الهزيمة النفسية
لقد استسلمت بعض بلاد الشام بسبب الهزيمة النفسية التي استولت على الكثير من النفوس حين كانت أخبار مذابح التتار تسبق قدومهم، ثم استطاع قطز وبيبرس – بفضل الله – الانتصار عليهم ودحرهم وكسر شوكتهم في عين جالوت.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قد ينكسر الضعيف أمام القوي بسبب التخييل، ويحدث نوع من الشعور بالإحباط والدونية بسبب سياسات التهويل والتهوين، مما يساعد شياطين الجن والإنس – على ضعفهم – من التسلط على بعض المسلمين، ومع ضعف البصيرة أو غيابها قد يستحكم الأمر في حياة الأفراد والدول والجماعات، وننتقل من هزيمة نفسية إلى هزيمة في ساحة الحرب، بحيث يستولي العدو على البلاد والعباد، وتضيع معالم الحق والحقيقة.... وإليك بعض صور الهزيمة النفسية:
هزيمة القيم والأفكار والمبادئ:
سنة لعق الأصابع بعد الطعام: حدث أن ركب مسلمٌ السفينةَ مع بعض الأجانب، وبعد أن فرغ من تناول الطعام ، استحيا أن يلعق أصابعه خشية أن يُتهم بقلة الذوق أو عدم مراعاة معاني الإتكيت، ولكن ما أن فرغ الأجانب من تناول الطعام حتى قاموا بلعق أصابعهم، فأسقط في يده، فيا ليته كان سباقاً في تطبيق السنة، وبدلاً من أن يكون متبوعا في العمل بها صار تابعا للأجانب.
مصافحة المرأة الأجنبية والاختلاط والتبرج: ومن صور الهزيمة النفسية ما نراه من مصافحة المرأة الأجنبية والاختلاط والتبرج وإدخال المرأة الرجلَ المنزل في غياب زوجها... يحدث ذلك بسبب وطأة العرف والواقع وادعاءات المعقولية، وفعل الأغلبية والكثرة،ومجاراة الآخرين، والخطورة أن هذه المخالفات تحدث عن علم بالآثار والسنن، ولا سبب لذلك إلا ضعف الإيمان واليقين، وإلا فمع قوة العزائم يثبت الإنسان على الحق، ولو كان وحده، ويقول لنفسه: اسلك طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
ملكات الجمال والموضة والمشاهير: وفي نفس الإطار تم الترويج لمسابقات ملكات الجمال، وصارت الحياة متابعة للموضات والتسريحات، وانخدعت شعوب العالم الإسلامي وغيرها بمشاهير الراقصين والمغنين والممثلين والرياضة! بريق يكاد يخطف الأبصار ، وينسينا الحقيقة التي خلقنا لأجلها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56].
وتراجعت بسبب ذلك معاني الإيمان ومكانة علماء الدين بسبب هذه الهجمة الشرسة عند الكثيرين.
هزيمة المعتقدات
الخجل من المصطلحات الشرعية: وإذا كان البعض يخجل من إظهار بعض شعائر الإسلام كاللحية والنقاب... فالبعض الآخر هزيمته تتعلق بأصل الدين، فلا يمكن أن يتكلم بكلمة الإسلام الواضحة، وإذا اضطر استخدم كلمة الأديان السماوية، وهكذا تشوه الحقائق، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (آل عمران: 19).
الهزيمة السياسية و الحربية: لقد استطاع الأعداء أن يخيلوا على ضعاف البصر والبصيرة من هذه الأمة، ويوهموهم أنهم القوة التي لا تقهر، وأنهم أصحاب النظام العلمي والشرعية الدولية، بيدهم تدمير العالم، كأنهم يقولون للشيء كن فيكون، وكأنهم يعلمون دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وصدَّق التُعساءُ ذلك ممن تناسوا شريعة ربهم والواقع من حولهم، وأجاد الآخرون هذه الصنعة، فصوروا استخباراتهم على أنها أولى استخبارات العالم، وأنهم يمتلكون القنبلة النووية، كما يمتلكون الذراع الطويلة، وحبكا للقصة يصورون هذه المعلومات وكأنه قد تم تسريبها – رغم أنوفهم – . ثم إن الأعداء مثلهم كمن يصدر لنا ضعفه، وكما يقال: رمتني بدائها وانسلت. يقول العليم الخبير: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت :41). فلا حيلة لهم في مواجهة الزلازل والأعاصير والفيضانات التي تجتاحهم، كما أنهم لا يثبتون في مواجهة المؤمنين الذين يتسلحون بسلاح الإيمان، فقد كان الروم يفرون من المعركة إذا سمعوا بمجيء خالد بن الوليد – رضي الله عنه - ، وامتلاك الأقمار الصناعية والأسلحة الفتاكة العصرية لم يغير شيئاً من الواقع والحقيقة، فالقتال في المعركة أولا وأخيرا يحتاج إلى رجال باعوا أنفسهم لله – عز وجل - شأن أواخرهم كشأن أوائلهم ، انظر لفعل ربك بقوم عاد الذين قالوا : من أشد منا قوة؟ لقد سخر الله عليهم ريحا صرصرا ولم تبق منهم باقية!. وكذلك ثمود وفرعون .... وغيرهم من الجبارين {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ . وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ . وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ . الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ . فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ . إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6-14] فالكافر مهما تبجح بجبروته وعنفوانه لا يستطيع أن يخفي قصوره وعجزه أمام خالق الأرض والسموات :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر15).
خطورة الغزو الفكري: لقد انتبهت الدول لخطورة الغزو الفكري، ولذلك فهي تنفق الملايين وتنشئ الوزارات للإعلام تحصينا لأبنائها من هذا الغزو، ولمحاولة إلحاق بالهزيمة النفسية بالخصوم، وكانت ألمانيا أيام النازية رائدة في هذا المجال وقت الحرب العالمية، ونحن بدورنا بحاجة للتعرف على أساليب هذا الغزو، وتحصين المسلمين من الطابور الخامس وتخذيل الأعداء، كما صنع النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزوة أحد، والحرب خدعة، فالأعداء يشيعون شائعة الأمن لكي نسترخي ولا نستعد،ويشيعون شائعة الخوف لكي نرتعد ونجبن: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175).
لقد استسلمت بعض بلاد الشام بسبب الهزيمة النفسية التي استولت على الكثير من النفوس حين كانت أخبار مذابح التتار تسبق قدومهم، ثم استطاع قطز وبيبرس – بفضل الله – الانتصار عليهم ودحرهم وكسر شوكتهم في عين جالوت.
ما السبيل ؟
لا سبيل للخروج من هذه الحالة المزرية إلا بالعودة الصادقة لمنهج الأنبياء والمرسلين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8).
لقد واجه الأنبياء أممهم بدعوة الحق غير هيابين ولا وجلين، وما انكسرت نفوسهم في مواجهة الأباطيل، وكان لسان حال نبيكم ينطق : والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه، عرضت عليه قريش الملك والمال والجاه والتطبيب إن كان به علة، فما لانت له قناة في مواجهة الشرك وأهله. وما ضعفت نفس نبي الله إبراهيم - عليه السلام - من قبلُ وهو يدعو أباه وقومه، يُقذف في النار فيقول :حسبي الله ونعم الوكيل، تتزلزل الجبال ولا تتزحزح معاني الإيمان في نفوس الأنبياء، لما أدرك فرعون نبي الله موسى ومن آمن معه فكانت الهلكة محققة، وفرعون وجنوده خلفهم، والبحر أمامهم، فقالت بنو إسرائيل : إنا لمدركون، قال نبي الله موسى : كلا إن معي ربي سيهدين، والأتباع لهم حظهم ونصيبهم من صلابة النفس وانتصارها في جميع الميادين: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} (غافر :51).
لقد أدرك الأفاضل الغاية التي لأجلها خلقوا ولذلك كانت رباطة الجأش في أحرج اللحظات، طالعوا قصة عبد الله بن حذافة السهمي وخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وأنس بن النضر وعاصم بن ثابت، وكان خالد بن الوليد يقول للروم : جئتكم بقومٍ هم أحرص على الموت منكم على الحياة، وكان ابن تيمية في محبسه بالقلعة بدمشق – يقول ما يفعل أعدائي بي؟ أنا سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
ولما أغلق عليه باب السجن قال : فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة – وهو الذي يليه – وظاهره من قبله العذاب – وهو الذي يليهم -.
إن هذه الأمة عندما تتمسك بشرع ربها لا ترهبها صولة الباطل، ولا يؤثر فيها الغزو الفكري، فلها طبيعتها الخاصة، التي تفترق بها بين شعوب يفرون من المعارك، لأنهم أحرص الناس على حياة، وتمتلئ بهم المصحات النفسية، لأن الدنيا هي كل همهم ومبلغ علمهم.
إن المؤمن الذي يصل الأرض بالسماء، والدنيا بالآخرة يستعصي على الهزيمة النفسية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (الطلاق:2- 3).
وقد يعاني المصائب والمحن ولكن شعاره : {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق :7).
فالمسلم يعلم أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا، فيستبشر الخير وقت الشدة، فلا يأس ولا قنوط من رحمة الله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى 28).
واستضعافه اليوم ليس نهاية المطاف، فسرعان ما يزول بإذن الله، ويتمخض عن إمامة في الدين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص 5).
المسلم تحتوشه الشياطين فيجأر إلى الله، ويكثر من ذكره سبحانه، ويستشعر ألا حول ولا قوة إلا بالله، فتتضاءل شياطين الإنس والجن بعد انتفاشها، وتعود مدحورة حقيرة وذليلة.
وهكذا فالمؤمن له شأن وللناس شأن: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21).
وأخيرا فإن الله عز وجل يقول: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
- التصنيف:
- المصدر: