتفكيره، وأراد أن يضمن لها حياة كريمة، وأن يسلمها راية مرفوعة عزيزة قوية، غير مكبلة بالديون الخارجية أو الداخلية.
ولم تكن تقنعه أنصاف الحلول، وانظر إليه يقول: "لئن سلمني الله، لأدعنّ أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدًا"، فهو يفكر في حلول نهائية دائمة وليست مجرد مسكنات وقتية، وإنما يضع الحلول الكبيرة ويثق في أن الله معينه على تنفيذها، كيف لا وهو راوي حديث: «
» (سنن الترمذي).وهذه العقلية الفذة، والإيمان العميق بحقوق الإنسان الموجود، وحق الأجيال اللاحقة، هو ما جعل خطوات الدولة الإسلامية تختلف عن خطوات غيرها من الدول، ففي الدولة الإسلامية تحدث التغيرات الكبيرة في الأزمنة القليلة، وقد غيّرت وجه الدنيا في سنوات معدودة، ولك أن تتخيل أن هذا الاتساع الهائل في الدولة الإسلامية زمن عمر، وهذا الميراث العظيم من العدل والإدارة قد صنعه عمر في عشر سنوات هي مدة توليه الخلافة، وستعجب أكثر عندما يتولى أحد أحفاده الخلافة وهو عمر بن عبد العزيز، فتمتلئ خزائن الدولة، ويفيض المال.
كل هذا يحدث في فترات قصيرة، مما يدل على أهمية العقلية الإبداعية، التي تسعى لوضع الحلول والخطط السحرية غير التقليدية، وهذا يوفره الإسلام في نفوس أتباعه الجادين في إيمانهم، لما يوفّره الإسلام من حاضنة لصناعة مثل هذه الشخصيات الإبداعية، وهنا تكمن معركتنا مع الآخر الذي يريد تكبيل حريتنا لسد آفاق الإبداع أمامنا، ونحن نطالب بالإسلام لأنه ديننا وطوق نجاتنا، والله الهادي.
- التصنيف: