والله لتُسألن عن مواقع التواصل
شئنا أم أبينا أصبح هنالك عالم كبير ضخم، مترامي الأطراف متشعب الأوصال، سهل المنال شديد الإقبال، فرضه الواقع والتطور الهائل المتسارع، في تكنولوجيا وتقنيات الشبكة العنكبوتية، بات يُعرف بعالم (مواقع التواصل) تضم العديد من المواقع المتنوعة... هذا العالم المتداخل، وتلك التقنية المنتشرة، كسائر الوسائل المستخدمة في حياتنا اليومية؛ سلاح ذو حدين إما أن ينفعك في دينك ودنياك، إن أحسنت استثماره واستخدامه واتقيت الله فيه وجعلته نصب عينيك، وراقبته في كل حرف أو نظرة أو تغريدة أو مشاركة، بخلافه سيكون وبال عليك وستندم على كل لحظة قضيتها فيه.
الحمد لله مسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، والصلاة والسلام على النبي الحبيب والآل والأصحاب، وبعد:
شئنا أم أبينا أصبح هنالك عالم كبير ضخم، مترامي الأطراف متشعب الأوصال، سهل المنال شديد الإقبال، فرضه الواقع والتطور الهائل المتسارع، في تكنولوجيا وتقنيات الشبكة العنكبوتية، بات يُعرف بعالم (مواقع التواصل) تضم العديد من المواقع المتنوعة.
بعيدًا عن فكرة المواقع التجارية والاجتماعية ومؤسسيها، وطريقة عرض البيانات وأرشفتها وسرعة التواصل، وما فيه من وسائل استخباراتية، ينبغي علينا نحن المسلمين أن نقف عدة وقفات ضد الأفكار التي قد تمس عقيدتنا وأخلاقنا وديننا وشرعنا الحنيف، ولا بد من التأمل فيه من جوانب متنوعة، وإعادة النظر في طريقة وكيفية وآلية الاستخدام، بعد أن استغرقنا في استخدامه، حتى وصل إلى حد الإدمان في حالات كثيرة.
مواقع التواصل سلاح ذو حدين:
مما لا شك فيه أن هذا العالم المتداخل، وتلك التقنية المنتشرة، كسائر الوسائل المستخدمة في حياتنا اليومية؛ سلاح ذو حدين إما أن ينفعك في دينك ودنياك، إن أحسنت استثماره واستخدامه واتقيت الله فيه وجعلته نصب عينيك، وراقبته في كل حرف أو نظرة أو تغريدة أو مشاركة، بخلافه سيكون وبال عليك وستندم على كل لحظة قضيتها فيه.
فكل ما فيه مُسطّر مؤرشف مسجل موثق، لدى الشركة المؤسسة على هاردات وسيرفرات ضخمة غير محددة السعة، فقد يتم التلاعب بها أو الاختراق أو التغيير، لكن هنالك أرشيف وسجلات محفوظة عند رب الأرض والسماوات، لا تتغير ولا تتبدل، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:9-11]، "من الأفعال قليلاً كان أو كثيرًا ويضبطونه نقيرًا أو قطميرًا" (تفسير الآلوسي).
فالله الله في استثمارها بأحسن الأوجه وأنفعها وإياك ومغرياتها، فإما تكون نعمة تحصد ثمارها في جنات النعيم، أو تصبح نقمة تجني ويلاتها في أسفل سافلين -عياذًا بالله- فهي بين النعمة والنقمة، والنتيجة إما {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54-55]، وإما {في ضَلَالٍ وَسُعُرٍ . يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:47-48]، نسأل الله العافية.
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور:
فلا يقل قائل لعلي أشترك بحساب وهمي في تلك الصفحة، وبالتالي أغوص فيه بما لذ من المحرمات والمنكرات والعلاقات المشبوهة والصور المنكرة والمقاطع الماجنة! بلا رقيب ولا حسيب، أو قد أفتح صفحتي من جهازي المحمول أو الآيفون، فلا يراني أحد كلا وحاشا.. فمن خلقك وخلق الكون بأسره مُطّلع على كل حركة وسكنة، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5]، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: "يا ويلتنا ضجوا إلى الله من الصغائر قبل الكبائر".
قال سبحانه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، "وهذه الآية عبارة عن علم الله تعالى بجميع الخفيات، فمن ذلك كسر الجفون والغمز بالعين أو النظرة التي تفهم معنى، أو يريد بها صاحبها معنى" (تفسير ابن عطية)، وقال مجاهد: "خائِنَةَ الْأَعْيُنِ: مسارقة النظر إلى ما لا يجوز" (تفسير ابن عطية).
والله لو كانت هنالك مراقبة حقيقية لله عز وجل لما تمادينا بكثير من المعاصي التي تتعلق بهذه الصفحة التي باتت فتنة، لم يسلم منها إلا من رحم الله، تأملوا أن الله عز وجل يعلم: {مَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، "مما لم يبينه العبد لغيره، فالله تعالى يعلم ذلك الخفي، فغيره من الأمور الظاهرة من باب أولى وأحرى" (تفسير السعدي).
إذا ما خلوْتَ، الدّهرَ يوْمًا فلا تَقُلْ *** خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ ساعة *** وَلا أنَ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيب
لهَوْنَا لَعَمرُ اللّهِ حتى تَتابَعَتْ *** ذُنوبٌ على آثارهِنّ ذُنُوبُ
مواقع التواصل منبر خطابة:
تخيل وأنت في طريق سفرك مررت بقرية أو مدينة أو ناحية قبيل صلاة الجمعة، وانتدبوك للخطابة إذ تخلف خطيبهم، أو كنت في مجلس فيه عشرين أو ثلاثين أو أكثر أو أقل وتركوا لك الحديث، بالله عليك هل يستقيم أن تتحدث عن سفاسف الأمور! أو تتكلم عن أشياء لا تسمن ولا تغني من جوع! أم أنك ستحرص على ذكر ما هو نافع ومفيد للحضور.
فكم صديق ومتابع لديك في صفحتك (100، 500) أكثر أو أقل، وكل صديق له أصدقاء فكل ما تكتبه أو تنشره من صور ومقاطع فيديو أو مشاركات، سيطلع عليه ولو نسبة ضئيلة من هؤلاء على أقل تقدير، فكأنك في مجلس أو منبر خطابي وطرحت فكرتك وكلماتك أمامهم، فهل من العقل مثلاً الطعن في العلماء أو استثمارها في الغيبة والنميمة والكذب؟! وهل من الأدب والأخلاق نشر الصور الماجنة والمناظر المشينة أو كتابة تغريدات بعيدة عن الحياء والعفة؟! وهل من الفطنة والكياسة تضييع الأوقات بقضايا هابطة بعيدة عن أدنى القيم؟!
فلا تخرج منك إلا الدرر والنفائس، ولا تُسطر يداك إلا الفرائد والعبر، فـ« » كما قال عليه الصلاة والسلام (حديث حسن انظر صحيح الجامع برقم:3289)، وليكن شغلك الشاغل في صفحاتك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تسكت عن منكر أبدًا، ولا تبخل بنشر معروف إطلاقًا، فأنت مؤتمن وإياك والمجاملة على حساب الدين أو الخوض مع الخائضين والتمادي في أعراض المسلمين.
ولما كانت تلك الصفحات منبر خطابة، فإياك أن تكون كالشمعة التي تضيء لغيرها وتحرق نفسها، فكثير من الناس ينشرون كلمات طيبة وحِكم جميلة وقصص معبرة، لكن سلوكه على أرض الواقع مغاير وفعاله مخالفة، فيخشى على كثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي أن ينطبق عليهم قول ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2].
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عـــظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فـــــإذا انتهت فأنت حــكيم
فهناك يُسمع ما تقول ويُشتفي *** بالقول منك وينفع التعليم
ولخطورة الأمر لنتأمل معاً حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وعقوبة الخطيب الذي خالفت أقواله أفعاله، يقول عليه الصلاة والسلام: «
فالحذر كل الحذر من مخالفة التغريدات الأفعال، ومباينة الأقوال حقيقة ما نحن عليه بأرض الواقع، وألا نكون كالمنافقين الذين { } [البقرة:9]، وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام محذرًا من هذه الظاهرة الخطيرة التي أشبه ما تكون بالفصام النكد: « » (صحيح الجامع برقم:5831)، فكل من بلغ آية أو حديثًا أو موعظة وحكمة وفائدة فهو عالم بها، ينبغي عليه تطبيقها حتى تلقى صدى حقيقيًا وتخرج من القلب إلى القلب.
إياك والخوض مع الخائضين:
كثير من مستخدمي مواقع التواصل أو عموم الشبكة العنكبوتية، يريدون إثبات وجودهم من خلال الإدلاء بالرأي في كل شيء، أو نشر ما هب ودب، وتناقل المقولات والأخبار والقصص بل بعض الأحيان الأحكام الشرعية وغيرها دون أدنى تثبت أو روية، مما يوقع الكثير في المخالفات الشرعية التي بعضها يصل إلى الكفر أو الفسق أو البدعة والمعصية دون معرفة أو استشعار.
ما ينبغي أن نحرص عليه هو التثبت أولاً مما نكتبه وننشره، وتمحيص ما نقرأه ونطلع عليه، وغربلة ما نتناقله عبر التغريدات أو حتى الرسائل الخاصة، والتحقق ومطابقة ما نود التعليق عليه أو الإعجاب به، هل هو حق أو باطل، صدق أو كذب، موافق أم مخالف للشرع؟!
مما لا شك فيه أن عالم الإنترنت عالم كبير مفتوح يحوي الغث والسمين، الصالح والطالح، النافع والضار، فمن ليس لديه حصانة شرعية أو حصافة فكرية أو تعامل عقلاني، فإنه سيزل لا محالة، لذلك يجب أن لا نستعجل في تناقل كل ما هو منشور دون روية أو تأني، ولا حتى الإعجاب بكل ما هو منشور تمشيًا مع أهواء الناشر، أو بحسب اسم الناشر ومدى قربنا منه ومحبتنا له، فالحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله.
احرص على استقلاليتك وشخصيتك الواضحة بعيدًا عن التقليد الأعمى، ولا تكن إمعة إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت معهم، ولا تُعجب إلا بكل ما هو حق، ولا تجامل على حساب دينك، ولا تنقل كلمة أو معلومة حتى تعرضها على شرع الله، فإن وافقت فلك بذلك الأجر وإن خالفت فستحمل وزر كل من يقرأها أو يطلع عليها ويتضرر منها.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كنّا في الجاهليّة نعدّ الإمّعة الّذي يتبع النّاس إلى الطّعام من غير أن يدعى، وإنّ الإمّعة فيكم اليوم المُحقِب دينه" (المحقب: هو الذي يضع دينه في حقيبة غيره، كأنه هو الذي يوجهه).
يقول اللّيث: "رجل إمّعة يقول لكلّ أحد: أنا معك، ورجل إمّع وإمّعة للّذي يكون لضعف رأيه مع كلّ أحد".
كم رأينا أخوة أفاضل وأخوات فضليات سارعوا لنقل ما بلغهم دون تمحيص، فوافقوا باطلاً وأيدوا محرمًا! بحسن نية دون قصد منهم، وكم شاهدنا من أحبابنا من أعجب بتغريدة فيها مخالفة دون دراية منه، والبعض قد نشر بدعة أو سكت عن باطل نتيجة للاستعجال.
كل أمتي معافى إلا المجاهرين:
احذر أخي رعاك الله أن تجهر بأي معصية أو ذنب أو مخالفة شرعية في صفحتك؛ من خلال نشر الصور المخلة أو المقاطع الفاضحة، وكذلك نشر الأغاني والموسيقى والكلمات المحرمة، فالعجب كل العجب ممن يتباهى بنشر الرذيلة ويفتخر بإشاعة الفاحشة، والحذر كل الحذر من نشر صور أو تغريدات خاصة فيها مجاهرة بمعصية أو خطيئة.
يقول عليه الصلاة والسلام: « » (صحيح الجامع برقم:4219).
وهنا لا بد من التنبيه على بعض الصور المنشورة كتوقيع أو خلفية تخدش الحياء، أو صورة امرأة سافرة متبرجة، وقد وقع هذا الأمر من قبل بعض الأخوات، وحتى لا تضع صورتها فتقوم بنشر صورة امرأة فاتنة متبرجة فتفتن غيرها، وعليها بذلك وزر كل من نظر إليها، لذلك يجب التنبه لهذه القضية وعدم التساهل والتهاون بها.
فمن ابتلاه الله بمثل تلك المعاصي والإدمان عليها، يجب عليه التوبة منها وعدم نشرها والافتخار بها وهتك ستر الله عليه، عندها يتعدى ضرر وأثر تلك المعصية إلى غيرك بعد أن كانت متعلقة بك فحسب.
اغتنم أوقاتك:
كثير من الناس أصبح لديه إدمان وإفراط في استخدام تلك المواقع، حتى أصبح يستيقظ معه وينام جنبه، قبل الطعام وبعده.. قبل الصلاة وبعدها.. حتى منعه من تلاوة القرآن وأداء الصلوات في وقتها، وشغلته تلك الصفحات عن أعماله ومهامه الدنيوية، بل الدينية لمن كان لديه طلب علم أو دعوة إلى الله أو ما شابه، حتى أصبحت غاية لدى الكثيرين مع أنها لا تعدو أن تكون وسيلة!
يقول عليه الصلاة والسلام: « » (حديث حسن، انظر صحيح الجامع برقم:7299).
ولا أبالغ إذا قلت أن صفحات التواصل جمعت هذه الأمور الخمسة، فهي أصبحت جزء من العمر لأنك تقضي أمامها الساعات الطوال أو أقل من ذلك، والغالب على الشباب المتحمس استخدامها فاعدد لذلك جوابًا عند الله! كما أن تلك الصفحة تحتاج للإنترنت وهذا قطعًا تُصرف عليه أموال، فكما أنك ستسأل من أين اكتسبتها كذلك تسأل كيف أنفقتها! وتلك المواقع تعتبر موسوعة علمية وبستان لتبادل المعلومات بيسر وسهولة، فكل معلومة تقرأها سوف تكون عليك حجة يوم القيامة ماذا عملت بها؟!
وكتب بعض السلف إلى أخ له: "يا أخي يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، تساق مع ذلك سوقًا حثيثًا، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكار عليك".
قال بعض الحكماء: "كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته".
فلا تضيّع وقتك مع تلك المواقع إلا بكل خير، ولا تستهوينك فإنها مغرية ولا تخدعنّك فإنها براقة، وليكن وقتك مقسمًا مرتبًا مجدولا ولا تلتفت إلا لما ينفعك في دينك ودنياك، واجعلها جسر مودة ومحبة وصلة رحم ودعوة وطلب علم، ولا تجعلها مكان خصومة وجدال ومِراء وقيل وقال.
اغتنم في الفراغ فضل ركوع *** فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت من غير سقم *** ذهبت نفسه صحيحة فلتة
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم ارحم في الدنيا غربتنا، وارحم في القبر وحشتنا، وارحم موقفنا غدا بين يديك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أيمن الشعبان
داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.
- التصنيف: